تأمُّل في مفاهيم علوم الاقتصاد والاجتماع والسياسة
بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com
مقدِّمة:
هذه المُقدِّمة وما يليها تضع الإطار الفكري لمنهجي النقدي وهو منهج تأمُّلي يثير غبار الأسئلة أكثر ممَّا يطرح من الأجوبة ولذلك فهو مُشاغب. وهو منهج نما ساقه وسقته جذور كثيرة من معارف شتَّي قيَّض الله سبحانه وتعالي لي زيارتها أو لها زيارتي قراءة وبحثاً وتجربة. وعندما تكالبت علىَّ النظريَّات وغشي البصر، وادلهمَّت علىَّ لجج الظلام وكاد السفين أن يغرق، لجأت للبصيرة ونورها عملاً بقول الله سبحانه وتعالي:
" فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ "، فلا بُدَّ من أساس لا يتزلزل تعرف صحَّته وثباته، ولربما تسئ فهمه، فتردَّك خلاصة التجربة إلى زيارة فهمك وإدراك ما خفي عليك.
ولذلك فمنهجي النقدي يقوم على أرضية منهج الإسلام، ما وسعني فهمه، وهو أكثر المناهج التي وجدتها علميَّة وصرامة أكاديمية، وسيتَّضح أنَّ منهجه تكاملي بنيويٌّ لا يُغفل ولا يقفل باب علم، فالإنسان مخلوق الله الحكيم العليم، وقد نثر سبحانه حكمته ومعرفته على كافَّة البشر أينما كانوا، ولم يستأثر أحداً دون أحد بكلِّ العلم، ولكن فضَّل أناساً على أناس، وهو فضل الله يعطيه من يشاء، وبذلك فكلُّ جهد إنساني فهو ورثة إنسانية لكلِّ النَّاس يقلِّبونها بين أيديهم كما يقلبون التراب يبحثون عن معادن الأرض الكريمة، فما قيَّموه اقتنوه وإلا رموه. فالإسلام وراء الحكمة أينما كانت لأنَّ الحكمة علم وفيه الخير العميم ولذلك يقول الإمام علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه:
" الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق".
ولذلك يقول سبحانه وتعالي:
" يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"
عن الكتاب والمؤلِّف:
جاءني البريد بهديَّة قيّمة وهي سفر بعنوان:
(التشكُّل الاقتصادي الاجتماعي في السودان وآفاق التغيير السياسي: قراءة في الاقتصاد السياسي السوداني)
وهو من تأليف الأستاذ حسين أحمد حسين محمَّد وهو رجل خبر دروب الاقتصاد علماً وممارسة في مواقع الحدث في وزارة المالية والاقتصاد الوطني ووزارة التعاون الدولي في السودان، ومن قبل ذلك درس الاقتصاد في الجامعة وطفق ينهل من مشارب المعرفة شرقاً وغرباً فطرق باب معهد الدراسات الافريقية والآسيوية فنال دبلومها ثمَّ حاز على دبلوم التخطيط التنموي وأضاف إليهما ماجستير العلوم السياسية من جامعة الخرطوم.
وعندما أقام خيمته في أرض الإنجليز طلب العلم حثيثاً فنال درجة الماجستير في التنمية الدولية من جامعة برستول، وهي جامعة عريقة مشهود لها بدراساتها الاجتماعية والسياسية العميقة، وها هو الآن يحذُّ السير على جواده ليصل شطَّ الدكتوراه إن شاء الله. ويفعل كلَّ ذلك وهو لم ينفصل عن نبض الشارع والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان فشاركهم عملاً في مصانعهم، وصاحبهم أفضل صحبة يتعلَّم منهم ويصقل أدواته الأكاديمية في معامل الواقع.
وقد وقع الكتاب من نفسي موقعاً حسناً وطفقت أقرأ سطوره وأتأمَّلها وأتعلم منها، ففي قول الإمام علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه:
" العالم مصباح الله في الأرض، فمن أراد الله به خيراً، اقْتُبِسَ منه".
وقد عدت إلى هذا السفر أكثر من مرَّة لموسوعية صاحبه العلمية، وتقاطع مجالاته ومفاهيمه العديدة، وجرأته على طرح الرأي حاله حال من يحبُّ النزال ويثبت في الملمَّات وفي هذا تحقيق لقول الإمام علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه:
" لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكّاً، إِذا عَلِمْتُم فأَعلِموا وإذا تيقّنتُم فأَقدِموا".
