تذاكى ومخادعة البرهان وحميدتي في العمليَّة السياسيَّة
الدكتور قندول إبراهيم قندول
11 December, 2022
11 December, 2022
jbldameek@gmail.com
نصوص الاتفاق الإطاري الذي تم التوقيع عليه يوم الاثنين الموافق الخامس من ديسمبر ٢٠٢٢م مليئة بالتناقضات والغموض من حيث الصياغة والمضمون، وتواجهه تحديات كثيرة منها: عدم تحديد كيفية وآليات التنفيذ والجهة المُنفِّذة له، فضلاً عن عدم توقيع الشهود الإقليميين أو الدوليين، أو على الأقل، أعضاء اللجنة الثلاثيَّة أو الرباعيَّة رغم الحضور الكثيف للأجانب الذي شاهدناه في قاعة الصداقة. يبدو، إذن، للبعيدين ويتوهَّم الموقعَّون على الاتفاق أنَّه صناعة سودانيَّة بتسهيل أجنبي، وهم يخادعون الناس وما يخدعون إلا أنفسهم. بالطبع، المعارضون للاتفاق يرون غير ذلك، إذ يحسبونه املاءات خارجيَّة غير مقبولة. بل ذهب المتطرفون منهم أبعد من ذلك ووصفوه بقاذف الدين في "العراء"، واحتجت فئة أخرى بأنَّه ثنائي واقصائي، الأمر الذى دحضه الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، عقب التوقيع بأنَّه مفتوح لكل "زول"! المتحدثون الباقون في الاحتفالية وصفوه في جملة واحدة بأنَّه حدث تاريخي هام. لم لا وقد تكاثرت الأحداث الهامة في السُّودان حتى تكاد لا تُحصى.
هكذا نجح البرهان ونائبه حميدتي في توسيع الشُقة بين السياسيين السُّودانيين، ظاهريَّاً، منتظرين اللحظة الحاسمة للضربة القاضية على هؤلاء جميعاً. السؤال كيف ذلك؟ المتتبِّع الحصيف للأحداث يجد بلا جهد يُذكر أنَّ الرجلين، بصورة ما، استطاعا بمكر شديد شراء ذمم شريحة كبيرة من قطاعات الشعب السُوداني بالمال والترغيب والترهيب في بعض الأحيان، ما عدا الشباب/ت. بمعنى أكثر دقة، لجان المقاومة.
يتجلى مكر الرجلين في مواقفهما عبر السنوات الأربع الأخيرة من تمثيليَّة إسقاط الإنقاذ في: استدعاء المشير عمر حسن أحمد البشير ربيبه "حميدتي" من دارفور لما ضاقت عليه نفسه وأرض السُّودان وظنَّ أنَّه لا ملجأ له إلا إليه، ولكن انقلب عليه "حميدتي" صوريَّاً، فقبض عليه وأودعه في مأمن. الفعل الذي يفتخر به "حميدتي" بأنَّه لو لم يقبض على البشير لسالت الدماء حتى الركب. يذكر "حميدتي" ذلك تناسيَّاً دوره في الإبادة الجماعيَّة في دارفور وإقليمي جبال النُّوبة والفونج الجديد، وأنَّ يديه ملطختان بدماء الأبرياء من كل مِلل السُّودان أثناء جريمة فض الاعتصام التي وقف العالم متحيراً بعدما شاهد السُّودانيين يصنعون التاريخ لأنفسهم.
ففي تلك الأيام العصيبة والثوار يفترشون الأرض في اعتصامهم أمام قيادة قواتهم المسلحة، استدرج البرهان السيد إبراهيم الشيخ، رئيس حزب المؤتمر السوداني آنذاك، إلى داخل مكاتبها وقيل له كلاماً لم يفصح عنه حتى الآن. وبعد خروجه منها، عُقدت اجتماعات كثيرة في الخرطوم وأديس أبابا، إثيوبيا. وفي خطوة خطيرة للغاية قامت اللجنة الأمنيَّة بمسرحية مكشوفة تمثَّلت في اعتقال ياسر سعيد عرمان، وإسماعيل خميس جلاب، ومبارك عبد الرحمن أردول (رئيس وفد المقدمة لحركة مالك عقار إير إلى الخرطوم) واقتيادهم، أو قل إن شئت، إبعادهم من السُّودان مكبلي بالأغلال في الأيدي والأرجل، ومعصومي الأعين إلى مدينة جوبا، بجمهورية جنوب السُّودان، في ١١ يونيو ٢٠١٩م. المسرحيَّة بليدة بيد أنَّه لا يمكن أن يتم معاملة سياسيين معروفين بتلك الإهانة ما لم تكن هناك خطة مسبقة ظهارها التمويه وباطنها الابتزاز والشماتة. وأنَّه ليس من المنطق ولا العقلانيَّة. وما يدل على ذلك أنَّ هؤلاء شاركوا في المفاوضات مع ذات الحكومة التي اعتقلتهم (مجازاً)، ثم تبوأ عددٌ منهم، إن لم يكن جميعهم، مناصب رفيعة في الدولة، وأصبح رئيسهم مالك عقار عضواً في مجلس السيادة لاحقاً. مهما يكن، لم يحن الوقت المناسب لكشف المعلومات الدقيقة عن تفاصيل هذه التمثيليَّة السمجَّة إذ تكشف الكثير عما يُحاك ضد الوطن.
توالت المؤامرات على الشعب السُّوداني وثورته بواسطة اللجنة الأمنيَّة وحليفها الاستراتيجي غير الموثوق فيه "حميدتي" فنشطت الرحلات المكوكيَّة بين الخرطوم وإثيوبيا، انبثقت عنها الوثيقة الدستوريَّة المعيبة والاتفاق عليها بتقاسم السلطة مع العسكر في ٥ يوليو ٢٠١٩م، أي بعد ٣٣ يوماً من جريمة فض الاعتصام، بصورتها المقلوبة، مثلما رفعها "حميدتي" ليرى الناس انجازه! حينها تأكَّد لنا، ولا زلنا نعتقد، أنَّ الحراك و"الثورة" العظيمة اُختطفت وانتهت وكأنَّها لم تكن. نعم، استطاعت اللجنة الأمنيَّة افراغ حراك و"ثورة" الشعب السُّوداني من مفهوم ومضمون الشرعيَّة الثوريَّة، فخرج المجرمون كما الشعرة من العجين!
أثناء المفاوضات بين حكومة الأمر الواقع في الخرطوم مع من سموا أنفسهم بتحالف "نداء السُّودان" حيناً، و"الجبهة الثوريَّة" حيناً آخر، و"حركات الكفاح المسلح"، وما هي كذلك، مرة ثالثة، فاجأ أردول رئيسه مالك عقار إير بتقديم استقالته، التي أطال التبرير لها دون الحاجة إلى ذلك. بيد أنَّه ترأس الجانب الحكومي المتآمر على الشعب الفريق "حميدتي". وعندما تأكَّد البرهان وحميدتي من خضوع "حركات الكفاح المسلح" لخطتهما تم تقسيمها إلى مجموعات صغيرة لمناقشة قضايا السُّودان الكبيرة والكثيرة بالتجزئة إذ تم تقسيمها إلى خمسة "مسارات". ماذا بعد؟ توجه القوم (حركات الكفاح المسلح بمسمياتها المختلفة وآخرون) مشحونين في طائرة خاصة إلى الخرطوم، وما هي إلا بضع أشهر حتى تم تقسيمهم مرة أخرى إلى أشياعٍ وانقلب عبد الفتاح البرهان وحميدتي على من لم يتبع ملتهما ولم يكونوا من شيعتهما في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، بتحريض من الكيزان.
غلب الرجلين السيطرة على الوضع وتنفيذ مخططهما نتيجة للضغط الجماهيري والشعبي غير المحسوبين، فلجأت قيادة الجيش والدعم السريع إلى مكيدة أخرى وهي دعوة أهل السُّودان إلى "توافق وطني"، فحشروا ونادوا، وتكاثرت المبادرات فلم تفلح، لأنَّ البرهان وحميدتي لا يريدان تسليم السلطة للمدنيين سلميَّاً. وما تصريح حميدتي بلسان المؤسسة العسكريَّة، أو الدعم السريع فكلاهما وجهان لعملة واحدة في زمن المسغبة، أنَّه لن يعطي السكين لأحد يريد ذبحه بها! الرجل محقٌ، فلن يجرء أي إنسان على ذلك، حتى لو كان نبياً. وفي منحى آخر، وبسواس من الشيطان، أتى حميدتي بمبادرة أخيرة في محاولة يائسة وبائسة جمع لها بعض من سمَّتهم الإنقاذ بالأمراء من ولايتي جنوب كردفان وغرب كردفان لبحث مسألة "الصلح القبلي والتعايش السلمي". المضحك والمبكي في الآن نفسه أنَّ خطوته تلك جاءت على أعقاب موقف النُّوبة الموحَّد ضد قوات الدعم السريع التي يتزعمها هو، والتي احتلت مدينة الياواك وأهلها نيام، عاثت فيها الفساد. ونحن نتساءل لماذا لم يعر حميدتي النُّوبة أي اهتمام من قبل؟ أليست قواته هي التي حاولت مراراً دخول مدينة كاودا بأمر من البشير وصديقه في الجريمة أحمد محمد هارون ليصلي فيها "صلاة الجمعة؟" بلى! أم أليست قوات الدعم السريع بقيادة "شيريا" هي التي قتلت المواطنين في كادقلي، ولو لا تصدي القوات المسلحة لها بقيادة الرائد، وقتئذٍ، "الجاو" لاستباحت المدينة ولسُحلت؟ بلى! أم أليس هو "شيريا" الذي قاد أكثر من ٤٠ عربة مدججة بالسلاح من مدينة الأبيض صوب جبال النُّوبة لضرب أهلها؟ بلى! أوليس هم نفس الناس الذين نقضوا صلح "سُورنيه" وليس "سُورني" بين المسيريَّة والنُّوبة في الياواك قبل عامين؟ بلى! سلسلة تساؤلات لا تنتهي بخصوص علاقة حميدتي وقواته مع النُّوبة.
ما يفقع المرارة أنَّ جراح النُّوبة لم تبرأ ولم تندمل بعد من تداعيات أحداث "الياواك" ويأتي حميدتي بما هو أشد استفزازاً للنُّوبة، ويخاطبهم بكل عنجهية في قاعة الصداقة أنَّ الجسور فُتحت لهم ليصلوا إلى القصر الجمهوري وأنَّ الأمر فيه خيار وفقوس! ثم طبق يتسأل من الذي فتح الجسور، في إشارة خبيثة إلى مجهول يعرفه هو، كما اعتاد أن يوهم الناس بأنَّ هناك طرف ثالث يخلق مشاكل السُّودان. أليس حميدتي الرجل الثاني في الدولة السُّودانيَّة، الآمر والناهي بعد البرهان مباشرة؟ بلى! إذن، نسأل نفس السؤال: لماذا منع حميدتي طائفة من الناس عبور الجسور بقفلها وأصدر الأوامر بالسماح بالعبور لموكب واعتصام الموز، ومواكب الكرامة ١، ٢؛ ٣، ٤ إلخ، دون أن يعترض سبيلهم أحد بالغاز المسيل للدموع أو الرصاص الحي؟ ... على أية حال، المحزن هو أنَّ أولئك الأمراء صفَّقوا وهلَّلوا وكبَّروا وقال بعضهم كلاماً لا يقوله إلا من يرضى بالذل والهوان. المعني هنا دون مواربة أو شك أو تأويل "الأمير" مجازاً "حسن تيه كوكو" الذي تفوه بأقبح العبارات قائلاً: "إنَّ المسيريَّة هم مصدر اقتصاد النُّوبة"!
عوداً إلى الاستهبال السياسي وتذكي البرهان وحميدتي، طلَّق الرجلان كل حلفائهما طلاقاً مرجوعاً، وعادا إلى من انقلبوا عليهم في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م وتم التوقيع معهم على الاتفاق الإطاري الحالي رغم المعارضة الشرسة من حلفائهما السابقين (الحركات المسلح، والكيزان وغيرهم). وبعد حين سيتم الفراق بينهما والحلفاء الجدد، أعداء الأمس. لا يفوتنا ذِكر أنَّ آخر من تم الضحك عليه ومخادعته هو المجتمع الدولي والعالم، وستتجدَّد دورة الجرثومة الخبيثة أو الدائرة الشريرة بوضع كل "البيض" في قفة واحدة ورميها بحجر كبير أو اسقاطها من علٍ لتتكسَّر. يُعد تصرُّف الفريقين ذكاءً متواضعاً مفتعلاً. هذا يذكَّرني بما قاله يوماً الأستاذ "ستيفن ووندو"، ممثِّل الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان بواشنطن قبل اتفاق السلام الشامل. قال "ووندو" لبعض الجنوبيين وأعضاء الحركة الذين عارضوا الاتفاق على ورقة التعاون المشترك بينها وحزب الترابي أي المؤتمر الشعبي، في لندن عام ٢٠٠٣م. إذ برَّر "ووندو" أنَّ من النتائج الجيدة لذلك الاتفاق هو "وضع حسن الترابي في السجن". واستطرد قائلاً: "استطاعت الحركة بدون أي جهد منها، في تحريض أبناء الترابي على "القبض عليه وحبسه وتم بذلك تحجيم تأثيراته السالبة. فإن لم تفعل الحركة ذلك لظل الترابي خارج السجن وزاد حال الحركة سوءاً لأنَّه رجلٌ سيء (Bad man).
أما بالنسبة للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان بقيادة القائد عبد العزيز الحلو، وحركة "جيش تحرير السُّودان" بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد نور، فلا تمر عليهما ألاعيب الكيزان في ثوب عبد الفتاح البرهان وحميدتي أو أي شخص آخر. فمصير الاتفاق الإطاري مجهول بيد أنَّ المتحدث الرسمي باسم حزب المؤتمر السوداني المهندس نور الدين بابكر ذكر يوم الثلاثاء ٦ ديسمبر أي بعد يوم واحد من التوقيع على الاتفاق "أنَّ هناك عدم ثقة بين المدنيين والعسكريين". أما الفريق البرهان فقد صرًّح مراراً أنَّ خروج المؤسسة العسكريَّة من السياسة مرهون بالتوافق الوطني الشامل. وفي الخطاب قال البرهان "الجيش إلى الثكنات والأحزاب إلى الانتخابات"، وبدون دراية صفَّق الحاضرون وطويلاً مما يدل أنَّ هذا الكلام كذب. وفي مناسبة أخرى صرَّح البرهان بأنَّ ما تم ليس اتفاقاً وإنَّما هو "توافق وطني". أما حميدتي فقد "اعترف بالأخطاء واعتذر" وانتشى القوم الظالمون! أما في لقاء صحفي في القصر مع الصحفية القديرة "لينا يعقوب" حيث راوغ البرهان وتردَّد في إجابته عن سؤالها: "من سيكون القائد الأعلى للقوات النظاميَّة"؟ والحاقاً لما لاحظناه في وجهه البرهان عند التوقيع، لقد كان مبتسماً وهو ممسكٌ بالقلم، ليس ابتسامة الفرح بالإنجاز لمصلحة الوطن، ولكن لنجاحه هو في خداع الكل، كل الوقت! وقد قال الشاعر أبو الطيب المتنبي وكأنَّه بين الحاضرين: وإذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنَّن أنَّ الليث يبتسم". وفي موضع آخر يقول، وكأنَّ ذلك على لسان البرهان وهو يحرِّض نفسه لخوض معركة مع الشعب السُّوداني وهزيمته مهما كلَّف حين قال:
"عليك هزمهم في كل معتركٍ وما عليك بهم عارٌ إذا انهزموا"
نصوص الاتفاق الإطاري الذي تم التوقيع عليه يوم الاثنين الموافق الخامس من ديسمبر ٢٠٢٢م مليئة بالتناقضات والغموض من حيث الصياغة والمضمون، وتواجهه تحديات كثيرة منها: عدم تحديد كيفية وآليات التنفيذ والجهة المُنفِّذة له، فضلاً عن عدم توقيع الشهود الإقليميين أو الدوليين، أو على الأقل، أعضاء اللجنة الثلاثيَّة أو الرباعيَّة رغم الحضور الكثيف للأجانب الذي شاهدناه في قاعة الصداقة. يبدو، إذن، للبعيدين ويتوهَّم الموقعَّون على الاتفاق أنَّه صناعة سودانيَّة بتسهيل أجنبي، وهم يخادعون الناس وما يخدعون إلا أنفسهم. بالطبع، المعارضون للاتفاق يرون غير ذلك، إذ يحسبونه املاءات خارجيَّة غير مقبولة. بل ذهب المتطرفون منهم أبعد من ذلك ووصفوه بقاذف الدين في "العراء"، واحتجت فئة أخرى بأنَّه ثنائي واقصائي، الأمر الذى دحضه الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، عقب التوقيع بأنَّه مفتوح لكل "زول"! المتحدثون الباقون في الاحتفالية وصفوه في جملة واحدة بأنَّه حدث تاريخي هام. لم لا وقد تكاثرت الأحداث الهامة في السُّودان حتى تكاد لا تُحصى.
هكذا نجح البرهان ونائبه حميدتي في توسيع الشُقة بين السياسيين السُّودانيين، ظاهريَّاً، منتظرين اللحظة الحاسمة للضربة القاضية على هؤلاء جميعاً. السؤال كيف ذلك؟ المتتبِّع الحصيف للأحداث يجد بلا جهد يُذكر أنَّ الرجلين، بصورة ما، استطاعا بمكر شديد شراء ذمم شريحة كبيرة من قطاعات الشعب السُوداني بالمال والترغيب والترهيب في بعض الأحيان، ما عدا الشباب/ت. بمعنى أكثر دقة، لجان المقاومة.
يتجلى مكر الرجلين في مواقفهما عبر السنوات الأربع الأخيرة من تمثيليَّة إسقاط الإنقاذ في: استدعاء المشير عمر حسن أحمد البشير ربيبه "حميدتي" من دارفور لما ضاقت عليه نفسه وأرض السُّودان وظنَّ أنَّه لا ملجأ له إلا إليه، ولكن انقلب عليه "حميدتي" صوريَّاً، فقبض عليه وأودعه في مأمن. الفعل الذي يفتخر به "حميدتي" بأنَّه لو لم يقبض على البشير لسالت الدماء حتى الركب. يذكر "حميدتي" ذلك تناسيَّاً دوره في الإبادة الجماعيَّة في دارفور وإقليمي جبال النُّوبة والفونج الجديد، وأنَّ يديه ملطختان بدماء الأبرياء من كل مِلل السُّودان أثناء جريمة فض الاعتصام التي وقف العالم متحيراً بعدما شاهد السُّودانيين يصنعون التاريخ لأنفسهم.
ففي تلك الأيام العصيبة والثوار يفترشون الأرض في اعتصامهم أمام قيادة قواتهم المسلحة، استدرج البرهان السيد إبراهيم الشيخ، رئيس حزب المؤتمر السوداني آنذاك، إلى داخل مكاتبها وقيل له كلاماً لم يفصح عنه حتى الآن. وبعد خروجه منها، عُقدت اجتماعات كثيرة في الخرطوم وأديس أبابا، إثيوبيا. وفي خطوة خطيرة للغاية قامت اللجنة الأمنيَّة بمسرحية مكشوفة تمثَّلت في اعتقال ياسر سعيد عرمان، وإسماعيل خميس جلاب، ومبارك عبد الرحمن أردول (رئيس وفد المقدمة لحركة مالك عقار إير إلى الخرطوم) واقتيادهم، أو قل إن شئت، إبعادهم من السُّودان مكبلي بالأغلال في الأيدي والأرجل، ومعصومي الأعين إلى مدينة جوبا، بجمهورية جنوب السُّودان، في ١١ يونيو ٢٠١٩م. المسرحيَّة بليدة بيد أنَّه لا يمكن أن يتم معاملة سياسيين معروفين بتلك الإهانة ما لم تكن هناك خطة مسبقة ظهارها التمويه وباطنها الابتزاز والشماتة. وأنَّه ليس من المنطق ولا العقلانيَّة. وما يدل على ذلك أنَّ هؤلاء شاركوا في المفاوضات مع ذات الحكومة التي اعتقلتهم (مجازاً)، ثم تبوأ عددٌ منهم، إن لم يكن جميعهم، مناصب رفيعة في الدولة، وأصبح رئيسهم مالك عقار عضواً في مجلس السيادة لاحقاً. مهما يكن، لم يحن الوقت المناسب لكشف المعلومات الدقيقة عن تفاصيل هذه التمثيليَّة السمجَّة إذ تكشف الكثير عما يُحاك ضد الوطن.
توالت المؤامرات على الشعب السُّوداني وثورته بواسطة اللجنة الأمنيَّة وحليفها الاستراتيجي غير الموثوق فيه "حميدتي" فنشطت الرحلات المكوكيَّة بين الخرطوم وإثيوبيا، انبثقت عنها الوثيقة الدستوريَّة المعيبة والاتفاق عليها بتقاسم السلطة مع العسكر في ٥ يوليو ٢٠١٩م، أي بعد ٣٣ يوماً من جريمة فض الاعتصام، بصورتها المقلوبة، مثلما رفعها "حميدتي" ليرى الناس انجازه! حينها تأكَّد لنا، ولا زلنا نعتقد، أنَّ الحراك و"الثورة" العظيمة اُختطفت وانتهت وكأنَّها لم تكن. نعم، استطاعت اللجنة الأمنيَّة افراغ حراك و"ثورة" الشعب السُّوداني من مفهوم ومضمون الشرعيَّة الثوريَّة، فخرج المجرمون كما الشعرة من العجين!
أثناء المفاوضات بين حكومة الأمر الواقع في الخرطوم مع من سموا أنفسهم بتحالف "نداء السُّودان" حيناً، و"الجبهة الثوريَّة" حيناً آخر، و"حركات الكفاح المسلح"، وما هي كذلك، مرة ثالثة، فاجأ أردول رئيسه مالك عقار إير بتقديم استقالته، التي أطال التبرير لها دون الحاجة إلى ذلك. بيد أنَّه ترأس الجانب الحكومي المتآمر على الشعب الفريق "حميدتي". وعندما تأكَّد البرهان وحميدتي من خضوع "حركات الكفاح المسلح" لخطتهما تم تقسيمها إلى مجموعات صغيرة لمناقشة قضايا السُّودان الكبيرة والكثيرة بالتجزئة إذ تم تقسيمها إلى خمسة "مسارات". ماذا بعد؟ توجه القوم (حركات الكفاح المسلح بمسمياتها المختلفة وآخرون) مشحونين في طائرة خاصة إلى الخرطوم، وما هي إلا بضع أشهر حتى تم تقسيمهم مرة أخرى إلى أشياعٍ وانقلب عبد الفتاح البرهان وحميدتي على من لم يتبع ملتهما ولم يكونوا من شيعتهما في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، بتحريض من الكيزان.
غلب الرجلين السيطرة على الوضع وتنفيذ مخططهما نتيجة للضغط الجماهيري والشعبي غير المحسوبين، فلجأت قيادة الجيش والدعم السريع إلى مكيدة أخرى وهي دعوة أهل السُّودان إلى "توافق وطني"، فحشروا ونادوا، وتكاثرت المبادرات فلم تفلح، لأنَّ البرهان وحميدتي لا يريدان تسليم السلطة للمدنيين سلميَّاً. وما تصريح حميدتي بلسان المؤسسة العسكريَّة، أو الدعم السريع فكلاهما وجهان لعملة واحدة في زمن المسغبة، أنَّه لن يعطي السكين لأحد يريد ذبحه بها! الرجل محقٌ، فلن يجرء أي إنسان على ذلك، حتى لو كان نبياً. وفي منحى آخر، وبسواس من الشيطان، أتى حميدتي بمبادرة أخيرة في محاولة يائسة وبائسة جمع لها بعض من سمَّتهم الإنقاذ بالأمراء من ولايتي جنوب كردفان وغرب كردفان لبحث مسألة "الصلح القبلي والتعايش السلمي". المضحك والمبكي في الآن نفسه أنَّ خطوته تلك جاءت على أعقاب موقف النُّوبة الموحَّد ضد قوات الدعم السريع التي يتزعمها هو، والتي احتلت مدينة الياواك وأهلها نيام، عاثت فيها الفساد. ونحن نتساءل لماذا لم يعر حميدتي النُّوبة أي اهتمام من قبل؟ أليست قواته هي التي حاولت مراراً دخول مدينة كاودا بأمر من البشير وصديقه في الجريمة أحمد محمد هارون ليصلي فيها "صلاة الجمعة؟" بلى! أم أليست قوات الدعم السريع بقيادة "شيريا" هي التي قتلت المواطنين في كادقلي، ولو لا تصدي القوات المسلحة لها بقيادة الرائد، وقتئذٍ، "الجاو" لاستباحت المدينة ولسُحلت؟ بلى! أم أليس هو "شيريا" الذي قاد أكثر من ٤٠ عربة مدججة بالسلاح من مدينة الأبيض صوب جبال النُّوبة لضرب أهلها؟ بلى! أوليس هم نفس الناس الذين نقضوا صلح "سُورنيه" وليس "سُورني" بين المسيريَّة والنُّوبة في الياواك قبل عامين؟ بلى! سلسلة تساؤلات لا تنتهي بخصوص علاقة حميدتي وقواته مع النُّوبة.
ما يفقع المرارة أنَّ جراح النُّوبة لم تبرأ ولم تندمل بعد من تداعيات أحداث "الياواك" ويأتي حميدتي بما هو أشد استفزازاً للنُّوبة، ويخاطبهم بكل عنجهية في قاعة الصداقة أنَّ الجسور فُتحت لهم ليصلوا إلى القصر الجمهوري وأنَّ الأمر فيه خيار وفقوس! ثم طبق يتسأل من الذي فتح الجسور، في إشارة خبيثة إلى مجهول يعرفه هو، كما اعتاد أن يوهم الناس بأنَّ هناك طرف ثالث يخلق مشاكل السُّودان. أليس حميدتي الرجل الثاني في الدولة السُّودانيَّة، الآمر والناهي بعد البرهان مباشرة؟ بلى! إذن، نسأل نفس السؤال: لماذا منع حميدتي طائفة من الناس عبور الجسور بقفلها وأصدر الأوامر بالسماح بالعبور لموكب واعتصام الموز، ومواكب الكرامة ١، ٢؛ ٣، ٤ إلخ، دون أن يعترض سبيلهم أحد بالغاز المسيل للدموع أو الرصاص الحي؟ ... على أية حال، المحزن هو أنَّ أولئك الأمراء صفَّقوا وهلَّلوا وكبَّروا وقال بعضهم كلاماً لا يقوله إلا من يرضى بالذل والهوان. المعني هنا دون مواربة أو شك أو تأويل "الأمير" مجازاً "حسن تيه كوكو" الذي تفوه بأقبح العبارات قائلاً: "إنَّ المسيريَّة هم مصدر اقتصاد النُّوبة"!
عوداً إلى الاستهبال السياسي وتذكي البرهان وحميدتي، طلَّق الرجلان كل حلفائهما طلاقاً مرجوعاً، وعادا إلى من انقلبوا عليهم في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م وتم التوقيع معهم على الاتفاق الإطاري الحالي رغم المعارضة الشرسة من حلفائهما السابقين (الحركات المسلح، والكيزان وغيرهم). وبعد حين سيتم الفراق بينهما والحلفاء الجدد، أعداء الأمس. لا يفوتنا ذِكر أنَّ آخر من تم الضحك عليه ومخادعته هو المجتمع الدولي والعالم، وستتجدَّد دورة الجرثومة الخبيثة أو الدائرة الشريرة بوضع كل "البيض" في قفة واحدة ورميها بحجر كبير أو اسقاطها من علٍ لتتكسَّر. يُعد تصرُّف الفريقين ذكاءً متواضعاً مفتعلاً. هذا يذكَّرني بما قاله يوماً الأستاذ "ستيفن ووندو"، ممثِّل الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان بواشنطن قبل اتفاق السلام الشامل. قال "ووندو" لبعض الجنوبيين وأعضاء الحركة الذين عارضوا الاتفاق على ورقة التعاون المشترك بينها وحزب الترابي أي المؤتمر الشعبي، في لندن عام ٢٠٠٣م. إذ برَّر "ووندو" أنَّ من النتائج الجيدة لذلك الاتفاق هو "وضع حسن الترابي في السجن". واستطرد قائلاً: "استطاعت الحركة بدون أي جهد منها، في تحريض أبناء الترابي على "القبض عليه وحبسه وتم بذلك تحجيم تأثيراته السالبة. فإن لم تفعل الحركة ذلك لظل الترابي خارج السجن وزاد حال الحركة سوءاً لأنَّه رجلٌ سيء (Bad man).
أما بالنسبة للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان بقيادة القائد عبد العزيز الحلو، وحركة "جيش تحرير السُّودان" بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد نور، فلا تمر عليهما ألاعيب الكيزان في ثوب عبد الفتاح البرهان وحميدتي أو أي شخص آخر. فمصير الاتفاق الإطاري مجهول بيد أنَّ المتحدث الرسمي باسم حزب المؤتمر السوداني المهندس نور الدين بابكر ذكر يوم الثلاثاء ٦ ديسمبر أي بعد يوم واحد من التوقيع على الاتفاق "أنَّ هناك عدم ثقة بين المدنيين والعسكريين". أما الفريق البرهان فقد صرًّح مراراً أنَّ خروج المؤسسة العسكريَّة من السياسة مرهون بالتوافق الوطني الشامل. وفي الخطاب قال البرهان "الجيش إلى الثكنات والأحزاب إلى الانتخابات"، وبدون دراية صفَّق الحاضرون وطويلاً مما يدل أنَّ هذا الكلام كذب. وفي مناسبة أخرى صرَّح البرهان بأنَّ ما تم ليس اتفاقاً وإنَّما هو "توافق وطني". أما حميدتي فقد "اعترف بالأخطاء واعتذر" وانتشى القوم الظالمون! أما في لقاء صحفي في القصر مع الصحفية القديرة "لينا يعقوب" حيث راوغ البرهان وتردَّد في إجابته عن سؤالها: "من سيكون القائد الأعلى للقوات النظاميَّة"؟ والحاقاً لما لاحظناه في وجهه البرهان عند التوقيع، لقد كان مبتسماً وهو ممسكٌ بالقلم، ليس ابتسامة الفرح بالإنجاز لمصلحة الوطن، ولكن لنجاحه هو في خداع الكل، كل الوقت! وقد قال الشاعر أبو الطيب المتنبي وكأنَّه بين الحاضرين: وإذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنَّن أنَّ الليث يبتسم". وفي موضع آخر يقول، وكأنَّ ذلك على لسان البرهان وهو يحرِّض نفسه لخوض معركة مع الشعب السُّوداني وهزيمته مهما كلَّف حين قال:
"عليك هزمهم في كل معتركٍ وما عليك بهم عارٌ إذا انهزموا"