تأصيل الإقصاء، هو أصل البلاء
وضعت سفينة نيفاشا مراسيها بعد إبحار عاصف. بذلك حقق كل من طرفي الاتفاقية مراده، ذهبت الحركة الشعبية بالجنوب الذي كانت منفردة بحكمه طوال الخمس سنوات الماضية، الي دولة مستقلة بكامل سيادتها. كما انفرد المؤتمر الوطني بحكم السودان المتبقي ولو الي حين، ذلك مع تصاعد موجات المطالبة بتقرير المصير من مناطق السودان المختلفة وكأن الانفصال هو العصا السحرية لحل المشاكل المستعصية في البلاد. ربما أعطي التنظيم الممتاز، الذي أدهش المراقبين لعمليات الاستفتاء في الجنوب والزخم الذي تم به وما صاحبه من حماس، ربما أعطي قوة دفع للدولة الوليدة في الجنوب لتلملم أطراف خلافاتها وتواجه التحديات الكبيرة التي تنتظرها بنجاح يجنبها الفشل الذي يتوقعه لها كثير من المراقبين والمتربصين. لم يكن انفصال الجنوب حدثا طبيعيا او بسيطا كما يعتقد البعض وإنما حدثا جسيما وستكون نتائجه علي قدر ما يستحق من مكانة في التاريخ.
اكبر التحديات التي ستواجه البلاد في الشمال والجنوب ستكون اقتصادية، لان في الاقتصاد يكمن أصل الفقر والتهميش، عدم تساوي الفرص سواء كان بسبب عدم التنمية المتوازنة، انعدام عدالة توزيع الدخول والثروة التي أدت الي زيادة معدلات الفقر والبطالة واختلال مؤشرات الاستقرار الاقتصادي ومفاقمة أثارها الاجتماعية. زاد من كل تلك الآثار حدة الاستقطاب السياسي وتأصيل الإقصاء في كل ركن من أركان الحياة وفي أي موقع من البلاد. الاحتقان الذي حدث جراء التهميش والإقصاء ظل يتراكم منذ فجر الاستقلال ولكنه اخذ شكلا أكثر حدة خلال العقدين الأخيرين ولم تنجح اتفاقيات السلام الشامل من التخفيف منه بل، وفي بعض الأحيان عمقت المشكلة، باعتبارها مثالا للاخرين في جانبها السلبي الذي أدي الي الانفصال. بهذا الشكل يتحمل طرفي نيفاشا وزر الانفصال وما تنتج عنه من تداعيات.
لتجنب الأسوأ يحتاج الأمر الي معالجات جذرية في النظام السياسي والاقتصادي والإداري المتبع في البلاد خاصة بعد انفصال الجنوب الذي تؤكده جميع مجريات عمليات الاستفتاء التي شارفت علي نهايتها في الجنوب. إضافة الي إعادة هيكلة نظام الحكم تحتاج البلاد الي تغيير العقيدة الاقتصادية المتبعة ومراجعة النظام الإداري المتضخم في الشمال وإرساء قواعد ألمؤسسية وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين استنادا الي حق المواطنة، المساواة أمام القانون، التأهيل والقدرات والخبرة والقدرة علي العطاء. ان تأصيل الإقصاء والتهميش السائد اليوم في البلاد قد ولد جملة من الأحقاد والإحن التي قد تودي بما تبقي من البلاد الي التهلكة. تلاحظ حالات من اليأس واللامبالاة في أوساط معظم الفئات السكانية وتغلب لدي الشباب وهذا مؤشر خطير يجب علي جميع القوي السياسية العمل علي تداركه قبل لحظة الانفجار. هذه الحالة السائدة تجعل من الشباب لقمة سائقة للاستقطاب في مختلف أشكال القوة التدميرية المتصاعدة التي تدفع نحو تدمير الوطن والذات معا واقرب الأمثلة لذلك موجات الهروب الي إسرائيل.
هذا الوضع يستدعي من كل حادب علي ما تبقي من هذا الوطن ان يعمل علي حمايته وصيانة وحدته غض النظر عن رؤيته للتغيير والسلاح المستخدم فيه. لقد ظل عدد مقدر من الاقتصاديين الذين تهمهم مصلحة البلاد، بمختلف توجهاتهم الفكرية في الداخل والخارج ينبهون الي خطورة الوضع الذي تسير فيه البلاد من تبديد للموارد واختلال في أولويات الإنفاق وضمور مخصصات التنمية الاقتصادية والاجتماعية واستئثار أصحاب الو لاءات بكيكة الوظائف والمناصب والمخصصات والأصول والحوافز المعلنة والمستترة النقدية والعينة الي أن وصل الحال الي ما هو عليه اليوم من تفاوت ومفارقات تفوق القدرة علي التخيل. كل هذا نتاج طبيعي لتأصيل الإقصاء والتهميش وإيجاد المبررات للأخطاء المتراكمة مما يغري بالسير في الطريق الوعر المؤدي مباشرة الي الهاوية، هذا هو أصل البلاء الذي يجب التخلص منه اليوم قبل الغد بالتخلص من العقلية المنتجة له.
نتيجة لكل ذلك تقسمت البلاد وهي تعاني من ضعف البنيات التحتية وضعف استغلال الموارد المتاحة للاستخدام، تدهور في قدرات وتنافسية الإنتاج الزراعي والصناعي، هي تعاني من سوء الخدمات العامة وضعف الكفاءة في قدراتها البشرية مع خدمة مدنية تتخبط في الضياع. في هذا الوضع لابد من مراجعة الأوراق ونقول لدعاة الانفصال الجدد تمهلوا حتي تقف دولة الجنوب علي قدميها ويمكنكم بعد ذلك الاقتداء بها . ان الجنوب اليوم أحوج من أي وقت مضي الي الاستقرار والسلام والسير في دروب التنمية بعد ان حرم منها طوال تاريخه، هذا هو الطريق البديل للدخول في نزاعات وحروب ومشاكل لا قبل له بها وستؤدي به الي فشل مؤكد. أما دعاة الفتن والعنصرية وأمراء الحرب في الشمال كما هو الحال في كل مكان وزمان فلن يصنعوا التاريخ ولن تكون لهم الغلبة في يوم من الأيام والأمثلة علي ذلك يفيض بها التاريخ القديم والحديث. كما ظللنا نردد لزمن طويل فان اكبر ضمانة للأمن، مهما كان نوعه، الشخصي، القومي، الاجتماعي، الغذائي، اكبر ضمانة له هي التنمية وانتهاج سياسات اقتصادية تستهدف العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أبناء الوطن وكفالة العيش الكريم دون الحرمان من ابسط مقومات الحياة. أي طريق أخر حسب رأينا سيؤدي الي ضياع ما تبقي من الوطن وتفككه وضياع كراسي الحكم الوثيرة دون رجعة، والأمثلة علي ذلك أيضا يذخر بها التاريخ.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]