وقد جذبني طبع صاحبه الذي يري بعين آفاق الأفكار وبالعين الأخرى آفاق التطبيق العملي عابراً على جسر البحوث، فلا هو تستغرقه المفاهيم ولا يغفل عن واقع الإنسان الذي يتأثر بالمفاهيم فالغرض عنده ليس النفاذ إلى جوهر الأشياء وفهم مظاهرها فقط، ولكن أيضاً استثمار هذا الفهم في تحسين حال الوطن وبعث الأمل بتشخيص العلل ووصف دوائها بعد إدراك أسباب دائها. ولذلك تجده ينتقل بسلاسة من صرامة الأكاديمي العلمية إلى انفعال المواطن الموجوع أو قبس الأديب المُرهف أو نشاط السياسي ممَّا يدلُّ على أنَّه لا يعطي المفاهيم قدسية لا تستحقها وإنما هي جراءة العقل ومحاولة الانعتاق من شراك الأيديلوجية المنصوبة أينما يُولِّي. وهو وإن استخدم المنهج الجدلي المادي في تحليله لمظاهر التشكُّل الاقتصادي، لم يسعه هذا المنهج فابتدر منهجاً بنيويَّاً تكامليَّاً ولا أقول انتقائياً كالذي ينتقي من المناهج ما يشاء ويدع ما لا يشاء، ففي منهجه المنهجي بعض النسيج بين خيوط المفاهيم تفاعلاً مفيداً وغير مخل بالسياق العام.
وقدَّرت أنَّ ما يمكن أن أهديه لأستاذنا الحبيب أن أقرأه بجديَّة علميَّة صارمة وأُوسِّع دائرة المعرفة بإضافة فهمي السطحي في مجال لم أدخل مدارسه، ولا تعمَّقت في مناهجه، وفي رأيي أنَّ إفادة القارئ العام غير المتخصِّص أهم، فهو يبتعد عن الطلاسم الأكاديمية ولا تأسره الأيديلوجية وإذا وصلت الرسالة له فهو جوهر غايات الكاتب.
أهميَّة النقد:
لقد فطن القدماء لفائدة النقد فالإغريق استخدموا الكلمة بمعني القدرة على التمييز والحكم وقد كان الناقد ينظر في مزايا وعيوب الموضوع المطروح، إن كان كلاماً أو كتابة، ثمَّ يُصدر تقييمه وحكمه عليه. فالعالم عندما يفتح نافذة في بنائه المعرفي على العالم ويطلعنا على رأيه فهو يفعل ذلك من الداخل للخارج، وهو يبغي التواصل والتأثير والتَّحفيز على العمل، وبفعله هذا فإن المستمع أو القارئ تسنح له فرصة لينظر من الخارج من خلال هذه النافذة لداخل بناء العالم الفكري ويري غُرفاً أخرى لم يُرد له العالم أن يراها ولكنَّه لا يستطيع ردَّ فضول القارئ إذ أنَّه قد فضح ما كان سرَّاً وجاسر على أن يقبل الناس بعضاً أو كُلاً من رأيه أو يرفضونه.
في رأيي أنَّه لا توجد مرونة عقلية جدليَّة كهذه ترفض الأيديلوجيَّة وتنظر للرأي لا للقائل منذ القدم، فمعظم الفلاسفة والعلماء مغترٌّ برأيه مسفِّهٌ رأي غيره. وهو نتاج تربية ربَّانية تشرَّبت الحكمة فجعلت الجوهر نصب أعينها ولم تلهها قشور الزيف فجعلت النفس طريدة للمساءلة والفحص بالنقد، ثورة مستمرَّة على الجهل فجلتها بالعلم وعند ذلك رأت أن مجاهل جهلها أكبر فتواضعت لله. وفي قوله:
"أعقل الناس من كان بعيبه بصيراً، وعن عيب غيره ضريراً".
والنقد الموضوعي يردُّ الأشياء إلى حجمها الصحيح فلا هو ينفخ في بالون ذات المؤلِّف ولا هو يُفرغ هواءه كيداً فغاية العالم الأصيل هي الازدياد لا النقصان وفي ذلك يقول الإمام علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه:
" الإعجاب يمنع الازدياد"
وفي الحديث:
"إنَّ أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، ومن قال: أنا عالمٌ فهو جاهل". وهو أيضاً من الثلاث المهلكات.
وقد أضاف الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه لمنهج الإغريق بثاقب فكره فقال: (اضْرِبْ بعْضَ الرّأْيِ بِبَعْضٍ يَتَوَلَّدْ مِنْهُ الصَّوَابُ، وافْحَصِ الرَّأْيَ فَحْصَ السِّقَا)
فهو لم يُوضِّح فقط منهج النَّقد، باعتبار أنَّ الآراء مُجرَّد اجتهادات تصيب وتُخطئ، وإنَّما وضَّح كيفية عمل ذلك، فهو يقول بجدليَّة التغيير في الآراء إن كانت من إنتاج البشر ولزوم تطويرها حتى نصل بها إلى قمم الصواب، أي الفهم، أو تطوير فهما إن كانت من ثوابت المولي عزَّ وجل.
