تجربة الأطباء الصينيين في برنامج دبلوماسية الصحة القومية. ترجمة وعرض: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

تجربة الأطباء الصينيين في برنامج دبلوماسية الصحة القومية الموجه للسودان

ترجمة وعرض: بدر الدين حامد الهاشمي

قامت مجموعة بحثية من مدرسة الصحة العامة بجامعة واشنطن بمدينة سياتل بالولايات المتحدة، بالاشتراك مع باحث من وزارة الصحة المحلية بواد مدني، وباحثة من وزارة الصحة الاتحادية بالخرطوم، بعمل دراسة عن تجربة الأطباء الصينيين في برنامج دبلوماسية الصحة القومية في السودان تم نشرها في مجلة علمية هي "الصحة العامة العالمية Global Public Health" في يوليو من عام 2011م. يرصد هذه البحث ما سجل في الأدب العلمي الصيني والمواقع الحكومية المختلفة عن ماضي وحاضر ومستقبل هذه البعثات الطبية الصينية المنتشرة في أرجاء العالم المختلفة، ويورد البحث أيضا نتائج مقابلات أجريت مع 36 فردا من البعثة الطبية الصينية في السودان في مستشفي الصداقة بأمدرمان، ومستشفى أبوعشر، تم سؤالهم فيها عن ما حفزهم للالتحاق بذلك البرنامج، وعن الصعاب والتحديات التي واجهتهم في العمل بجانب زملائهم السودانيين، وكذلك عن الفوائد التي جنوها من العمل بالسودان.
لا شك أن المساعدات الطبية وسيلة من الوسائل الدبلوماسية الفعالة التي تساهم في توطيد العلاقات الثنائية بين الأقطار المختلفة. تقدم كثير من الدول أنواعا متعددة من العون المادي والفني والتقني لمساعدة غيرها من الدول الأقل نموا، بيد أن عددا قليلا فقط من تلك الدول -  من أهمها جمهورية الصين الشعبية وكوبا - (وسكانها يبلغون نحو 11مليون نسمة، وبها ما يزيد عن سبعين ألفا من الأطباء وتسعين ألفا من الممرضات وستين ألفا من الفنيين) تقدم على إرسال فرقا طبية لهذه الدول الفقيرة، وذلك بغرض خلق وتمتين وشائج ودية، وعلاقات اقتصادية وسياسية، وربما لتوسيع دوائر نفوذها كذلك في تلك الدول الفقيرة. قد تكون لطبيعة النظام الحكومي في كل من الصين وكوبا، وتركيبة التعيين في قطاعاتهما التعليمية والصحية دورا كبيرا في عدم الوقوف عند مجرد تقديم العون المادي فقط لتلك الدول الفقيرة، والمضي أبعد من ذلك بتقديم عون بشري  مباشر. ظهرت نتائج عمل "سفراء الصحة" الصينيين والكوبيين جلية كأوضح ما تكون في خلال سنوات الحرب الباردة التي ساندت فيها الصين وكوبا تلك الدول النامية.
بدأت الصين ترسي أساسا قويا لإستراتجيتها "الدبلوماسية – الصحية" منذ عام 1963م، عندما بعثت لأول مرة  بفرقة طبية إلى الجزائر، تلتها بعثات طبية أخري لبعض الدول النامية، وبلغ عدد الخبراء الذين بعثت بهم الصين إلى 48 دولة في أرجاء العالم في عام 2010م وحده 1252 فردا. يقوم الصينيون ببناء المستشفيات في البلاد النامية وتزويدها بالمعدات والمستلزمات، ويقدمون البعثات لطلابها لدراسة الطب في الصين والتدرب في مستشفياتها.  ومنذ عام 1963م بعثت الصين بأكثر من عشرين ألفا من الخبراء إلى 69 دولة، منها خمسين دولة في أفريقيا، خدمة – كما قيل- لقرابة 200 مليون مريضا. قدرت تكاليف تلك البعثات في عام 2003م بنحو 30 مليون دولار أمريكي، ولا ريب أن التكلفة الحالية قد تضاعفت كثيرا منذ ذلك التاريخ.
