تصدير كتاب: ثورة الوسط: أشواق الإنسان المهدور للوليد مادبو

 


 

 



abdallaelbashir@gmail.com


وتمضي الأمور من جهالة إلى جهالة، حتى يغدو الفكاك من ربقتها مستحيلاً، إلا بقفزات هائلة في الخيال، أو بثورات هائلة في الروح .

الروائي الطيب صالح (1929م- 2009م)


يضم هذا السفر الموسوم بـ: ثورة الوسط: أعالي أشواق الإنسان المهدور، بين دفتيه أفكاراً وآراءً في شؤون الفكر والثقافة والسياسة والتنمية، وألوان من التعبير عن المواقف تجاه بعض قضايا السودان والإنسان والإسلام والمستقبل. وينطوي ضمناً على دعوة لإعمال الحس النقدي، بل الثورة على المألوف الفكري والسياسي، مع حض على تكثيف المواجهة للعقل الثقافي السائد وتوسيع لدائرتها، في سبيل إحداث التغيير والتحرير وأنسنة الحياة. فالسفر يعبر بفصاحة عن حالة القلق والاضطراب والربكة العنيفة التي تعيشها العقول والفهوم والثقافات وأنساق القيم في العالم الثالث، خاصة في مجتمعات التنوع والتعدد الثقافي، وبشكل أخص في السودان. ففي الوقت الذي تشهد الأرض فيه انفجاراً معلوماتياً وتسييلاً للمعرفة وتمدداً للحياة الرقمية Digital Life لتغدو بديلاً موضوعياً ومعادلاً زمانياً للحياة التقليدية المتكلسة والمنكمشة مع صباح كل يوم، في هذا الوقت استيقظت شعوب السودان فوجدت كل مؤسساتها الحاملة لرمزية الحداثة، وذاتالعائد التنموي، قد تبخرت ناحية السماء. فقد تلاشت السكك الحديد وتلاشت معها الذكريات، وقد دشنت خطوطها في ربوع السودان قبل قرن ونيف من السنين. كان أول قطار قد دخل محطة الخرطوم العمومية، كما حكى الشهود في مذكراتهم، في عصر يوم الخميس، الثالث من نوفمبر عام 1910م . كما انهار النقل النهري، والخطوط الجوية السودانية، ومؤسسة البريد، ومشروع الجزيرة، وجامعة الخرطوم، ...إلخ. لم يسعف شعوب السودان، إرثها السياسي المتراكم منذ استقلال السودان عام 1956م، في أن تعيش اللحظة الراهنة بسلام وتنامٍ في التضامن، فقد أدركت أن ذلك الإرث السياسي لا يعنيها في شىء، فتبخَّر بدوره وفقد قيمته ولم يعد موضعاً للاحتفاء، إن لم يكن غذاءً لخيالات الصراع والصدام وتبريراً لثقافة التشظي. لقد تخمَّر كل شىءوتبخر، ولم تبقَ سوى سِير الصراعات ورائحة القبور والثأرات السياسية والحزازات الثقافية، والذكريات المؤلمة لانفصال الجنوب، والسعى لقولبة الشعوب في وجهة التماثل الثقافي، والإزعان في العمل ضد الأعراق الخلاسية . حدث هذا في بلد، ما كان أجدره أن يغذي الخيال العالمي ويعلم البشرية معاني التسامح والتضامن والتكافل والتعايش والتدافع بأصالة وأخلاق. لا هتاف ولا فخر هنا، وإنما مراهنة على قدم وأصالة التنوع والتعدد الثقافي، ومراهنة على مستقبل بيئات التنوع ومجتمعاته، فهي إن تعافت ولازمتها صحة المسار، فإن الخبرة فيها لا تقف عند حدود قبول الآخر؛ وإنما الخروج من الذات لملاقاة الآخر. لا شيء يؤذي مجتمعات وبيئات الأعراق الخلاسية ويتلف مخزونها من الجمال، وهي الشاهد الماثل على قدم التنوع والتعدد الثقافي وأصالته واستمراره وتجدده، لا شيء يؤذيها ويتلف جمالها ويمزق ذاتها ويبعثرها، مثل عبث بنيها بسوقها في وجهة تناقض إرثها الحضاري،وتصادم "آركيولوجيتها" الثقافية، وتناطح تركيبتها الوجدانية. الشاهد أن كل هذا ينبىء بأن أساس البناء في السودان يحتاج لإعادة نظر، وأن التبادل بين الثقافات، والعلائق والصلات بين الشعوب في حاجة لإعادة توصيف وسودنة، وأن مسيرة التنمية وقصة النسيج الاجتماعي حملا غبناً وتراكماً للمظالم، وأن الحلول للقضايا ظل ديدنها التسكين والجزئي والمؤقت، وهذا ما لم يعد يجدي نفعاً، فيجب تجذير الحلول ومخاطبتها عمق القضايا لا نتائجها. وبالطبع، لا يُقرأ كل هذا بمعزل عن المعرفة الاستعمارية وما صنعته من مناخات، ولا يقرأ بمعزل عن حالة الانقطاع عن الجذور في كوش والممالك النوبية، ولا يقرأ أيضاً، بمعزل عن العوامل الإقليمية ومصالح القوى الدولية المتوسعة، المتجددة والمستمرة.


في هذا المشهد يقدم الدكتور الوليد موسى مادبو إلى السوح الفكرية والثقافية والسياسية، عبر هذا السفر، وثيقة صاخبة، وشهادة شجاعة، تقوم على النقد، وتسعى للنطق بلحن الواقع، وبصوت الناس في الشارع، وتؤرخ الأفكار فيها لما آل إليه حال السودان من صدام وصراع. اعتمد الوليد مبدأ المواجهة في التعبير عن رأيه ومواقفه تجاه الأحداث والقضايا، مذكراً بحالة الإفلاس في الحكمة والفكر والرحمة، والتي مهدت بدورها لوضعية احجام القادة في مختلف الميادين والقصور، للتعبير الشجاع عن الرغبة في فكرة إقامة الشراكة والبناء الجماعي للمستقبل. سبق للمؤلف أن أثرى بجل مقالات سفره هذا، السوح السودانية، إذ نشرها في صحف محلية عديدة، خلال الفترة ما بين 2005م وحتى العام الحالي 2012م. لقد تهيكل السفر في مقدمة وخمسة محاور وخاتمة. اشتملت المحاور على خمسين مقالاً، كما أفرد المؤلف محوراً خاصاً لأطول وأهم موضوعاته والذي جاء بعد المقدمة بعنوان: "المدينة الآثمة". تمحورت المقالات الخمسون حول موضوعات عديدة وقضايا سياسية وفكرية متنوعة، منها: حال التشظي التي يمر بها السودان ومأساة دار فور. فقد تناول المؤلف دارفور في مقالات عديدة. كما أثار المؤلف مسألة الدستور الإسلامي والشريعة، وقدم تعريفاً بالحكمانية (الحوكمة) باعتبارها من العلوم الحديثة، وتنويراً بمسألة الحكم المحلي بمنظور الحكمانية في العالم العربي مع التركيز على السودان، وقراءات في التصوف لا سيما ابن عربي، وأحاديث عن الربيع العربي وتأملات نقدية في الطائفية والقيادات السودانية، ومراجعات سياسية وفكرية، إلى جانب نظرات في الفلسفة التعليمية والواقع الثقافي وفي دنيا الجمال والجسد والروح ومحاولات لفرز انفصام الوجدان عن تلوناته. ثم ختم المؤلف كتابه بأفكار حول الإصلاح القومي وقدم ملامح وخطوط عريضة تخاطب مستقبل السودان.

مثلت دار فور حضوراً ومرتكزاً أسياسياً في هذه السفر. وتحدث المؤلف عن دار فور بمعرفة عميقة بدارفور وبدراية وافرة بشعوبها وبدربة طويلة على أراضيها. لقد حدثنا المؤلف عن شعوب دار فور وقُراها ووديانها وسهولها وفلكلورها الشعبي ومفرداتها، ووظف فلكلورها في توصيل بعض المعاني للقراء. إن دارفور عند المؤلف هي مرتكز السودان وبوصلته الروحية. كما أنه انطلق في حديثه عن الحرب في دار فور بتساؤلات وهو يتحدث عن توسع الحرب، يقول المؤلف:

إن نزيف الدماء قد تجدد، وتوسعت رقعة إنسيابه. فبعد أن كانت الحرب بين الزرقة والعرب، أصبحت بين العرب أنفسهم، ولم تتورع حتي كاد القتال يحتدم بين فرعي القبيلة الواحدة  (المحاميد والمهرية فرعي قبيلة الرزيقات، كبري قبائل السودان). وفي كل مرة نتغافل عن الفاعل فلمصلحة من تستمر "ناقة فني" في تفننها لإفناء هذا الشعب؟

إشارة المؤلف لـ "ناقة فني"، هو إشارة لأسطورة شعبية حكاها المؤلف وأفاد بأنها أسطورة متداولة في منطقة الحزام السوداني عن ناقة خرجت بوليدها من أحدي الرهـــــودالمتناثرة في شمال (أو غرب) دارفور... إلخ، حكى المؤلف الأسطورة ووظفها توظيفاً فنياً رائعاً، يمكن للقارىء الاطلاع على الأسطورة في الجزء الرابع من هذا السفر، ضمن مقال بعنوان: "ناقة فني". ثم طرح المؤلف تساؤلات جوهرية عن الحرب في دارفور، يقول المؤلف:

من الذي يدبر الإغتيالات ويحيك كل هذه الفتن؟ من ذا الذي إذا نظرت إليه علمت مباشرة بأنه من "المكونات غير العضوية" لشعب دارفور؟ و من المستفيد الفعلي من إستمرار هذه المحرقة؟ كيف تغافل الجميع عنه طيلة هذه المدة؟ هل هناك إرادة لإستئصاله؟ من يعيق مثل هذه الفعلة وماهي دوافعه؟

يعبر المؤلف عن حزنه لأن تكون دار فور ساحة لتصفية الحسابات، ولقتال أبناء دار فور بعضهم بعضا، يقول المؤلف:

أنه ليحزنني حقاً أن تتخذوا من دارفور ساحة لتصفية حساباتكم، بل مما يجعل قلبي ينزف دماً  ما  أشاهده من قيعان معنوية يتسبب فيها قتال الغرابة لبعضهم البعض ومآسي إنسانية تستصغرها المدفعية وتستهونها قلوب الإمبريالية  الإسلامية.

لم يغب عن المؤلف الدور الدولي في دارفور، فهو يدعو للاستبصار ، ويدفع المؤلف بثلاثة أمور وصفها بالواقعية، والواقعية عند المؤلف عنصر من عناصر تحويل الهزيمة إلى عزيمية، لخص المؤلف عناصره الثلاثة دافعاً بها للقادة والمستقبل وهي:

أ‌.    لزم أن نأخذ قضيتنا بأيدينا فمن العار أن ندع المأساة الإنسانية لشعبنا تمر كملهاة في طاولة المناورات الإقليمية والدولية.
ب‌.    إن التحدي يكمن في صعوبة إنتشال دارفور وكردفان من واقع الإنهزام النفسي والإجتماعي، سيما الإرتكاسة الإقتصادية، السياسية والعسكرية: أمَّا أن نتحد،  فنواجه ونهزم الطاغوت أو نفني كما فنيت شعوباً من قبل. لكن، أن نفني دون أدني مقاومة فذاك هو العار، بل هو الشنار والتنكر لتاريخ أسلافنا المجيد.
ج.   في مدار البحث عن حلفاء يجب ان نعول أولاً علي إمكانياتنا الذاتية في تفعيل القضية، والإسهام في                      الشأن العام، إذ أن الإقصاء المُتعمد لشعبنا (من خلال الترميز) قد حرم هذا البلد من موروث هائل، عمق هوياتي فاعل،  ثراء مادي، موقع جيوإستراتيجي، إلي آخره.

لقد سكب المؤلف ذاته في كتاباته عن دار فور، وكتب عنها بقلبه وعقله، مستصحباً إرثه وطفولته وذكرياته فيها، ومدفقاً دموعه وإنسانيته وهو يتحدث عن الحرب فيها بحزن وأسى، وكيف أنها أصبحت ساحة لتصفية الحسابات وميداناً للصراعات الدولية. في تقديري أن حديث المؤلف عن دارفور قابلاً لأن يكون سفراً قائماً بذاته. وإذا ما تم ذلك فإنه يكون قد قدم خدمة تنويرية جليلة.

الشاهد أن هذا السفر لا يحمل إجابات للأسئلة أو حزمة حلول للقضايا، أو سناريوهات مخارج للأزمات بقدر ما أنه قدم نقداً قوياً، وأشار لمعالم بعض الحلول، ودفع بجرأة وشجاعة بالتساؤلات الكبرى. وهنا تبرز أهم ميزات السفر. فالسفر يكتسب ميزاته وقيمته من ثلاثة أمور، الأول: أنه طرح أربعة أسئلة كبرى، سؤال الأخلاق، وسؤال أزمة القيادات، وسؤال التنمية، التنمية على الأرض وفي العقول، وسؤال الدستور الإسلامي. والأمر الثاني هو أن السفر طرح موضوعات جديدة جسَّر بها التواصل مع مراكز الانتاج الفكري في العالم الأول، والأمر الثالث الذي يكتسب به هذا السفر قيمته هو شخصية مؤلفه.

ففي الأمر الأول الذي يكتسب بموجبه هذا السفر قيمته، أن المؤلف دفع بالأسئلة الكبرى التي تهم الناس وتتصل بمسار البشرية في الراهن والمستقبل، ودفع بها بالحاح تجلى عبر التكرار، وتبقى الإجابة على تلك الأسئلة هي المدخل الصحيح للمستقبل. يكاد لا يخلو مقال من مقالات المؤلف في هذا السفر من إشارة إلى الأخلاق، بل سؤال الأخلاق، كان هو الناظم والمشترك لموضوعات سفره هذا. فالمؤلف ينظر للأخلاق بمعناها الواسع، ففوق الأمانة والصدق ...إلخ من المعاني، فإن الأخلاق تتصل بالمسؤولية في شؤون اليوم وبالمسؤولية عن المستقبل، لأن أعمال اليوم تظل وتظهر نتائجها غداً. فالأخلاق عند المؤلف كلٌ لا يتبعض، وهي من مرتكزات الهوية الإنسانية (الإنسانوية)، ويجب دفع السياسة بها، كتب الوليد قائلاً: "وإذ أن الاخلاق لا تتبعض فإنها لا تتعنصر".ويقول: "إن دفع السياسة أخلاقياً أوجب وأولى من دفع الأخلاق سياسياً". ومثلما يشترط الأسس العلمية للتنمية فإن المؤلف يرى أن التنمية المسترشدة بالأخلاق تضمن الثمار  والاستمرار، يقول المؤلف: "إن التنمية التي لا تقوم على أسس علمية ولا تسترشد بهدي رؤى أخلاقية لا يمكن ان تثمر، ناهيك عن أن تُكتب لها الإستدامة". مع إقراراه بالغبن وتراكم المظالم، فإن المؤلف نبذ الإثنية، ورأى فيها حماقة تقود لتصدع ناصية الوطنية وتململ زاوية الأخلاق، يقول المؤلف:

منذ أمد غير بعيد دخل السودان دائرة الاستقطاب الإثني المستتر وراء الشرعية السياسية وتلكم الثورية، لكن ما أن هبت رياح الغيظ حتى أشهرت كل إثنية سلاحها غير آبهة بما قد تحدثه هذه الحماقة من تصدع في ناصية الوطنية وتململ زاوية الأخلاق.

وفي إبرازه لقيمة الحرية الفردية بتقاطعاتها مع الجماعة، يرى المؤلف أن إشراك الفرد في التفاكر حول الحدود الأخلاقية التي يراد له امتثالها، يحقق دوراً مستقبلياً وإيجابياً في علاقته بالمجتمع، يقول المؤلف: "إن إفساح المجال للفرد لمناقشة الحدود الأخلاقية التي يراد له الامتثال بها ينشئ علاقة تعاقدية تحقق على المدى البعيد توازناً اجتماعياً". وفي مقاله عن "حرية الضمير"، يقول المؤلف: "إن الإبداع حقيقة لا يمكن أن يتم في غياب الحرية التي لاتتأتى إلا بالتحرر من الأغيار". ويربط المؤلف بين الحرية واللبرالية والسياج الأخلاقي ودوره في تأطير شروط الدخول في المستقبل حيث الأسس العقلانية الليبرالية المنوط بها تشييد سودان المستقبل، يقول المؤلف:

"إن رغبتنا في تجاوز كل هذه العقبات لتشييد سودان قائم على اسس عقلانية وليبرالية تحترم الحقوق الفردية دونما أدنى تغول على الحقوق الجماعية. إن نادينا يتشكل على انقاض وليس من خلال النادي القديم. ليس أوفق من طه عبدالرحمن في تعريفه للفاعلية العقلية للإصلاح التي تستلزم حسب تصنيفه "إيجاد نموذج بصير بشؤون المراقبة متحقق بالفهم متمرس بالتجديد"، لانه بذلك يؤطر الليبرالية بسياج قيمي وأخلاقي ويفسح المجال غير محدودٍ للعقل كي يسهم في حل المعضلات التي تعتري البشر". . 

الشاهد أن سؤال الأخلاق الذي دفع به المؤلف في سفره هذا، هو سؤال الراهن، سؤال حقبة ما بعد الحداثة. وهو السؤال الذي مع مرور كل يوم يكون أكثر إلحاحاً في عالم اليوم، لا سيما وأن البشرية تتقدم في إجراء المراجعات وتجديد المعايير، وإعادة التوصيف والتعريف لكل ما يتصل بحقوق الإنسان والمجموعات والثقافات، وحماية المستقبل والأنظمة البيئية. فقد أصبح الإنشغال والهم يتصل بأنماط الاستهلاك واستخدامات الطاقة، وحماية طبقة الأوزون والوقاية من استنزاف الأوزون والحماية للغلاف الجوي لكوكب الأرض، والتحسب لخطورة الآثار الصحية والبيئية، على الانسان والحيوان والنبات وكل النظم البيئية.لقد ألقت حركة ما بعد الحداثة بظلالها على مناهج البحث العلمي في حقول مختلفة، ودفعت بضرورة  تجاوز فكرة أنماط الرؤى الفكرية المغلقة، والأجوبة القطعية، إلى رحاب الأنساق الفكرية المتعددة والمفتوحة، وتقبل الخصوصيات، إلى جانب تخصيص المساحة الأوسع لسؤال الأخلاق. وعلى الرغم من أن سؤال الأخلاق غايته واحدة، وهي الإنسان، إلا أن الإجابة عليه، تخضع لمرجعيات متعددة، إلى جانب أنه لايزال، في مرحلة البحث والتنظير والتنامي والاتساع والتبلور والتشريع.

السؤال الثاني الذي يطرحه المؤلف في هذا السفر هو سؤال التنمية. وهو يتحدث عن التنمية حديث المتخصص العالم الدارس لمرتكزات التنمية وأسس استمرارها. والحق أن التنمية في السودان، ظلت، مع عدم العدالة في توزيعها، في تراجع مستمر. وفي هذا كثيراً ما أستشهد بوسم "المفارقة الفاجعة"، الذي أطلقه البروفسير عبدالسلام نورالدين واصفاً به حالة التراجع التنموي البشعة التي مُني به السودان منذ فترة الاستعمار ، كتب عبدالسلام قائلاً:

المفارقة الفاجعة انه كلما توغل السودان متباعداً من الفترة الاستعمارية، كلما تقهقر بانتظام الى الخلف ادارة وسياسة واقتصاداً وثقافة وعقلانية. والى ذلك فإذا كان ثمة شيء قد تحقق منذ الاستقلال وحتى الآن، يستحق التوقف والنظر، فهو أن الذين حكموا السودان ... قد بذلوا كل ما فى وسعهم للبرهان على فرضية جد اسطورية، تدحض مبادئ علم الطبيعة التي تقول بان للزمان بعداً واحداً لاغير هو الاتجاه صوب الأمام، من الحاضر الى المستقبل ومن ثم يصبح من العبث بمكان السير عكس اتجاه حركة الزمن" .

ثم ذهب الروائي الطيب صالح، في وصفه لقصة انهيار السكك الحديدية في السودان، إلى أن الانهيار ودلالاته لا يقف عند انهيار المؤسسة في حد ذاتها، وإنما يتجاوزها ليُمثل انتشاراً للاحساس بالإنهيار، وحينما يتأصل الاحساس بالانهيار في النفوس، يصبح النهوض معضلة، يقول الطيب صالح:

"همدت الحركة، ودفنت الرمال القضبان، وتحولت المحطات إلى أطلال، حتى محطة الخرطوم في آخر شارع القصر الجمهوري، وقد كانت معلماً من معالم المدينة، قد هُدِّمت. هكذا ينتشر الإحساس بالانهيار في النفوس، وحين يتأصل هذا الشعور، يصبح النهوض معضلة" .

دفع المؤلف بسؤال التنمية، وهو أحد خبراء الحوكمة Governance في السودان والشرق الأوسط. ولهذا فإن حديثه عن التنمية حديث العالم العارف بجوانب هيكلة الدولة وصياغة الرؤى ووضع الاستراتجيات، والخطط التنموية. إلى جانب أنه صاحب رؤية في استرشاد التنمية بالأخلاق لضمان الثمار  والاستمرار، كما ورد آنفاً. يقول المؤلف:

بالقدر الذي تنطلق فيه التنمية من قيمة سماوية عليا، فإنها تلبي حاجيات ارضية مثلى، إبتداءً من استنطاق المواطنين (أصحاب الشأن الأصليين) عن رؤاهم لواقعهم المعاش، واستنظار الأمل الذي يراودهم، واستلهام المختصين لهذه الرؤى، وتفعيلها عملياً من خلال التخطيط والتنفيذ لرؤية قطاعية متكاملة.

للمؤلف رؤيته التنموية في الصراعات والحروب الدائرة في السودان، وفي هذا يقدم أفكاراً واقتراحات تدعو إلى تلاقح الرؤى وتحمل قابلية التطبيق، يقول المؤلف: "للخروج من مآزق الحرب المتفاقمة لابد من التركيز علي مبدأ التنمية الريفية المتكاملة. إذ أن التنمية تقلل من الغبن الذي هو وقود الحرب المعنوي، ومن ثم تساعد الدولة علي تخفيض منصرفاتها الأمنية". وتحدث المؤلف عن احتياجاتنا من أجل قيام التنمية على الأسس العلمية، فهو يقول:

إن ما نحتاجه هو توظيف رأس المال حتى يتمكن الريف من الحصول علىاستقلالية اقتصادية، يستطيع بموجبها تكوين مراكز للدراسات الاستراتيجية، دوائر للتنوير المعرفي، ودور للنشركي لا يكون تحت رحمة الآخرين. ينطبق هذا على غرب البلاد كما ينطبق علي شرقها، شمالها، جنوبها ووسطها.

في واقع الأمر أن القضايا وحلولها متداخلة، والنجاحات في مجالات تأخذ برقاب بعضها بعضا، كما ذهب المؤلف قائلاً: "إن تحقيق الفدرالية السياسية منوط بالنجاح في تحقيق الفدرالية الاقتصادية والثقافية".

كان السؤال الثالث الذي طرحه المؤلف من خلال مقالاته في هذا السفر، هو سؤال يتصل بالقادة. وفي هذا ذهب بعيداً، فقد كتب المؤلف قائلاً:

إن قادتنا في حوجة للعلاج النفسي (psychotherapy) نسبة لما عانوه من ظروف قاهرة (كلنا بدرجة اقل)، اكثر من احتياجهم الي قرارات عسكرية تحيل اكثريتهم الى الدروة، حبذا لو تشيد واحدة في ميدان ابو جنزير.

ثم تحدث المؤلف عن صعود القادة وتسلقهم وتعرضهم للإغراءات، يقول المؤلف: "إن صعود القادة وتسلقهم من خلفيات بائسة معنوياً ومادياً يجعلهم عرضة للإغراء خاصة في نظم تفتقر الى السبل المؤسسية للتصعيد". هنا أجد نفسي متحفظاً بعض الشىء على قول المؤلف عن صعود القادة "من خلفيات بائسة معنوياً ومادياً"، فالخلفيات غير البائسة معنوياً ومادياً لا تحمي القادة القادمين منها، ولا تجعل منهم أخلاقيين، بيد أن المؤلف احترز بجملة قوية وجوهرية وحاسمة، حينما قال: "خاصة في نظم تفتقر الى السبل المؤسسية للتصعيد". الشاهد أن المؤلف دفع بأزمة القيادات وهي أزمة متجددة ومستمرة، وظل يعيشها السودان منذ أمد بعيد. بل ظلت أزمة القيادات في السودان هاجساً، وطُرحت حولها تساؤلات باكرة منذ ظهور طلائع المتعلمين. كان الأستاذ أحمد خير المحامي (1903م/1905م-1995م)، قد تحدث في محاضرته الشهيرة، والتي كانت بعنوان: "واجبنا السياسي، مؤتمر الخريجين" ، ونشرتها مجلة الفجر في شهر مايو من عام 1937م، تحدث أحمد خير عن السوداني المستنير، وكيف أنه سمح لنفسه بالتفكير في كل شىء وقد عمل الجليل وشاد العظيم من الأسس، "إلا تدريب الصفوف وتنظيم القيادة" . فالشاهد أن صناعة القيادات وتدريبها ظل هاجساً ليس في السودان فحسب وإنما في كل إفريقيا. كذلك نشر الأديب والدبلوماسي جمال محمد أحمد (1915م-1986م) في مجلةكلية غردون وهو طالب يدرس في السنة الرابعة بالكلية مقالاً بعنوان: "مؤهلات الزعامة بين العشائر والأمم" ، كتب جمال قائلاً: "إن العلوم والفنون والآداب وما منها بسبيل ليست بكافية لأن تخلق الزعيم وإن كانت هي دعامته وموءله حين يعرض لحل المشكلات ولست في هذا أبخس العلوم والفنون قدرها وإنما أريد أن أقول إنها تعين الزعيم ولا تخلقه وإلا فكيف نفسر وجود الجيوش الجرارة من العلماء وهذا النزر اليسير من الزعماء" . ثم تحدث جمال في مقاله عن سمات القائد والزعيم وما يجب أن يتوفر فيه، وأشار إلى ضرورة معرفة القائد معرفة دقيقة بتاريخ أمته وقصة حياتها، ثم حذرنا جمال باكراً، وتنبأ بالويل للأمة التي تنشغل وتقيم نشاطها على حروب القادة الآنية وحرب الشخوص بدلاً عن حرب أعمالهم، كتب جمال عن القائد قائلاً: "وعليه أن يتعمق بالنظر في تاريخ أمته فيقف على الصغير والكبير  وإلا لكان على الدوام مهدداً بمنافسين أقوياء يعلمون ما يجهل من نفسية قومه وتاريخهم وكرس جهوده في محاربة خصومه وكرس خصومه جهودهم في محاربته وويل لأمة أوقفت نشاطها على حرب الأشخاص لا على حرب أعمالهم" . لقد لامس المؤلف الوليد مادبو قضية أزمة القيادات، وهي قضية جوهرية وأزمة ظلت مزمنة ومستفحلة في السودان. وبدأ الحديث عنها باكراً، وليس هناك أفصح من نداء الواقع وارتفاع صوته بحاجة السودان لقيادات، تحول سوح الصراع ولغة الحرب إلى جدل من أجل السلام ورسم السيناريوهات من أجل التعايش. ولعل دفع المؤلف بقضية أزمة القيادات جاء من احساسه العميق بقضايا السودان وبحثه المستمر وانشغالة بالحلول القائمة على الأسس العلمية والأخلاقية، كما ورد آنفاً، وهي من صميم تخصصه العلمي، ومن وحى أحلامه وآماله وأشواقه بأن يأتي زمن الأخلاقيين من القادة والمثقفين، في السودان والعالم. لقد تحدث المؤلف عن ارتباط مستقبل الديمقراطية في السودإن، بلا اعتماد على الأسس الأخلاقية والفكرية عند مثقفي الوسط، فكتب قائلاً:

إن مستقبل الديمقراطية في السودان يعتمد أولاً وأخيراً في التعويل على الأسس الأخلاقية والفكرية للوسط. لا يمكن للوسط أن يزدهر في شكل الغياب النوعي للمثقف ولذا يلزم اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تمنع المثقف (خاصة الآيديولوجي) من التسيب عن مسؤوليته الوطنية، وخوض معركة الوعي ودفعه للولوج إلى الوسط.

