تجربة الانقاذ ودستور السودان المستقبلي

 


 

 

تعتبر تجربة الاسلاميين في الحكم مثالا جيدا لبيان "مدي تأثير الطبيعة البشرية المدنسة للممارسة السياسية " كذلك تؤكد التجربة "ان العنصر البشرى بكل ما فيه من مواطن ضعف إنسانية أمام شهوات السلطة والجاه و السيطرة والقبلية والقوة والثروة والنفوذ له تأثير قوى ومباشر علي الممارسة والتطبيق” . واقعيا تجربة الانقاذ تمثل نموذج في الممارسة والتطبيق لحكم اسلامي يستند الي الاسلام والشريعة والتطور التأريخي للمؤسسات السياسية الاسلامية ويستجيب غض النظر عن نجاحه لتحديات الواقع.

مما بدا لي من زاوية نظري المحدودة ان اهم اولويات اسلمة الحكم في فترة أمتدت لثلاثين عاما كانت احتكار المؤسسات السياسية و المال العام وتطبيق نظامي الحسبة والحدود بالاضافة للهيمنة الاعلامية التي تم توظيفها لخدمة سياق سياسي أحادي انطبق عليه تحليل الاستاذ محمد مفضل في مقاله ( الفتنة أشد من القتل .. حرب الدوال الفارغة)
الذي تحدث فيه عن توظيف الدلالات و معاني المسميات وتفسير المتشابهات حيث ذكر ان" المدلولات المختلفة تخضع لنظام من المعادلات ولتراتبية تعكس هيمنة على التفسير والدلالة، قد تكون سياسية، ثقافية، أو سياقية. فعندما تستعمل السلطة الحاكمة دال “الفتنة” فإن هذا الاستعمال يُخفي ويُظهر في الوقت نفسه منطقا من المعادلات يتم استعماله لاختيار المدلول الذي يتماشى والخطاب العام لهذه السلطة. ولعل المدلول المقصود يكمن في تطابق “الفتنة” مع معنى “التحدي للسلطة القائمة”، ويتم ترتيب المعاني الأخرى أو استبعادها لعدم تناسبها مع منطق خطاب السلطة"

وجدت هذه التطبيقات والممارسات انتقادا واسعا من قطاعات معتبرة من الشعب لارتباطها بقضايا رأي عام نتيجة "الطبيعة البشرية التي دنست التطبيق " والامثلة كثيرة جدا لتجاوزات الشرطة في تطبيق الحدود وحفظ النظام العام ( الاخلاق الاسلامية ) علي سبيل المثال اجبار المتزوجين علي حمل شهادات الزواج حتي لايتم ايقافهم بتهمة الخلوة الغير شرعية في الحدائق العامة او اعتراض السيدات وضربهم باسباب غير مقنعة وتبرير ذلك بعدم الالتزام باللباس الشرعي .

كذلك كثير من الباحثين يروا ان الشريعة التي تم حصر اولوياتها في الحدود والحسبة هي اعمق واشمل من ذلك لانها في نظرهم تضع قواعد قيمية واخلاقية تهدف الي ارساء الرحمة والعدالة والمصلحة.

هذا المقال يعرض تجربة الولايات المتحدة في معالجة مخاوف القادة المؤسسين من طغيان وغواية البشر وطغيان الحزب الواحد والاغلبية ودور الدين .

أولا : استوعب المؤسسون للدستور الامريكي طبيعة الانسان وقابليته للغواية. للانسان ملكات فطرية تعمل علي تحكيم العقل والعقلانية وهو كذلك يحمل سمات شخصية مثل الاخلاق الكريمة والنزاهة والسعي لتحقيق الصالح العام و رغبة في حياة كريمة. كذلك الانسان قابل للغواية والانحراف إلي طبيعة ذات سمات عنيفة ومتوحشة لا تتورع عن انتهاك حقوق شخص آخر لتحقيق المصلحة الذاتية.

ايضا افترض المؤسسون ان رغبات الانسان في التعيين و الانتخاب الحر المباشر في المكاتب والمؤسسات العامة لها ثلاثة دوافع: الطموح والمصلحة الشخصية او الحزبية والرغبة في النفع والصالح العام.

وكانوا يخافون من أن يكون الصالح العام قناعًا تتخفي خلفه الدوافع الاخري.

هذه الطبائع الانسانية التي تبدو متناقضة تم استصحابها كفرضية اساسية في صناعة الدستور وهيكل النظام السياسي .

ثانيا : مبدأ سيادة الشعب مصدر السلطات

استفاد المؤسسون في الولايات المتحدة من دروس التاريخ حول طبيعة الإنسان واثرها علي الممارسة السياسية والديمقراطية واجتهدوا في البحث عن حلول لمعالجة الخلل الذي اصاب الديمقراطيات السابقة في روما واللاحقة في اوروبا فابتكروا وصمموا اليات وضمانات داخل هيكل النظام السياسي تحقق مبدأ سيادة الشعب وتحول دون تركيز السلطات في يد شخص واحد او مجموعة وقلة مستبدة ، وكان تخوفهم الاكبر من استبداد الأغلبية وضرورة تحجيم هذا النوع من الاستبداد حتي لا يتحول لطغيان ينتقص من حقوق الاقليات. كان تخوفهم ان حزب واحد من افراد لديهم نفس الدوافع والطموح يمكن أن يحكم ، من خلال المؤسسات الديمقراطية علي حساب الاقلية. كان توماس جيفرسون يدرك ضرورة حماية الاقليات من استبداد الاغلبية ففي خطابه الافتتاحي الأول، قال جيفرسون: "الجميع ، أيضًا ، سيضعون في اعتبارهم هذا المبدأ الاساسي ، وهو أنه على الرغم من أن إرادة الأغلبية هي التي تسود
، فإن ذلك ، لكي يكون عادلا ، يجب أن يكون مبنيا علي التشاور والعقل والترجيح ؛ كذلك لا يجب ان يشكل ذلك خطرا علي الأقلية التي تمتلك حقوقًا متساوية يجب أن تحميها القوانين وتمنع انتهاكها فلا تكون اضطهادًا "

ثالثا: ثقة المؤسسين في الشعب ورغبته باستمرار في التغيير والتحسين عبر انتخاب واحلال وابدال القادة بحسب اداءهم .

روبرت ميدلكوف في كتابه The Glorious Cause لخص وجهة نظر ماديسون وهو احد المنظرين والمؤسسين للدستور كالاتي" في ظل أي نظام دستوري ناجح يجب أن يكون هناك شعب واعي وفاضل"

اعتقد المؤسسون ، وخاصة فرانكلين وماديسون وويلسون ، ان تحقيق امال الشعب وطموحاته في الكرامة والحرية والحياة الكريمة يمكن تحقيقها فقط بوثوق النخبة في فضائل الشعب الأمريكي ورغبته في التحسين والتطوير وقدرته علي الاحسان في انتخاب القادة الصالحين وعزل القادة السيئين .

لهذه الاسباب صمم وابتكر ودافع المؤسسين عن عدد من الضوابط او القواعد او شئت المبادئ الدستورية وهي كالاتي:

أولا: مبدأ فصل وتوازن السلطات في هيكل وتصميم النظام السياسي الذي يحتوي علي السلطة التنفيذية والتشريعية (ثنائية المجلس) والقضائية.من خلال الضوابط والموازنات وتقسيم السلطة وتوزيعها ، حتى لو لم يكن المسؤول المنتخب رجل الدولة نزيه و ويسعي لخير الشعب ، فإن آلية توزيع وتقسيم السلطة توفر ضمانة ضد هذا الاستبداد المحتمل.

ثانيا : النظام الفيدرالي . النظام الفيدرالي الذي يشمل حكومة مركزية وحكومات ولائية منتخبة مع فصل وتوزيع وتقسيم السلطة في الهيئة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية ، يقلل من احتمالية وجود حزب واحد واغلبية مستبدة تسيطر علي القرار .

ثالثا: الدستور يشتمل علي تحديد بعض واجبات المسؤولين المنتخبين مثل تشكيل حكومة ووضع اجندة وسياسات لمصلحة الشعب كله بما فيهم الاقلية، وليس الحزب او منطقة محددة.

رابعا : كذلك ابتكر المؤسسون فكرة المجلس التشريعي المكون من غرفتين تخوفا من سيطرة الاغلبية الشعبية علي المجلس. وجود غرفتين يحول دون استبداد الاغلبية . ومع ايمانهم
بسيادة الشعب
فمجلس النواب يتكون بالانتخاب حسب الدوائر والسكان بينما مجلس الشيوخ مكون بانتخاب ثلث الاعضاء فقط دوريا بواسطة المجالس التشريعية الولائية ولاحقا عدل لمصلحة الانتخاب المباشر من سكان الولايات.

بالنسبة لموضوع الدين
اعتبر ماديسون وغيره من المؤسسين ان الدين يشكل قاسما مشتركا بين افراد الشعب ، ولكنه ليس علاجًا لأمراضهم.

لكن الدستور احتوي علي القيم الاخلاقية التي سادت في المجتمع والحياة الأمريكية لفترة طويلة والتي كانت موجودة بوضوح في الأيام
الأولى للثورة الامريكية.

لقد كان من اهداف الدستور منع استبداد الأغلبية ومنع الطغيان و حفظ حق السيادة للشعب.
كما حدد واجب النظام السياسي والحكومات في حماية حقوق الشعب وافراده وخدمتهم ووضع اطارا لتحقيق ذلك الواجب بفعالية ، ولكن ليس على حساب اضطهاد الأقلية “(Middlekauff).

هذه الضوابط والتوازنات داخل المؤسسات المختلفة والسلطات الثلاث والحكومات الولائية تشكل حماية للشعب من خلال منع الفساد والطغيان بداخل اي مؤسسة سياسية ويضبط العلاقات البينية بين المؤسسات والفروع المختلفة للنظام السياسي فلا تطغي مؤسسة علي الاخريات وتقوم كل مؤسسة بوظائفها الدستورية
. هذه الضوابط والتوازنات تحمي الشعب من الحكومة وتحمي الوحدات الحكومية والمؤسسات العامة من بعضها البعض ومن نفسها.

التجربة الامريكية الهمت كل العالم وتجعلنا نطرح الاسئلة عن ماهية المخاوف التي يجب ان يتناولها الدستور المستقبلي في السودان . نلاحظ ان الشعب الامريكي يحترم الاديان ولكن لا يعتبر ان الدين علاج لعلل وامراض النظام السياسي لادارة الدولة. في المقابل نجد ان البعض يرفع شعار ( الدين هو الحل) فهل فعلا الدين علاج لامراض الدولة؟.

كيف نعالج المخاوف من تسلط الاغلبية او النخبة علي قيم الشعب وثقافته واخلاقه واعرافه؟ قارن ذلك باعتبار القادة الامريكيين ان الدين هو القاسم المشترك بين افراد الشعب وتضمين المحتوي الاخلاقي والقيم الاخلاقية السائدة في المجتمع الامريكي لفترات طويلة في الدستور .

وهل الدستور المستقبلي سيعالج " الطبيعة البشرية المدنسة للممارسة
السياسية"؟

هل الدستور سيعالج مخاوف الاقليات من خطر استغلال العاطفة الدينية والشعبوية للاغلبية والتعدي علي حقوق الاقليات واضطهادهم؟ وفي بالي "حادثة طرد الحزب الشيوعي"؟

هل الدستور سيعالج خطر التدخل الخارجي في الشئون الداخلية؟

وهل الدستور سيعالج تآكل الثقة في المؤسسة العسكرية والخدمة المدنية والأحزاب السياسية؟

هل الدستور سيعالج تكالب المؤسسة العسكرية علي السلطة ؟ حتي قال احدهم المؤسسة العسكرية السودانية اشبه بالراقصة الخفيفة التي تنتظر وقع الدلوكة في اشارة لسهولة تحركها وخفتها في السطو علي مؤسسات الشعب الدستورية وتعطيلها لعجلة التطور متي ما اشتكي اليها حزب او فصيل او استخفها مغامر.

هذه قطرات من فيض المخاوف والقضايا التي يجب طرحها بشجاعة من جميع اصحاب المصلحة وشركاء الوطن وتناولها بحكمة وموضوعية بعيدا عن ثقافة (الجهل ) و( التحامل) والاستعلاء وعقلية اركان الجامعات التي اشتهرت بالصفات التالية (الصفرية -الثنائية- انتصارات النفس-نفخ الذات- اذكاء روح الحزبية الكريهة وعصبية الجاهلية -)وبروح تسمو فوق المرارات والظلامات والشكوي لتنير وتعبد الطريق الذي يمكننا من وضع لبنات التوافق العريض والمشروع الوطني الذي اساسه دستور السودان المستقبلي الشامل والمقبول والقابل للعيش .

شريف محمد شريف علي
٢٦/١/٢٠٢٢

المراجع

ميدلكوف ، روبرت. السبب المجيد: الثورة الأمريكية ، 1763-1789. نيويورك: مطبعة أكسفورد. 1982 روسيتر ، كلينتون ، أد. الأوراق الفدرالية. نيويورك ، نيويورك: Signet ، 1999.

engshereef1977@yahoo.com
/////////////////////

 

آراء