فمنهجه حيوي متواصل شأن الحياة وتطوُّرها معرفة وتجربة فلا أصنام فكريَّة تستحقَّ التبجيل والتسليم وإنَّما هي آراء فيها من شوائب الغلط كما في دلو ماء الشرب فالعين البصيرة لا تُدنيه من الفمِّ قبل فحصه فحصاً شاملاً لإزالة ما به من شوائب مُضرَّة، ولكن قيمة الفحص على قدر علم الفاحص فقد يشرب منه أحد وهو يراه نظيفاً ولكن عالماً آخر يفحصه بالمجهر ويري فيه من الجراثيم المُنبثَّة ما يؤدّي للهلاك.
والإمام يُرينا في أماكن أخرى الهدف الخفي للنَّقد ألا وهو خطر الأيديلوجية فيقول:
"من استبد برأيه هلك ومن شاور الناس شاركها في عقولها"، بل ويُرينا أيضاً أدوات النقد الأربعة فيقول:
"لا غنى كالعقل. ولا فقر كالجهل. ولا ميراث كالأدب ولا ظهير كالمشاورة"
فأوَّل الأدوات سلامة العقل المتسائل والمتشوِّق للمعرفة والتي هي الأداة الثانية، وفيها يقول: " أول رأي العاقل آخر رأي الجاهل"، ويقول أيضاً: "أعون الأشياء على تزكية العقل التعليم".
ولكن طريقة العرض لها قيمتها لأنَّ اقتباس علم العالم لا يتمُّ إذا كان عدوُّاً للأدب وأوَّل شروط الأدب عدم الرضي عن النفس واحترام رأي الغير وبهذا يترك وراءه ميراثاً تردُ الناس شطآنه على مرِّ العصور، وفي ذلك يقول: "أفضل الأدب أن يقف الإنسان عند حدِّه ولا يتعدى قدره".
ويختم ذلك بأداة لا يتمُّ الارتقاء على مدارج الكمال بدونها ألا وهي المشاورة فهي خير رفيق يحمي ظهرك من غوائل الأعداء إذ أنَّ صوتك يصير أصواتاً وفي التجمُّع قوَّة.
وقد سبق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ووضَّح الفرق بين الرأيين فقال:
" يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصيباً، لأن الله عز وجل يُريه، وإنما هو مِنَّا الظنُّ والتَّكلف ".
وفي أمر المولي عزَّ وجل أساس المعايير للقول والفعل:
" وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا"
وقد ختم الإمام علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه كلامه بتحديد معايير العالم بعد أن حدَّد معايير العلم وكيفية اكتسابه فتأمَّل قوله وقارن حال الكثير ممَّن يُسمُّون علماء أو يُسموُّن أنفسهم بذلك فأوردوا بلادهم وأهلهم مدارك الهلاك:
" وآخر قد تسمى عالما وليس به. فاقتبس جهائل من جهال، وأضاليل من ضلال. ونصب للناس شركاً من حبائل غرور وقول زور. قد حمل الكتاب على آرائه. وعطف الحق على أهوائه، يؤمِّن من العظائم ويهوِّن كبير الجرائم. يقول أقف عند الشبهات وفيها وقع. وأعتزل البدع وبينها اضطجع. فالصورة صورة إنسان. والقلب قلب حيوان. لا يعرف باب الهدى فيتبعه. ولا باب العمى فيصد عنه. فذلك ميت الأحياء".
ولذلك فهناك الكثير من الهباء الذي لا يستحق التوقُّف عند محطَّته إلا بما يلزم نفض غبار الوعي الزائف عنه، وتعرية حقيقته لينصرف الناس عنه، وما أكثر النماذج، ولكن أهميَّة النقد هو التعريف بما هو أهم. وأهمّية العمل تكمن في تأثيره فهو قد يكون موجب التأثير فتوجِّه الأنظار تجاهه أو يكون سالب التأثير فتُنبِّه الناس من أضراره وفي كُلٍّ فائدة ترجي. ولكن النقد قد يكون هدَّاماً أو قد يكون بنَّاءً، والنقد البنَّاء أساسي في عملية الإتقان والإضافة، واكتساب المعارف وشحذ مدية المهارات ونقل الفعل من دائرة الصدفة إلى دائرة التخطيط المبني على أسس علمية وبراهين ثابتة وإلا كان الفعل، والتفكير في حدِّ ذاته فعل، وليد فوضي ووالد فوضي أكثر.
وللنقد شروط ومعايير وأهمَّها في نظري فهو النقد بمحبَّة فهو إن وقع في أرض طيبة أثمر وإن وقع في أرض خبيثة لربما كان حسنة تقرِّب العدو وتدعوه لفتح كوَّة ضياء موضوعية يري من خلالها نقاطه العمياء فيصيب بذلك من نفحات أنوار البصيرة استدلالاً بقول الإمام كرَّم الله وجهه:
"أفضل الرأي ما لم يُفتِ الفرصْ ولم يورث الغُصص".
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي