“تس سليلة دبرفيل” لتوماس هاردي: فتاة ريفيَّة في تعاسة (2 من 9)
shurkiano@yahoo.co.uk
وبعد قضاء أربعة أشهر في تانتردج، وفي صباح يومٍ خريفي تحمل تس متاعها وتضعه في سلَّة عشبيَّة، وتقصد مدينتها وهي ممنية نفسها أن تعود إلى سيرتها الأولى. إذ يلوح في ذلك الصباح الأكتوبري أليكس، ويحملها في مركبته التي ظلَّت تجرُّها الخيل إلى مسقط رأسها، وهي في هذه الحال مكسوفة البال، وفي نفسها شيء من الحسرات. ولعلَّ قلَّما يمكن أن توصف به تلك الرحلة أنَّها تخلَّلها عتاب وارتياب من جانب تس، وغطرسة وعجرفة من قبل أليكس، وتفارقا على قبلة خديَّة يقدم عليها الرجل الأبيض المهذَّب في مثل تلك الأثناء. وحين فارقت تس مدينة تانتردج أراحت نفسها – أو هكذا ظنَّت – إلى الأبد من رؤية تلك المناظر المؤلمة الممضَّة، وقد وجدت لنفسها بدَّاً من الفرار من وجه أليكس شأن الطيش النزق بين يدي الرزانة والحلم. وقديماً قالوا إنَّ الأفعى لتوجد حيث تغني الطيور الجميلات.
فها هي تيس تمكث أشهراً مع أسرتها، وها هي تفقد الطفل الذي أنجبته بعد أن حملته سفاحاً من ذلك الوحش البشري أليكس. فبعد كل ذلك وذاك تمسي تس تعيش ميؤوسة وذا بالٍ كاسف، و يأخذ الحزن والغضب يستبدَّان بها، وتعصف بها الحيرة، وتزيدها أسفاً وكآبة تلك الحياة التعيسة التي ظلَّت تعتاشها. وبعد أكثر من عامين تسافر تس إلى مدينة أخرى لتعمل كحالبة اللبن لصاحب مزرعة يُدعى ريتشارد كريك. وفي ذات يومٍ تتحرَّك في المساء كباغي الماء يتبع السراب قاصدة تلك المدينة سيراً. وإنَّها لفي طريقها تجد أحد المسافرين راكباً في ذلك الاتجاه؛ وإذا بهذا الشخص الرؤوف يُقدم لها عرضاً بحملها تلقاء تلك الوجهة؛ وإذا هي تقبل دون أن تكترث من المصائب، أو تخشى على نفسها من غدر الأجانب؛ ثمَّ إذا بهذا العابر السبيل مع ما كان عليه من الفضل والنبل يُوصلها إلى نقطة بعينها ويتركها، وتواصل تس طريقها صعوداً وهبوطاً حتى تصل المدينة في مساء ذلك اليوم، وتجد القوم في عمليَّة احتلاب الأبقار رجالاً ونساءً بما فيهم صاحب المزرعة ذاته.
وما هي إلا لحظات بعد عبارات الترحاب، حتى تنخرط هي الأخرى في العمل وسط هؤلاء الشغالة، وأمست تسمع حكاويهم ونكاتهم وغناءهم للأبقار حتى تستطيع هذه الحيوانات أن ترخي أعصابها وتدر ألبانها، وحقيقاً قيل إنَّ الفن فضيلة روح الإنسان والحيوان والنبات على حدٍّ سواء. وفي تلك الأثناء أخذت صواحبها – باعتبار ما يكون – يقولن أفرأيتم هذه الفتاة الجديدة وهي تشع نضارة في حسنها وفي عمر الدوالي، ولم تشب أمانيها بعد. وترد أخرى بأنَّها لم يفارق منظرها عيناها لحظة، أو بارح شكلها خيالها. وإنَّها لكذلك حتى هدأ قلبها، وسكنت نفسها، وهي تمني نفسها بعيشة أمل صادق، ورجاء واعد، وترجو أن تكون هذه البقعة الجديدة هي الواحة الخصبة التي يفيء إليها السفر بين الأين والكلال.
وفي صبح من الإصباح، كانت أنظار الجميع مصوَّبة إلى تس، بما في ذلك تلميذ صاحب مزرعة البقر، وأيقنت منذ الوهلة الأولى بأنَّ هذا التلميذ قلبه متبول بها، ومتيمٌ بإثرها. ثمَّ إذا هي تتناساه وتواصل فطورها في فتور، ثمَّ يقول هذا الشاب في نفسه لنفسه ما أجمل ابنة الطبيعة في بكوريَّتها الطازجة! ومن هنا تبدأ تس تسرح بخيالها في الزمان الغابر، وتشعر بشيء في نفسها يأخذها إلى الماضي الماتع في عهد الصبا وريعان الشباب. وقبل ضرورة استيعاب الفكرة تمسي السماء غبشاء ملبَّدة بالغيوم. ومن هنا يستنتج الشاب أنَّه حدث أن هام بحمل يدها أثناء الرَّقص، لكنه لم يتذكَّر أين كان ذلك ومتى. إذ ربما كان ذلك صدفة عابرة بلا كلام في إحدى الجولات الرِّيفيَّة التي كان فيها، ثمَّ لم يكن فضولاً لها بشيء هو وأقرانه، ووقفوا برهة وتعاطوا الرَّقص مع فتيات القرية، حتى سبقه زملاؤه في المغادرة، والتحق بهم بعد هنيهة، تاركاً تسَّاً يتلوَّى من الوجد واللوعة، وتغالب التحنان والهجرة. بيد أنَّ الظرف كان كافياً في أن يقوده لاختيارها تفضيلاً عن الآنسات الحسناوات الأخريات متي ما رغب ذلك في أشدَّ ما تكون الرغبة في التقرُّب إلى عالم النساء.
وتمر المواسم والأعوام ويمسي الشاب أنجيل كلير وتس يتقابلان كأنَّهما نهران في وادٍ واحد، وذلك بعد أن درس كل منهما الآخر. ففي صباح ربيعي إنكليزي كان هناك طائر يشدو على فنن، ويجدِّد الذكرى لذي شجن، وتبتسم الأزاهر والورود على من كان ذا وجه مكتئب، وتتلألأ قطرات النَّدى على أوراق الشجر والحشائش كالدرِّ يلمع في الضياء الباهر. وكان اللقيا وسط الشجيرات والأزاهر ذات الألوان تارة، وأمام الفراشات والطيور التي تشجو على الأفنان تارة أخرى، وتنساب المياه هديراً وتسكاباً أمامهما وهما يرتشفان نسيم الصَّبا العليل، أو يستمتعان بضوء الصباح الرباح. وبما أنَّ أنجيل كلير كان قد أحسَّ بما بها من مآسي دفينة، ورآها عصيَّة الدمع، وكانت صاحبة حشمة وحرمة، طلب منها أن تشاركه أحزانها سرَّاً أو علانيَّة وفي ثقة تامة، إلا أنَّها أمست تظن أنَّ للأشجار المحيطة بهما آذاناً تطفليَّة، وكانت تقول له دع عنك لومي مهما كان لومك إغراءً، وحدِّثني عن شيءٍ آخر يسرُّ القلب، ويرفع الكرب، ثمَّ إنَّها أخذت تقول في نفسها لنفسها كيف على رجلٍ محبوب وشاعر أن ينحدر إلى وادي الخزي السحيق. فبينما كانت تس جائلة الفكر في تلك الهواجس والأوهام الخياليَّة، حاول أنجيل أن يسكن روعها ويهدِّئ خاطرها، ولكن دون جدوى. ومع ذلك، كان صاحب المزرعة على علم بما كان بينهما من المحبة الغالبة على أمرهما.
وللرواية بقيَّة،،،