تراجيديا استشهاد ابراهيم مجذوب

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
الصراع في السودان يتخذ طابع التراجيديا الاغريقية او هو اقرب لميلودراما الافلام الهندية، فيما عدا توقع النهايات السعيدة. فحادثة كاغتيال الشهيد ابراهيم مجذوب تلخص ليس حقيقة الصراع فحسب، وانما طبيعة ونوعية المتصارعين.
فمن جانب، يجسد الشهيد مجذوب نبل الثورة، في تطلعاتها لحياة تظللها الكرامة والحرية والعدالة، في بيئة سياسية وسلطوية معافاة. اي هي رد اعتبار لانسانية الانسان، ولوظيفة الدولة ككيان مؤهل للقيام بمهامه. كما انه استشهاده بتلك الكيفية البطولية، اكدت المؤكد فيما يتعلق بجسارة الثوار، من خلال التصدي الاعزل لقوي البطش المدججة بكل انواع الاسلحة، وقدر غير قليل من الغدر والخسة. اي كل ما يحوزونه في مواجهة الآلة القاتلة، هي الصدرو العارية، إلا من الايمان بسمو قضيتها وحقوق شعبها.
اي الشهيد ود مجذوب جسد بتقديم جسده فداء لثورة الانعتاق من ربقة الاستعباد. قيَّم الحرية في اقصي تجلياتها، عبر التحرر من الخوف. ليتوج كواحد من الابطال الذين ولدتهم الثورة السودانية، وانجبتهم الانسانية في تمردها ضد الطغيان. كمشاعل تضئ الدروب لكل من يرغب في حياة تمنح الحياة المعني.
وهل هنالك معني اكبر ان يتحول الموت برهبته والم الفراق باوجاعه، وفعل الاغتيال بخساسته، لحياة اطول! بتحوله لاضافة قيمية (بسالة/مصداقية/اخلاص) في ميزان الترقي الانساني الطامح للتحرر، وعيش الانسان كما يهوي. اي تكثيف الحياة القصيرة (ستة عشر ربيع) بحساب الزمن، الي افق مفتوح في الزمن. يتحدي مكر النسيان والتجاهل وبهتان الاثر، الذي يلاءم الحياة العادية (العبور منها كما الدخول)، الي البصم علي تحديات الزمان وعقباته بوسم الجدارة والاستحقاق.
وفي الجانب الآخر، يمثل العسكري القاتل رغم حمله السلاح، كل مخازي الجبن والغدر والوضاعة، والتعدي علي اعراف وقيم وحقوق المجتمع. اي يجسد العسكري بفعله الاجرامي، جماع قيم ومنظومة عمل الاسلامويين منذ استيلاءهم الغادر علي السلطة بقوة السلاح. وقبلها (مرحلة الاستضعاف) كانت القيم تشابه قلة الحيلة، وهو ما جعلها تتخذ طابع الخداع والغش للبسطاء، والتملق والمسكنة للاقوياء (الذين مثلهم نميري ونظامه)!
والحال كذلك، رافق استيلاءهم الغادر علي السلطة، التجيير الكامل لوظائف الدولة ومواردها، لصالح فئة محدودة. لا يصدف تجردها من كامل ارتباطاتها بالمجتمع، او بالاصح صنعت مجتمع زيف وطبقة اكثر تزييف، في موازاة مجتمع الدولة! الذي تحول لكم مهمل لا قيمة له، في حال لم تتم استباحته اذا ما اعترض سياسات الاسلامويين وممارساتهم الاجرامية الاستفزازية. ولذلك هي لم تستنكف استخدام كافة الوسائل والاساليب والادوات، التي تمكنها من المحافظة علي الامتيازات غير المستحقة، ولو ادي ذلك لانهيار الدولة وهلاك المجتمع.
وبناءً علي هذه المرجعية الانانية الاستعلائية المتحجرة، تم تصميم عقيدة الاجهزة العسكرية والامنية والشرطية والمليشياوية بتعدد مسمياتها ووظائفها، واضيف لها مؤخرا الحركات المسلحة، علي طريقة (شبهينا واتلاقينا). والحق يقال، هي سلفا بمختلف مسمياتها وتخصصاتها، لها استعداد مسبق للتماهي مع تلك العقيدة. اي الاسلاموية مجرد مثير ومهيج لحب السلطة ونزعة التسلط، التي تسم طريقة عمل وسلوكيات تلك المؤسسات والاجهزة. والتي ورثتها بدورها من بيئة استبدادية صنعتها المؤسسة العسكرية، وللمفارقة اصبحت صنيعة لها، مما انتج حلقة جهنمية عجزت ثلاث ثورات عن كسرها والتحرر منها.
ونظام الانقاذ الاسلاموي، كمنظومة اغتراب عن المجتمع واحتقار لقيمه وتعالي علي خياراته. فهي بطبعها تمتلك نوازع تسلطية متطرفة. وليس مصادفة والحالة هذه، ان يكون سبيلها للسيطرة والتحكم استخدام ادوات ووسائل العنف والاستثمار في الارهاب واشاعة الخوف. ومن هنا حرصت علي اختراق المؤسسة العسكرية، كما اهتمت بصنع كوادرها ونواة اجهزتها الامنية الارهابية منذ وقت مبكر. وبعد الانقلاب تبنت مشروع جذري لادلجة القوات المسلحة اسلامويا، وهو عينه ما طال كل المؤسسات ذات الصلة بالامن، وهذا غير توسعها في تاسيس ورعاية مواعين الضبط والرقابة والتجسس. الشئ الذي احال نظام الاسلامويين السلطوي، الي نظام عسكري وامني بامتياز.
وللمفارقة، الهواجس الامنية التي شكلت محور حركات وسكنات النظام الاسلاموي، لفقدانه الشرعية الدستورية. هي نفسها كانت السبب في تطوير وتوسيع الجوانب العسكرية والامنية، علي حساب البراغماتية السياسية، التي تسمح بتقاسم السلطة مع الآخرين. وهو ما وجد تمفصله في حادثة المفاصلة، كاكبر تحدٍ واجه تماسك الاسلامويين. لينفلقوا لشقين، احدهما برئاسة عراب النظام الترابي الذي عاد يلعق جراحه ويشاهر بالرغبة (المكر ) في العودة للحياة السياسية! وشق عسكري برئاسة البشير ورث كل ما راكمه الاسلامويون من اساليب ومخططات قذرة للبقاء في سدة السلطة.
المهم، اذا كانت الانقلابات العسكرية والانظمة التسلطية ليست بغريبة علي الدولة السودانية ما بعد الاستقلال، إلا ان انقلاب الاسلامويين استدخل ثقافة جديدة غير معهودة، وهي التمكين في مؤسسات الدولة (تطفل كالقراد)، واستباحة مواردها بطريقة نهمة وانتقامية. وهذا بدوره كان له تبعات مزلزلة ليس علي تماسك الدولة، ولكن اسهم بطريقة كاسحة في نشر الفقر والبؤس بين المواطنين. خصوصا بعد ان طال البيع مشاريع الانتاج ومؤسسات تقديم الخدمات. اي طبق الكيزان نوع من الخصخصة النهبية اذا جاز التعبير! ليصبح هنالك طريق واحد لمراكمة الثروة واحتكار الوظائف والرتب العالية والمكانة الاجتماعية، وهو اعلان الانتماء للتنظيم واظهار الولاء لقادته. وطريق واحدة للمحافظة علي ذلك وهو السياسة الباطشة والقوي المسلحة. اي باختصار اصبحت السلطة منبع الثروات والامتيازات والمحافظة عليها، وهذا غير قدرتها علي توفير الحماية للفاسدين والحصانة للمجرمين.
ونخلص من ذلك الي اننا لسنا حيال مؤسسة عسكرية او شرطية او امنية معنية بالحفاظ علي كيان الدولة او امن ومصالح المواطنين، ولكننا بالاحري حيال كيانات ومؤسسات عسكرية وامنية وشرطية، تتبادل المصالح مع السلطة، في حال لم تكن هي السلطة الحاكمة. اي اصبحت حماية المجتمع والدولة وحفظ النظام...الخ (وظيفتها الاساسية) مسالة شكلية، او نتيجة عرضية، لتبرير امتيازاتها التي تجنيها دون استحقاق! والحال كذلك تمددت السلطة العسكرية ونفوذ الاجهزة الامنية والشرطية في كل المجالات، وعلي الاخص المجالات الاقتصادية والاستثمارية، وصولا لمد علاقاتها (مصالحها الفئوية) مع الدول الخارجية. لذلك تعدت المسالة، دولة المؤسسة العسكرية الموازية، الي ابتلاع دولة المؤسسة العسكرية للدولة الاعتبارية!
