بَهَاءُ الدّيْن : في ذِكْـرى وَزيـْر الكتمان

 


 

 

 


أقرب إلى القلب :

Jamalim1@hotmail.com
لم أكن أعرفه ولا هو يعرفني، حين كان وزيراً مهمّاً، من وزراء الرئيس الأسبق الراحل جعفر نميري (1932-2011). رجل أكسبه الغموض الذي أحاط بمهمته- وزيراً للشئون الخاصة- هالة من الخطورة والأهمية والنفوذ. لم يختره نميري للوظيفة، إلا بعد أن رصد في الرجل اهتماما بالتدقيق في كل صغيرة وكبيرة ، من ضبط للوقت وإعداد للمذكرات ، وإبداء الهمة الحصيفة في الأداء، والإنجاز الخالص، مع ميل للعناية بالأناقة والاتيكيت، وعموم متعلقات المظهر الشخصي اللافت.
إنه الراحل، الوزير السابق بهاء الدين محمد إدريس. .
لا .. لست معنياً بالتوثيق للرجل، ولا لاستعراض سيرته ، فلست مدافعا ولست مهاجما، بل ولن أكون معنيا بما شاع من قصص دارت حول الرجل، وإن لم تغب عن كتابتي هنا تلكم الانطباعات التي تباينت عند أكثر من اقتربوا منه. بين هؤلاء مهمّون كانوا وزراء مثله ، وربما أكثر أهمية منه وخطورة، وبينهم أيضاً من هم أقل أهمية وخطورة وتأثيرا.

لكَ أن تسأل : ما الذي دفعني لأكتب في ذكرى رحيل هذا الرجل، وإنه لسؤال مشروع. غير أني استميح من يقرأني هنا أن يتمهّل قليل التمهل حتى يبلغ معي نهاية مقالي. .


(2)
على أيامي نائبا لرئيس البعثة بدرجة سفير في سفارة السودان في لندن، درجنا على معالجة بعض قضايا قنصلية لمواطنين سودانيين، لها أبعاد قانونية، فنستعين بمتخصصين في القانون من أبناء السودان وبناته لمساعدة السفارة في تيسير تقديم تلك الخدمة . الأستاذة "هدى" من بين من سعت السفارة للاستعانة بهم في بعض قضايا الحقوق الخاصة بالسودانيين، ولم تكن تتلقى نظير خدماتها شيئا يذكر ، بل كان يكفيها ذلك الإحساس النبيل بأنها تقدم خدمات قنصلية وقانونية لبعض أهل بلادها..

في مرة ، وفي حديث عابر ، أستفسرتها عن رجل صادفته منتظرا في محطة لبصات لندن، تقع مقابل فندق الدورشستر الفخم، بدا لي شكله وهيئته سودانيا . حين وصفت لها بعض ملامحه ، هتفت :
- لعل الذي صادفته ، هو دكتور بهاء. .
- الوجه القمحي؟ والملامح الدقيقة ؟ والنظارات الطبية ..؟ لعله هو..!
كنت أعرف أن دكتور بهاء يعيش في العاصمة البريطانية منذ سنوات ، ولكن لم يقل لي أحد في لندن من السودانيين الذين أعرف، أنه التقاه، أو صادفه في أي من الأمكنة المعتادة التي يرتادها السواح أو يتجول فيها السودانيون الزوار أو المقيمين. برغم جولاتي الطويلة في أنحاء لندن لم أصادف في أي مناسبة دكتور بهاء الدين محمد إدريس. لا في حديقة "هايد بارك" ولا في شارع العرب ولا في شارع أوكسفورد ملاذ المتسوقين، ولا في مدرسة السبت التي يتجمع فيها لفيف من السودانيين وأسرهم. لا . إنك لا ترى دكتور بهاء يخالط أحدا في لندن.

قالت لي الأستاذة "هدى" :
إن رغبت أن تلتقيه سأسعى لك في ذلك. .
أن التقي رجل "ثورة مايو" الغامض الكتوم. .؟ من يرفض. .؟


(3)
في فندق لا يبعد عن ملاعب "لوردز" الشهيرة، في منطقة "سانت جونز وود"، التقيته هناك. جئت قبل مجيئهما هو والأستاذة هدى بدقائق. تقدم نحوي الرجل في كامل هيئته التي درجنا أن نراه عليها في الخرطوم ، وقت أن كان غموضه أكثر من أناقته، هو حديث الناس، وحديث الوزراء على حدٍّ سواء.