للبعثات الطبية الصينية تركيب مميز وبنية ثابتة، إذ يعهد لكل إقليم في الصين (وعدد أقاليمها 31) بالمسئولية الكاملة عن الفرقة الطبية المراد ابتعاثها لدولة نامية معينة، ويكون أفراد تلك الفرقة (من الأطباء الأخصائيين إلى السائقين والطهاة) من ذلك الإقليم فقط. فلقد أتت مثلا الفرق الطبية الصينية للسودان من إقليم شانكسي Shannxi الصيني. يتم اختيار الفريق المراد ابتعاثه لدولة ما بعناية فائقة، وتوضع في الاعتبار عوامل تشمل "الوطنية" والمعايير الأخلاقية والحالة الصحية والمهارات الطبية واللغوية، ويسبق إرسال البعثة تدريب يمتد لنحو نصف عام في مجالات  الأمن وسياسات الصين الدبلوماسية، ولوائح التأديب وسياسة ولغة وثقافة البلاد المضيفة المراد السفر إليها. يقدم الصينيون إلي أي دولة (نامية) ومعهم كل ما يحتاجونه من أدوية ومواد ومستلزمات وأجهزة طبية وآلات ثقيلة وغيرها، ودائما ما يواصل الإقليم الصيني المعين الذي يرسل فرقة طبية لدولة ما في إرسال فرق  أخرى لذات الدولة عاما بعد عام حتى تكتسب الفرق الجديدة القادمة مزيدا من خبرات الفرق الطبية التي سبقتها، والتي عادة ما تبقى نحو حولين كاملين في ذلك البلد، تتوطد خلالهما سمعتها بين السكان المحليين. وخلافا للعون الذي تقدمه كوبا، تقوم الصين بدفع كامل التكاليف لبعثاتها الطبية، من تذاكر السفر، ومرتبات العاملين، وتكاليف الأدوية والأجهزة الطبية والمستلزمات المختلفة الأخرى.
أورد الباحثون بعض المعلومات المتوفرة عن الصحة في السودان، وذكروا أن السودان يعاني من ضعف الخدمات الطبية، فلديه بحسب إحصاء من منظمة الصحة العالمية في عام 2004م 22 طبيبا لكل مائة ألفا من السكان، ويرتفع ذلك الرقم في الخرطوم إلى 35 طبيبا لكل مائة ألفا من السكان، بينما يقل الرقم في دارفور إلى طبيبين فقط لكل مائة ألفا من السكان (بينما لكوبا مثلا 620، ولفرنسا 340 وللولايات المتحدة  300طبيب لكل مائة ألفا من السكان. المترجم). كذلك ذكروا أن السودان يعد من أقل أقطار العالم صرفا على الخدمات الصحية، ربما بسبب تقليل الصرف الحكومي على هذه الخدمات، وبسبب اللامركزية التي بدأ تطبيقها في تسعينات القرن الماضي. لا ريب أن السودان يحتاج إلى مزيد من الكوادر الطبية المختلفة لمقابلة احتياجات المستشفيات العامة والريفية (والتي زاد عددها من 6413 في عام 1994م إلى 6184 في عام 2000م) والمستشفيات الكبيرة (والتي زاد عددها من 78 في عام 1994م إلى 109 في عام 2000م) افتتحت في السودان 25 كلية طبية جديدة (19 كلية حكومية و6 كليات خاصة) في فترة التسعينات كجزء مما سمي بثورة التعليم العالي. تركزت معظم هذه الكليات الجديدة في الخرطوم، وتقوم بالتدريس باللغتين العربية والإنجليزية مما يتيح لخريجيها فرص الهجرة  (أو "الهروب") للدول الثرية. قدرت منظمة الصحة العالمية في عام 2003م أن 111 طبيبا من بين كل ألف طبيب سوداني يعملون في خارج البلاد. خلص الباحثون إلى أن السودان ما زال يعاني من قلة الكوادر الطبية رغم زيادة الخريجين في مختلف المجالات الطبية. 
بدأت الصين في إرسال الفرق الطبية للسودان في عام 1971م، وظلت ترسل من بعد ذلك لهذا القطر فرقا طبية بصورة متصلة، حتى بلغت الفرق الطبية الصينية التي بعثت للسودان حتى عام 2009م نحو 30 فرقة. كانت البعثة التي أتت للسودان بين عامي 2007 -2009م  مكونة من 29 طبيبا وممرضتين وطاهيين ومترجمين ومهندس طبي واحد. في 2006م أرسلت الصين فريقا طبيا (إضافيا) لجنوب السودان، وذلك بناء على طلب خاص من الأمم المتحدة في سعيها للحفاظ على السلام في ذلك البلد المنكوب بالحرب الأهلية الطويلة.
بعد الحصول على موافقة وزارة الصحة السودانية والسفارة الصينية بالخرطوم، أجرى الباحثون مقابلات مع 29 من الصينيين و28 من السودانيين العاملين في مستشفي الصداقة الصينية في أمدرمان (والذي بناه الصينيون في عام 1995م، وعمل فيه حتى عام 2009م 170 طبيبا، منهم 20 طبيبا صينيا)، ومستشفى "أبو عشر" (والذي بني في عام 1971م، وعمل به حتى عام 2009م 13 طبيبا، منهم 8 أطباء صينيين). كانت لغة المقابلات هي الإنجليزية بالنسبة للسودانيين (عدا في حالتين استخدمت فيها اللغة العربية)، ولغة الماندرين للصينيين (للغة الصينية سبع لهجات، أهمها الماندرين، ويتحدث بها قرابة 1.4 بليون نسمة المترجم).
عند السؤال عن أدوار ومسئوليات الفريق الصيني الطبي العامل كانت إجابات الصينيين مختلفة عن إجابات السودانيين. فلقد قال مثلا قائد الفريق الصيني إن مهمة الفريق الرئيسة هي تطوير المهارات الطبية للسودانيين من خلال توجيههم وتدريبهم، ومهمته الثانوية هي تقديم الخدمات الطبية للأفراد الصينيين العاملين في السودان. في المقابل ذكر مدير مستشفي "أبو عشر" السوداني أن وجود الصينيين ضروري للحفاظ على المستشفي واستمرار عمله، وأن دوره كمدير يقتصر على الحفاظ على معنويات العاملين والرضاء/ الإشباع الوظيفي للعاملين الصينيين، وذلك بتلبية طلباتهم والاستجابة لاحتياجاتهم. تمني ذلك المدير في ذات المقابلة أن تقوم الحكومة الصينية بمنح المزيد من العون المادي لتطوير المستشفى. ذكر المدير السوداني لمستشفى الصداقة الصيني بأمدرمان أن دور الأطباء الصينيين الرئيس هو علاج المرضى مباشرة وليس تدريب السودانيين، إذ أنه بعد الانتهاء من بناء المستشفى في عام 1995م تم تسليم السودانيين إدارة المستشفي بالكامل، ولم يشارك الصينيون في إدارة المستشفى.
سئل الصينيون المشاركون في البحث عن التحديات والصعوبات التي تواجههم في السودان. أتى الحنين إلي الأسرة والوطن في مقدمة تلك التحديات والصعوبات، تلاه الأحوال الطبية المحلية، ثم عبء العمل، وحاجز اللغة، والأحوال المعيشية، و(قلة) الدخل، وانعدام التقدم المهني، وعدم معرفة الأمراض المحلية، و(قلة) العون المحلي، وأخيرا الاختلافات الثقافية. أشار الباحثون لبعض التفاصيل عن حنين الصينيين لأسرهم، حيث ذكر 19 من 28 مشارك أنهم يفتقدون أطفالهم، وذكر 9 منهم إنهم يفتقدون والديهم، بينما يفتقد 9 منهم زوجاتهم. قال واحد منهم إنه يحن لوطنه وأهله، بيد أنه يتأقلم مع وضعه في السودان بتقليل المشاعر السالبة بالاستيقاظ مبكرا والقراءة، ثم تناول طعام الإفطار، ثم الذهاب للعمل والحديث مع الزملاء، ثم مواصلة القراءة. لا يرى الرجل من فائدة في الاستغراق في مشاعر الحنين للأسرة والوطن، لذا فهو يرى أنه لابد من أن يجد المرء عملا يشغله عن مشاعر الحنين للأسرة والوطن. اشتكى بعض أفراد الفريق الطبي الصيني من أن المعدات والأجهزة التي يستخدمونها في مستشفي أمدرمان و"أبو عشر" متخلفة بنحو عقد من الزمان من تلك التي كانوا يستخدمونها في الصين، وأن المستلزمات والأدوات الجديدة التي استجلبوها تمت سرقتها، ربما بسبب ضعف الرقابة على ممتلكات المستشفى.
أشار مدير مستشفى الصداقة بأمدرمان إلى عقبة اللغة عند الأطباء الصينيين، مما دعا وزارة الصحة السودانية لطلب أطباء في تخصصات لا تحتاج لكثير مخاطبة، مثل الجراحة والأشعة. اشتكى طبيب أشعة صيني من أن السودانيين يتحدثون اللغة الإنجليزية بلكنة غريبة تجعل من الصعوبة فهمها. لم تكن هناك شكوى كبيرة من الأحوال المعيشية لدى الصينيين سوى كثرة انقطاع الإمداد الكهربائي، علما بأن الطبيب الصيني في السودان يتقاضى راتبا يعادل خمسة أمثال راتبه في الصين.
يقول الأطباء الصينيون أن زملاءهم السودانيين ودودين ومحترمين، ولا يجدون صعوبة كبيرة في التعامل معهم. من الطريف أن نذكر أن الأطباء الصينيين الذين عملوا في مستشفي "أبو عشر" و"الصداقة" بأم درمان  يعتبرون أن العاملين بمستشفي "أبو عشر"  (وسكانها أيضا) أكثر ودا وحميمية واحتراما من أولئك في مستشفى الصداقة، إذ أن بعض الأطباء في مستشفى الصداقة، خاصة من الذين درسوا في أوروبا يشعرون بنوع من التفوق والتميز على الأطباء الصينيين.
يعتقد الباحثون في هذه الدراسة الأميركية أن نجاح البرنامج (الدبلوماسي) الصيني في السودان اعتمد أساسا على 3 قواعد هي:
1/ التزام الحكومة الصينية الصارم بإنجاح البرنامج، وتقديم الأموال اللازمة له، وتوفير كل المعينات للأطباء الصينيين في السودان (مثل بناء مستشفيات جديدة، وتوفير سكن مريح وخدمة شبكة عنكبوتية وطهاة ومترجمين، والاشتراك المنتظم في مجلات طبية أكاديمية، مع توفير قنوات فضائية عالمية، وغير ذلك من المعينات).
2/ اختيار متطوعين مؤهلين وأكفاء وذوي دافعية ورغبة قوية للعمل وخبرة عملية طويلة (+20 عاما) مع قدر غير يسير من التواضع، والرضاء بالواقع المعيشي والعملي والإداري في مستشفيات السودان.
3/ الجو العام السوداني المرحب بالأجانب، وقلة الضغط الاجتماعي والتنافسي في العمل.        
خلص الباحثون إلى أن 25 من 28 من الصينيين الذين شاركوا في البحث قالوا إنهم لو خيروا مرة ثانية في العمل في السودان، فسيختارون ذلك بالتأكيد. ذكر الباحثون أن برنامج دبلوماسية الصحة الصيني في السودان قد نجح في مقابلة الاحتياجات السودانية (والصينية) في الوقت الراهن، ولكن ربما يتطلب الأمر من الصينيين والسودانيين إعادة النظر في مهمة ودور وأهداف ومصادر البرنامج، والتكيف مع التعقيدات المتزايدة لمشهد الموارد البشرية في الدولتين مستقبلا.  
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء