تحقيق. الروايات. الشفاهية: ود جاد الله .. كسار قلم “مكميك”؟ ! .. رواية. منحولة. مصنوعة

 


 

 

 


hasabdin1939@gmail.com

 

تتردد من حين لآخر لنحو مائة عام روايات شفاهية عن تاريخ السودان الحديث والمعاصر لا أساس لها من الحقائق التاريخية . انها روايات متواترة منقولة. من جيل لآخر يحكيها الرواة. ويتغني بها المغنون الشعبيون.... صحيح ان في طيات بعضها نواة أو ذرات من حقائق التاريخ ( kernels of truth ) ولكن تضيف اليها وتزينها سلسلة الرواة. والمريدين. فيعلق بها التحوير والتشويه ويتناولها الشعر الشعبي غناءا مادحا وتفاخرا. زائفا .

تكبر هذه الروايات مثل كرة. الثلج بالإضافات اثناء عملية السرد والنقل، ومن أصناف واشكال الرواية. الشفاهية الإشاعة وهي عن اخبار واحداث الحاضر يتداولها الناس "ويلوكونها" إناء الليل وأطراف النهار مضافا الي جذرها أو محذوفا منه..... والإشاعة عند السودانيين ملح الونسة والموءانسة !
وتنسب معظم الروايات الشفاهية صفات البطولة والفروسية والشجاعة وقيم الجود والكرم والشهامة للزعماء والقيادات بل وتنسب لبعضهم كما جاء في طبقات ود ضيف الله عن الاولياء والصالحين والمكوك (جمع مك أو ملك) المعجزات والكرامات! وهذا ومثله ليس سوي تحويل بعض التاريخ الشفاهي الي بطولات زائفة متخيلة....فانتازيا .

تندرج. الرواية عن عبد الله ود جد الله " كسار قلم مكميك" (ماكمايكل) تحت هذا الصنف من الروايات المنحولة والتي لا تؤكدها بل تنفيها وتنسخها. الوثائق المدونة عن سيرته الذاتية وسيرة نظارته لقبيلة. الكواهلة. في كردفان إبان العقد الاول من القرن الماضي ١٩٠٠- ١٩١٠ .
ساء الناظر ود جاد الله واغضبه قرار مفتش مركز بارا بشمال كردفان هارولد ماكمايكل الفصل في نزاع حول حقوق الرعي والسقاية بين الكواهلة وجيرانهم الكبابيش لصالح الكبابيش ولكن دون ان يعتدي علي قلم المفتش. تكسيرا وتهشيما كما روي الرواة وزعمت الرواية وسار بها ركبان الكواهلة و مراحيلهم. الي يومنا هذا....يتغنون بشجاعة ود جاد الله في تحديه وإذلاله للمستعمر الانجليزي:
عليك بحر النم يا دقر الحرايق
أصبحت كاتم السم عشميق الأصم
شدولو وركب فوق أصهبا ماهل
راديو متممو وحديثو مو مايل
ود عز البيوت ناظر عموم كاهل
يا بحر المحيط مين عبرو. وقاسو
بريطانيا والترك. مالينو راسو
والعضم الكبير كسرو وشرب راسو
العاقر تقول بلدي وبسمي عليك
يا عيد الضحية الفتحولو البيت
رايو مكملو كسار قلم مكميك .

عاش ود جاد الله خلال السنوات ١٨٧٢/ ١٩٢٢ ، شب وشاب علي ولائه للمهدية وللامام المهدي الذي زوجه احدي بناته. وجاء عنه في تقرير لقلم المخابرات بكردفان عام ١٩٠٨ انه " ذكي وطموح ، مولع بالتآمر ( إشارة لمهدويته ) وله ثلاث مقار ادارية في كل من الشقيق والبشيري وامدرمان ....." وكنت قد اطلعت علي هذا التقرير مطلع هذا العام في ارشيف السودان بجامعة دارام فلم اجد فيه اَي إشارة لحادثة تكسير قلم المفتش كما خلت سيرته الذاتية التي اوردها الموءرخ ريتشارد هيل في كتابه : معجم تراجم إعلام السودان( ترجمة سيف الدين عبد الحميد ) من إشارة للحادثة ، ولَم يرد ذكر لها أيضا في مذكرات وكتاب ماكمايكل عن قبائل وسط وشمال كردفان وبه فصل كامل عن قبيلة الكواهلة وناظرها ود جاد الله.
ولو ان ود جاد الله انتزع القلم من يد المفتش وكسره لما نجا من الحساب والعقاب سيما وان سياسة الإنجليز في السودان عقب الاحتلال وهزيمة ومجزرتي كرري وأم دبيكرات كانت قمع كل محاولات المقاومة والتمرد مسلحا كان أو أقوالا تحريضية أو حتي إظهار مشاعر التعاطف مع المهدية والدعوة لاحيائها ، وقد عرفت عن ود جاد الله مثل هذه المشاعر مما أدي في نهاية الا مر لاعفاءه من النظارة عام ١٩١٠ وتعين ابن عمه احمد عبدالقادر الاعيسر ناظرا علي الكواهلة.
سبقت رواية تكسير قلم المفتش هذه رواية اخري منحولة قال رواتها ان العمدة بابكر مجمدخير سابل( ود سابل ) شيخ منطقة البرصة بمديرية دنقلا قد صفع المفتش جاكسون باشا وهو علي ظهر الحصان( حصان المفتش حتي طارت برنيطته/ قبعته ) عندما وخزه جاكسون بعصاه علي كتفه لتقصيره في جمع وتوريد الطلبة ( بضم الواو ) اَي الضرايب !!
قالت زينب بت ود سابل في مدح شجاعة ابيها وإذلاله المزعوم للمفتش :
أبوي قال المفتش شن بياسه
وفِي الخواجة ما بتنفع حناسة
وتعيش عند الله الرياسة
ومالك ان رفدوك يالخزين
ليك مساجد وليك دواويين
وليك. عمال مستخدمين
هيلك الرطب من قديم
وجدو كان شيخ المساكين
هذه. رواية وتلكم روايات اخر يفيض بها التاريخ الشفاهي يتغني بها المغنون. والمريدون ، صناعة واصطناعا للأبطال. والبطولات. تباهيا بالشجاعة والفروسية وكلها يذخر بها التراث القولي ، يلزمها التحقيق والتمحيص للتثبت من حقائق التاريخ عوضا عن المتخيل عنه والمرغوب فيه .

د . حسن عابدين
باحث في التاريخ الشفاهي
يوليو ٢٠١٨

 

آراء