لم يخرج حديثنا عن الأحوال العامة في بلادنا ، وإن كنت ألحفظ تحفظه في الاستطراد ، وقد كانت أزمات النزاعات طاغية في ساحتنا السودانية ، في جنوب البلاد، وفي غربه في دارفور. وتشعّب الحديث مع دكتور بهاء، عن الأحوال في الساحة العربية ، وخاصة العراق. مثلما لمسنا أوضاع السودان ، تحت الحكم الحالي ، متمنياً أن تنعم البلاد باستقرارٍ، تنهض عبرها إلى مصاف البلدان الفتية في القارة الأفريقية.

كنت خلال حديثي معه ، لا أكف عن التطلع إلى ملامح الرجل الذي رادودني شعور خفي أنه غير الرجل الغامض الذي سمعنا ، وحكوا عنه ما يثير الجدل. حدثني الرجل عن عزوفه عن مخالطة السودانيين في لندن، وعبّر عن ذلك الميل دون استفاضة وبلا مبررات، فهو الحريص أن لا يقف موقفاً يسمع فيه كلمة جارحةمن أحد، أو أن تخرج منه كلمة جارحة ، يتأبى طبعه أن يوجّهها لأحد. . افترقنا على وعد أن نلتقي ثانية.


(4)
كنت وحدي معه في اللقاء الثاني.
جاء كعادته أنيقاً مكتمل الأناقة، يسبقه هدوءه ورقة حديثه المرحّب. فاجأني هذه المرة أن حمل إلي هدية متواضعة . . علبة ملفوفة بورق الهدايا ، قال لي:
إنها شيء بسيط للأولاد. .
تحدثنا طويلا عن أحواله الخاصة ، وطلبت منه إن احتاج شيئا يتصل بأوراقه الثبوتية أو جواز السفر السوداني وما شابه مما قد يحتاجه طالبي اللجوء من السودانيين.لكنه كان غير راغب، بل بدا لي أنه مرتاح في إقامته في لندن . كنت قد تمنيت أن يكون قد شرع في كتابة ذكرياته عن تجربته اللصيقة بالقيادات السودانية خلال سنوات "مايو"، لكنه لم يؤكد لي إن فكر في ذلك. تناولنا أمورا عديدة أخرى غير أن وعدي له القاطع أن يبقى الذي بيننا طي القلوب فلا يخرج، لا يحملني على الاستطراد ، والرجل في ذمة الله.

استغرقتْ جلستنا في ذلك الفندق في ضاحية "سانت جونز وود"، نحو ساعة أو أكثر. بعد أن خرجنا من الفندق وعبرنا البهو، اقترحت عليه أن أقله إلى مقصده بالسيارة التي تحمل الرقم الدبلوماسي لسفارة السودان، والتي كنت أقودها وحدي وما معي سائق، لكنه اعتذر بشدة برغم إلحاحي، فتفهّمت موقفه. .
حين وصلت بيتي ، فرح الأولاد بالشيكولاتة السويسرية الراقية الشهيرة، وقلت لهم أنها من صديق لي، إسمه بهاء الدين محمد إدريس..


(5)
قبل نحو سنوات سبع من الآن، في 11 يونيو من عام 2011، غادر د. بهاء إلى رحلته السرمدية ، خرج من الدنيا إلى رحاب الله . أنا واثق أن رجلا مثله قد أعد العدة ليوم مغادرته ، ورتب كل شيء . وترك وراءه الأناقة والهدوء والابتسامة، وفوق ذلك الغموض الذي يدركه خالقه . ألا رحم الرحمن عبداً من عباده لم يؤذِ بلسانه أحدا، ودفع بشخصه بعض أخطاء نظام تحمل أوزاره، إن كانت ثمة أوزار. من منا لم يكن يعلم أن محاكمة الرجل، كانت محاكمة رمزية لنظام كامل. . من سماه تندرا مستر 10% لا أظنه يتصور أن يحيا إلى زمن يسمع فيه بمستر 100%...


11 مايو 2018

 

آراء