والحال كذلك، اصبحت المصالح الاقتصادية هي المحرك للدوافع العسكرية والامنية والشرطية، وهذه الواقعة الاستعمارية للدولة والمجتمع، لم تجرد الدولة من وظيفتها والمجتمع من الحماية، بل وتفرض عليه الموت المجاني اذا ما طالب بحقوقه، ولكنها احدثت فراغ عسكري وامني، ملأته مليشيات الدعم السريع! وهذه بدورها ككيان غريب علي تركيبة الدولة، تمددت كالاخطبوط في كل المجالات العسكرية والامنية والشرطية، وكالعادة مدت نفوذها للساحة الاقتصادية والاستثمارية والعلاقات الخارجية، اضافة لمزاحمة المؤسسة العسكرية في الطموحات السلطوية لقادتها (مفيش حد احسن من حد)! وهو ما ادخل الدولة والمجتمع في متاهات (ادلجة العسكر وتمدد قوات الدعم السريع) الله وحده يعلم كيفية الخروج منها؟
وهذا المصير القاتم هو ما طبع الثورة السودانية بطابع التراجيديا الماساوية. خاصة وهي تقع بين قوي عسكرية ومليشياوية وحركات مسلحة، تسيطر علي السلطة وتجييرها لصالحها بقوة السلاح! وهي اصلا امتداد للنظام السابق، ومثله تفتقر للحد الادني من القيم الوطنية والاخلاقية! وبين ثوار وسياسيين ومدنيين سلميين، يطالبون بعد ثلاثة عقود من النهب والدمار، وبعد ثورة عظيمة، بحقهم في العيش الكريم في بلادهم، واستثمار مواردها الوفيرة لصالح الكل. والاهم المطالبة باستقلال قرار الدولة واسبقية اولوياتها، من الاستغلال والانحراف الخارجي (الاستغفال/الاستنكاح المصري علي وجه الخصوص).
ويبدو ان الاغتيال والاستشهاد علي هذه الطريقة التراجيدية جسد جوهر الاشكالية، وهي السمة الحدية التي تحكم العلاقات بين المختلفين، وهو ما افرز حالة الاستقطاب الحادة وانعدام الثقة. وهي بدورها غذاها الغدر و تكرار نقض العهود، كمحصلة للانقلابات العسكرية وتناقض وقصر نظر الانظمة الشمولية. والحال ان العلاقة الحدية وجدت نوع من الدعم والمساندة، في الرؤية التي تقسم العالم وعلاقاته الي قسمين متعاكسين. اما اسود او ابيض، تحكمه الشياطين او تلطفه الملائكة. وهي رؤية ان لم تكن صاح بالمطلق فهي ايضا ليست خطأ بالمطلق. بدلالة انها قد تصدق في وصف الواقع والوقائع، بقدر انحرافها وتضليلها عند التفسير والتحليل. وهي علي كل حال، ظاهريا يبدو انها الاكثر انطباقا علي احوالنا، ومشهد الاغتيال/الاستشهاد علي وجه الخصوص. الذي يمثل الشرطي فيه الشر المطلق بقدر ما يجسد الشهيد الخير المطلق. وتجسد فيه مطالب الثورة وانصارها كل الخير بقدر ما يجسد طمع وكنكشة الانقلابيين وداعميهم جماع الشرور. اي باختصار اذا كانت الثورة وقوي الثورة تمثل احسن ما فينا كمجتمع يمتلك إرث حضاري ضارب في القدم، وهو ما يعني امتلاكه لقيم اصيلة مكنته من البقاء والاستمرار وصنع الحضارة. فان قوي الانقلاب واعداء الثورة تمثل اسوأ ما فينا، من همجية وبربرية وانانية، وجبن وخسة وانحطاط، كسمات لانهيار الحضارات وتحلل قيمها. اي هي دورة من دورات الحياة التي تغشي الامم وتعصف بالحضارات وتفكك الدول.
وللاسف يبدو ان هذه الحدية ترجع ايضا لنوع من الخلط بين القيم والمعايير، الاهداف والوسائل، الممكن والمرغوب، العقلاني والعاطفي. وهو ما انعكس علي تضييق ان لم يلقِ هامش الحركة والمحاولة والتجريب، ومن ثمَّ جعل ممارسة السياسة كفضاء للحوار والتسويات والتنازلات، محكوم ليس بالشكوك والظنون ولكن بانعدام الجدوي. وهو ما لم يقصر السياسيون في تاكيده، سواء بعدم الجدية والمصداقية او عدم المبدئية والانتهازية الصريحة، كوسيلة للتكسب السياسي بمردوده المادي والمعنوي. وترتب علي ذلك ليس حل المشاكل التي تواجه كل مجتمع، ولكن زيادة تعقيدها وانتاج مشاكل جديدة لم تكن في الحسبان. اي الدخول في متاهة او نوع من الماساة التراجيدية السالف ذكرها. بعد ان اصبحنا محكومين مع مرور الايام، بكثرة المشاكل و وزيادة تعقيداتها، بالتوازي مع زيادة العجز وعدم القدرة علي حلها. فهل بعد ذلك والحال كذلك، يصح السؤال او انتقاد التدخلات الدولية والاطماع الاقليمية؟
وما يهم ان الشهادة والبطولة والثورية رغم نبلها، إلا انها يجب ان تصبح وسائل لاهداف انبل، تعلي من قيمة الحياة وليس الموت، من الصالح العام وليس الصالح الخاص (وجهة النظر الفئوية)، ومن المستقبل وليس الماضي. وهذا بدوره يستوجب مراجعة الادوات والوسائل وتوفير كل اسباب الحماية والسلامة. والاهم الاهتمام بمرحلة الاهداف في حدود الامكانات. ومراعاة او اقلاه تفهم اطماع ومخاوف الانقلابين الذي عمليا يسيطرون ليس علي البلاد، ولكن علي القوة المسلحة التي لا يستنكفون استخدامها، عندما تتعرض مصالحهم ومخاوفهم للتهديد. وإلا لماذا اصرارهم علي بقاءها كما هي، اي قواتهم الخاصة وبتركيبتها وعقيدتها المنحرفة، وبعيدا عن سيطرة المدنيين ورعاية مصالح البلاد؟!
والمقصود بالتحديد تسيس الصراع، او اقلاه قبول تسيسه في هكذا ظروف ومخاطر تكتنف المشهد الراهن. وهو ما يستوجب التحرر من خانة وعلاقات الحدية، التي تتمظهر تجلياتها بشكل خاص، في العلاقة ما بين لجان المقاومة والمكون العسكري. وتجد تعبيراتها العملية في طريقة تسيير المواكب، وردة الفعل العنيفة في مواجهتها.
ولتجسير هذه المسافة التي تبدو وكانها غير قابلة للتجسير، يمكن الرجوع لتراثنا والاستفادة من خبراتنا المحلية في حل الخلافات (الواسطة والجودية) بعد تخليصها من عيوبها، وتطعيمها بمنجزات الحداثة كالعلم والمؤسسية واحترام النصوص القانونية والالتزامات. بمعني، ان تتبني الوساطة ما يمكن تسميته لجنة حكماء ( او ما يشبهها من الاطروحات الكثيرة المتداولة) التي تعبر قبل كل شئ عن الحكمة. التي لم يكتمل نصابها يوما من الايام، لنوُّرث كل هذه الخيبات. وهي لجنة لا تختص بتجسير المسافة فقط، ولكن الاستمرار طوال فترة الانتقال وما بعدها. وهي بالطبع ليس بديل عن الاتفاق الاطاري، ولكن لتمنحه بعدا اكثر شمولا وتعبيرا عن مطالب الثورة.
اما كيفية تكوين اللجنة، فهي بسيطة، عندما نعلم المطلوب منها. وهو القدرة علي الاقناع، وتوفر الخبرات العلمية والحلول العملية ووضع اعتبار للابعاد النفسية والاجتماعية وتعدد الاختصاصات، والعمل كشاهد (انسب من ضامن) امام الشعب؟ ولحسن الحظ لدينا من الخبرات الفكرية والسياسية والقانونية والعسكرية والاعلامية والاجتماعية والابداعية، ما يسد عين الشمس. وقبل ذلك لديها الرغبة في توظيف معارفها وخبراتها لخدمة الوطن وشعبه، لوجه الله والوطن والانسانية. اي دون مطامع او مخاوف تحد من حركتها او تثير حساسية آخرين. ومما يسهل من الاختيار وجودها في المجال العام، من موقع الفاعلية والنشاط والحرص علي المصلحة العامة. وكنماذج بسيطة قابلة للاضافة، يمكن ان تتكون من، دكتور الشفيع خضر ودكتور الواثق كمير ودكتور النور حمد والاستاذ الحاج وراق، ومولانا سيف الدولة ومولانا عبد القادر محمد احمد والقانوني علي عجب، ومن الاكاديميين البروف محمد الامين التوم والبروف مهدي التوم ووالخ القائمة من الاساتذة والآباء الاجلاء. لانه بصراحة لا توجد دولة علي هذه الدرجة من التحطيم والشرذمة والاختلافات والتسليح، وقبل ذلك تعاني تركة ثلاثة عقود وثلاث سنوات من الاستبداد والفساد علي اسوأ واحط صورها. قادرة علي الوقوف علي ارجلها من جديد، وتفادي الانزلاق الي المخاطر، من دون التوافر علي كلمة سواء، ولو في حدها الادني. وهذا بالتحديد ما نقصده بالحكمة، وما يمكن ان تلعبه لجنة الحكماء.
واخيرا
مخرج اول، عجبا للمملكة السعودية، تدخل انفها ووجهها كاملا في الشئون السوادنية، بدليل هي ركن اساس من المكونات الخارجية التي ترعي العملية السياسية، وقبلها يقاتل الجنود السودانيون بدل قواتها في اليمن، وتمنح عميل سوداني بدرجة جنرال (في العمالة بالطبع) وهو المدعو طه عثمان جنسيتها وتوظفها داخل حكومتها. وبعد ذلك تتهم وتحاكم ناشط سوداني، بحجة انتهاكه لقانون المعلوماتية. مع العلم ان المسألة لا تتعدي الكيد من موظف سفارة سوداني تافه في المملكة. والمحير حتي ما يعتبر جرم هو في حقيقته مدح لمنجزات المملكة العمرانية والخدمية، من موقع المقارنة مع حالة الخراب الذي باض وفرخ في بلادنا المنكوبة! وهو ما يدعونا للطلب من سلطات المملكة ان تراجع قرارها بمعاقبة الناشط هشام عباس، وان تطلق سراحه فورا، وتقدم له اعتذار وتعويض عما لحق به وباسرته. وإلا ما قيمة الاصلاحات التي تروج المملكة لتبنيها، وتخسر من اجلها المليارات؟!
مخرج ثان، لم أُعجب واحترم قائد سياسي سوداني كما اعجبت واحترمت المرحوم محمد ابراهيم نقد، وزاد هذا الاعجاب والاحترام بحضور ندوة في مجمع شمبات واخري جماهيرية في الديوم الشرقية. لاجدني امام شخصية تجسد الوعي والبساطة والتواضع والسخرية المحببة، وهو ما وجد صداه في الاعتكاف في محراب حب الوطن والنضال من اجله والتزام رغبة الخير لشعبه. ولذلك ولغيره الكثير، المرحوم نقد مع صنوه الشهيد محمود محمد طه، مؤهلان لاحتلال مكانة وتقدير نيلسون مانديلا والمهاتما غاندي، كشخصيات انموذجية عالمية، لولا تباين السياقات التاريخية ونوعية الخصوم (الفرق بين تعامل دول متحضرة وهمجية عسكر انقلابيين). والشاهد في الموضوع، ان اقرب شخصية للمرحوم نقد، وتكاد تكون استلفت منه كثير الصفات والمميزات، هو الدكتور صدقي كبلو. الذي تميزه ايضا المصداقية والمعرفة الموسوعية والقدرة علي تبسيط القضايا والابداع في طرحها. وكذلك وهو الاهم التزام مصالح شعبه وعلي الاخص طبقاته الكادحة. ورغم ذلك إلا انه كالحزب الشيوعي، يشكلون احد اقطاب الحدية السالف ذكرها، وهو موقف لا يتلاءم مع هشاشة الاوضاع الراهنة. وهو ما يبرر القول ان الشيوعيين هم ابرع من يحلل سياسيا، ولكنهم كذلك اسوأ من يختار الوسائل السياسية. والاكثر سوء من ذلك، يكاد الشيوعيون يتحولون الي سلفيين، فيما يتعلق بعقيدتهم الراسخة في الوسائل المجربة (ثوابت صالحة لكل زمان ومكان). او باستلاف تعبير الاستاذ صغيرون انهم يقدسون او يصنمون الوسائل. والنتيجة تصنيم الحزب نفسه، خصوصا جوانب عدم المرونة والقابلية للتغيير. وهو ما منع عنه التطور الطبيعي واورثه الانشقاقات، والنزعة الثورية الجذرية (تستهين بالتحديات لمخالطتها الجوانب القيمية) في التعاطي مع قضايا وتعقيدات ذات طابع سياسي، يلاءمه احيانا قدر من البرغماتية والتنازلات. ودمتم في رعاية الله.

 

آراء