وحتى يتحقق ذلك يقول المؤلف:

كي يحدث هذا الأمر يجب أن ترفع عن المثقف كافة أنواع الوصاية الدينية وغيرها حتى يأتي طواعية ومن ثم يسهم في ردم الهوة الرأسية بينه وبين العامي (المرجو والمتمنى عودته). هذا التلاحم من شأنه أن يسهل للكل الانعتاق من الأطر التقليدية للتفكير ومن ثم استشراف آفاق ليبرالية وإنسانية باهرة.

السؤال الرابع الذي طرحه المؤلف من خلال مقالاته في هذا السفر، هو سؤال الدستور الإسلامي. قدم المؤلف مقالات وتساؤلات بشأنه فإحدى مقالاته حملت عنوان: الدستور الإسلامي لماذا؟ إلى جانب مقالات أخرى عن الشريعة الإسلامية. وتنبع أهمية طرح سؤال الدستور الإسلامي من أنه سؤال اليوم، وهو سؤال قديم وظل قائماً في السودان وفي جل بلدان العالم الإسلامي. ويكتسب هذا السؤال قيمته حينما يطرحه المؤلف، لأننا سنكون أمام مجادلة صاحبها له علاقة خاصة بالمنبر والمسجد وبالفقه والشريعة والدعوة الإسلامية. فالمؤلف الوليد موسى مادبو، إمام مسجد، وواعظ حداثوي، صاحب تجارب عملية في سوح الفقهاء، ويحمل إجازة في حفظ القرآن من المملكة العربية السعودية. يبدو أن المؤلف ظل مشغولاً باطروحات الدستور الإسلامي والشريعة الإسلامية، ولابد له أن ينشغل بذلك، فالموضوع يعنيه من كل الوجيه أتيته. ولديه تساؤلات ظل على الدوام يطرحها في كتاباته، وله نظراته الخاصة، يقول المؤلف:

إن البشرية قد إنعتقت من الخرافة وأنه ما من بشر سيقبل الترويج لمثل هذا السخف علي أنه دين؟ والسؤال هل هنالك حقاً "شريعة" يمكن اسقاطها علي المجتمعات أم أن هنالك شرعة فُرضت لتحقيق العدل الذي هو نسبي يختلف بإختلاف المجتمعات وحاجتها للكفاية (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) (المائدة، الأية 48) صدق الله العظيم.

ويتحدث المؤلف عن ظلال الحداثة وحقبة ما بعد الحداثة على الدولة، يقول المؤلف:

إن العناية بدولة ما قبل الحداثة هو شأن فئة من أصحاب التميز الديني، العرقي أو القبلي، أما دولة ما بعد الحداثة فإدراتها ووضع التصورات لها هو شان كآفة المواطنيين دونما أدني تمييز من لون أوعرق أو جاه. بهذا تكون مهمة الدستور في العصر الحديث قد تحددت في إطار الإحكام الإقتصادي والسياسي لإمكانية الإنتقال الإنتولوجي من كوننا جماعة مؤمنين إلي كوننا دولة مواطنين. فالدستور يلزم الحاكم بإتخاذ مسافة متساوية من الكل وينحسر دوره في تعريف الحقوق والواجبات.

ثم يتناول المؤلف الإسلام السياسي، ومدى معانات المجتمعات من أطروحاته، يقول المؤلف: "إن مجتمعاتنا قد عانت بما فيه الكفاية من هذه الإطروحات الخطيرة والشائهة التي لم تعني بأمر التكافل قدر ما عنيت بامر الإستبداد". بل يذهب المؤلف أبعد من ذلك فيقول:

انني اذهب لابعد من ذلك فأقول أن فكرة الإسلام السياسي هي في حد ذاتها فكرة متوهمة، هي عبارة عن أزمة نفسية عاشتها النخبة نتيجة تعاملها غير المنهجي مع الحداثة، ومن قبلها إدراج الإستعمار "للمنظومة الفقهية" الذي إقتضي إعتماد القوننة كوسيلة للحد من حركة المجتمع ووأد ديناميته. (راجع مقالي عن "الصنم والصنمية، هل اصبحت الشريعة هي العجل الذي اتخذه المسلمون الهاً من دون الله في القرن الواحد وعشرين؟").

ففي تقديري، أن المؤلف قدم مساهمة تستحق أن يتكىء عليه حوار وسجال، ذلك لأن موضوع الدستور الإسلامي في السودان ظل مفتوحاً ومتجدداً، بيد أن الحوار بشأنه لا يزال ضعيفاً. كما أرتبط  وضع الدستور في تاريخ السودان بالتغيير السياسي. فكلما بدأ الحديث عن وضع الدستور الدائم، جاء الجدل حول الدستور الإسلامي، فيتبعه تغيير سياسي. حدث ذلك أيام لجنة الدستور القومية عام 1956م. يقول إبراهيم محمد حاج موسى: "شكلت اللجنة القومية للدستور في سبتمبر سنة 1956م لوضع مشروع للدستور الدائم يعرض على الجمعية التأسيسة عند قيامها" . تم تكوين اللجنة من 46 عضواً . وأشار إبراهيم إلى أن مشروع الدستور الذي أعدته اللجنة لم يعرض على الجمعية التأسيسية بسبب وقوع الانقلاب العسكري يوم 17 نوفمبر 1958م . وحدث ذلك في عام 1969م، يقول عبدالماجد أبو حسبو (1919م-1985م): "عندما وضعت اللجنة مشروع الدستور الدائم كنت وزيراً للعدل وكانت وزارة العدل بحكم وظيفتها مسئولة عن الصياغة وعن مشروعات القوانين... عرض الدستور على الجمعية التأسيسة لدراسته ومناقشته وإقراره وتمت بالفعل القراءة الأولى والثانية وأجيزتا، وقبل القراءة الثالثة والأخيرة وقع انقلاب 25 مايو سنة 1969م" . أيضاً، على إثر قوانين سبتمبر عام 1983م، انهارت اتفاقية أديس أبابا الموقعة عام 1972م، ومع تداخل عوامل أخرى جلها يتصل بقوانين سبتمبر حدث التغيير السياسي عام 1985م. كان دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005م الذي أجازه المجلس الوطني في السادس من يوليو 2005م، ارتبط بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005م، وأحدث تغيير سياسي تمثل في مشاركة الحركة الشعبية لتحرير السودان في الحكم وفقاً لنسب متفق عليها، إلى أن اختارت شعوب جنوب السودان في الاستفتاء الذي أُعلنت نتيجته في السابع من فبراير 2011م، خيار الانفصال وفضلته على الوحدة، ثم اعلن الانفصال رسمياً في التاسع من يوليو عام 2011م. اليوم في السودان يجري الحديث والجدل بشأن وضع الدستور الدائم. فهل يا ترى هذه المرة ستكون كسابقاتها، بأن يحدث تغيير قبل اعتماد الدستور الدائم؟ أم أن هناك معطيات ومتغيرات تمثل ضامناً لوضع دستور دائم؟ فلدينا وقائع التاريخ في السودان، التي تقول بفصاحة وبالوثيقة والسوابق، أن دستور دائم يعني تغيير سياسي، بينما اليوم لدينا معطيات جديدة في الواقع الرسمي للسودان تجعله مختلفاً عن سودان عام 1956م، وسودان عام 1969م، وسودان عام 2005م، إلى جانب أنه لدينا متغيرات إقليمية تصب كلها في وجهة الحماسة للدستور الإسلامي. فياترى أيهما أكثر صدقاً وانحيازاً للمستقبل، تجدد الوقائع التاريخية أم انتصار الواقع؟. 

الشاهد أن هذه الأسئلة الأربعة عن: الأخلاق والتنمية والقادة والدستور الإسلامي، تمثل محور مقالات المؤلف في هذا السفر. إذ تفيض بها مقالاته العديدة عن دار فور وعن أسباب الحرب فيها، وسبل حلولها، وتنضح بها مقالاته عن الحكم والدستور الإسلامي والشريعة والضمير، وكذلك نظراته في الجسد والروح والجمال والثقافة والتعليم، وكل مقالته، فالأسئلة الثلاثة تمثل المرتكز الأساس والعمود الفقري لهذا السفر.

الأمر الثاني الذي يكتسب به هذا السفر قيمته، أن المؤلف طرح إلى جانب الموضوعات الحيوية والجوهرية وقضايا الساعة، أنيقدم للقارىء السوداني وقراء العربية موضوعات جديدة. فقد طرح المؤلف موضوعي الحوكمة، والجنسانية، والموضوعان جديدان في بابهما من حيث الطرح للتداول، ومن حيث ظهورهما في العالم بهذا التوصيف والتسمية وكعلوم متخصصة، غير أن موضوع الجنسانية في حد ذاته، كسلوك ومفهوم تشكل عبر التراكم، وهو موضوع قديم. وعلى الرغم من وجود بعض المتخصصين في السودان ومن قراء العربية، إلا أنه ما من شك أن المؤلف حينما طرح هذين الموضعين في الصحف السودانية، والآن في هذا السفر، فإنه قد قدم فوائد معرفية جمة، وخدمة تنويرية جليلة. لأنه أضاف لمعارف القراء، وفتح الآفاق لمن أراد التقصي والمزيد من المعرفة حول أي من الموضوعين، إلى جانب أن هناك أناساً لم يسمعوا بهما من قبل. لقد استطاع المؤلف بنشره لهذين الموضوعين أن يجسر التواصل بين القراء في السودان وقراء العربية من جهة ومراكز الانتاج الفكري في العالم الأول من الجهة الأخرى. إن الحديث عن الجنسانية، في المجتمعات الإفريقية والعربية والإسلامية، حديث جديد من حيث طرحه بهذا التوصيف، أما من حيث الموضوع فالموضوع قديم. أما في المجتمعات الغربية الحديثة فإن الحديث عن الجنسانية يتصل بكيفية تشكل فهم الجنسانية في تلك المجتمعات. هنا لا بد أن نستدعي كتاب: تاريخ الجنسانية، إرادة العرفان ، الذي كتبه ميشال فوكو. تضمن الكتاب جزءين: الأول بعنوان: "استعمال المتع"، والثاني بعنوان: "الانشغال بالذات"، مع المقدمة العامة وهي: "إرادة العرفان". وقد توفي ميشال فوكو دون أن يتمكن من إصدار الجزء الأخير  الذي كتبه وهو بعنوان: "اعترافات الجسد"، وقد ترك وصية تمنع منعاً كلياً أن ينشر أي مكتوب بعده لم يوافق عليه. تأمل المؤلف الوليد مادبو، الجنسانية بمرجعيته الإسلامية وبهويته الصوفية من داخل الإسلام، ونفخ في الجنسانية روحانية ورؤية خاصة، كتب المؤلف قائلاً: "إنني أود في هذا المقال التكلم عن الجنسانية (على إعتبارها مصدر الإلهام لما تجود به الروح من إشراق و ما ينفح عنه الجسد من تالق)وليست الجنس بمعناه الميكانيكي الذي تعارف عليه الناس. هذا الموضوع وإن يبدو ليبرالياً إلا أنه قديم قدم الإنسانية. ثم يضيف المؤلف قائلاً:

فمذ عرف الرجل المرآة وهو يتلمس ما يفضي به إلي دائرة المعنى ومحط الخيال. ولقد كان حظ الأنثي أوفر إذ علمت منذ اللحظة الأولى أن الجسد ما هو إلاأداة الإنطلاق وأن اللذة (القصوى) هي أسمى لحظات الإمتاع، لان بها ينتقل الإنسان من الوجود إلي العدم ومن المحدود إلي دائرة (اللا) محدود ومن سجن الحس إلي منتهى التخلص من القيود. إنها اللحظة الأسمى.

يمزج المؤلف بحديث السادة الصوفية، قائلاً: "ولقد عبر السادة المتصوفة عن هذا الإنفراج بقولهم أن "لذة النظر إلي وجه الله تعدل لذة الجماع سبعين ألف مرة". لماذا الجماع بالذات؟ لأنه الأرق الذي  يعقبه سمق والوجع الذي يجدي إلي نفع". في تقديري، أن حديث المؤلف عن الجنسانية، حديث قابل للتطوير والتوسع، ويمكن للمؤلف إذا ما توسع في موضوع الجنسانية، يمكن أن يقدم طرحاً جديداً يثري الحوار حول قضايا كبرى، أصبح الآن الحديث عنها في طريقه إلى الانفجار. ويبدو أن المؤلف يسير في هذه الوجهة فقد بدأ بطرح أفكاره عن الجنسانية والتفاكر حولها، فهو يقول: "لقد طرقت هذه المواضيع علي استحياء في حضرة مولانا الشيخ الفاتح الشيخ عبدالرحيم البرعي فوجدته باهراً في هذا الصدد وماهراً في الإمساك بمعاول فكرية وروحية منها ما اكتسبه بجهده و منها ما ورثه عن السادة الأكابر". ثم اتفق على الحوار حول موضوعه، مع الشيخ الفاتح البرعي، وهو أحد أقطاب الصوفية، وسليل أسرة راسخة بدورها في غذاء الروح وتعمير الوجدان والعقول والقلوب، يقول المؤلف:

فاتفقنا علي عقد ندوة أمثل فيها أنا الجانب الحداثوي ويمثل هو فيها الجانب التقليداني (وما ذلك إلاِّ لحب قرائنا للمفاصلة والتمايز النوعي وإلاِّ فليست هناك إلاِّ سمة تداخل اقتضته حقيقة الانتقال الصناعي والوقائي التي تمر به مجتمعاتنا).

الموضوع الثاني من الموضوعات الجديدة، على السوح السودانية التي طرحها المؤلف هو الحكمانية، وهي تخصصه الدقيق في دراسته لنيل درجة الدكتوراه بالولايات المتحدة الأمريكية. كانت الحكمانية من العلوم الجديدة التي أثرى بها المؤلف معارف القراء في الصحف السودانية، برغم وجود بعض المتخصصين فيها، وسيثري بها معارف قارئه في هذا السفر، بلغة مبسطة وتنزيل سلس من علياء التخصص إلى السوح في واقع عامة الناس وفي الشارع. يصف المؤلف الحكمانية بأنها عمليةProcess ، ويعرفها قائلاً: "الحكمانية هي عملية ترشيد الموارد البشرية والمادية بما يحقق الأهداف المعلنة للدولة ويلبي الأشواق المرجوة من الشعب". ثم يُبيِّن المؤلف بمنظار المتخصص مدى التفاعل بين الرؤية والخطة مع دورة إتخاذ القرار، يقول المؤلف: "غير أن غياب الفلسفة التوجيهية (أي الرؤى) في بعض الحالات يؤدي إلى إرباك قانوني وإداري يجعل من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل تفعيل خطة تهدف إلي إحكام "دورة إتخاذ القرار". ليس غياب الرؤية فحسب، وإنما يقف المؤلف عند التغول الفوقي قائلاً: "كما أن الشروخ التي تحدثها محاولة التغول الفوقي تحول دون الاستثمار الحيوي والفاعل للموارد وتفنِّد من جدوى الاعتناء القيمي بالبشر (كغاية وليست فقط وسيلة لتحقيق مصلحة حُكمية)". ثم يقف المؤلف عند العلاقة بين التصميم الخلاق والرؤية الكلية لمسار أمة ما، يقول المؤلف: 

إذ أن التصميم الخلاق والصياغة المُحكمة لمقررات الحكم المحلي في مدينة ما، تجعل أولى أولوياتها إيجاد وحدة شعورية وإستبصار وجهة حضارية بناءة تكون بمثابة الجسر المدني لكسر حلقة الإنعزال الفكري، الطبقي والمكاني.

لا شك أن المؤلف من أوائل الذين سيلوا موضوع الحكمانية ونقلوه من سوح ومدرجات الأكاديميا وطرحوه للتداول في الشارع العام. هنا يقدم المؤلف دوراً عظيماً في النقد العملي لصفوية المزاج الأكاديمي. لقد ظلت الأكاديميا على الدوام تسعى لترسيخ الصفوية والإنعزال والانفصال عن الواقع وعن عامة الناس. ففي تقديري، أن تسييل الأكاديميا وتمليك قضاياها وموضوعاتها لعامة الناس عبر  تحرير الحوار من الصفوية وإقامة الشراكة والتعارف بين العقول على اختلاف معارفها ودرجاتها، هو من أهم متطلبات الدخول السليم للمستقبل، ومن أهم شروط البناء الجماعي لمناخ اللا تهميش والقرب من الحقيقة والحق والعدل والمعافاة، والشرط الأهم لترسيخ معنى أن نكون أخلاقيين.

الأمر الثالث والأخير الذي يكتسب به هذا السفر قيمته، هو مؤلفه، الوليد موسى مادبو. فالمؤلف هو سليل أسرة لها حضور قوي في تاريخ السودان باعتبارها من المراكز الأساسية في منظومة الإدارة الأهلية، والمساهمة في تحقيق التعايش والتضامن والاستقرار في السودان. فأسرة مادبو تقوم منذ نحو أربعة قرون بقيادة وإدارة ديار الرزيقات، وتتمركز في دارفور. فهناك في دار فور حيث المركز، فإن الأسرة زائعة الصيت من خلال دورها في توظيف وتطوير الأدوات والإرث المحلي في بناء الإدارة الأهلية آنئذ، وترتيب شؤون الناس وحفظ وتنمية النسيج الاجتماعي. هذا إلى جانب تطويع التشريعات المحلية آنئذ، وترسيخ معاني الدولة وإرشاد المجتمع، وتطبيق القانون وفقاً للمعطيات المحلية. فالوليد أحد المثقفين والقادة الشباب من أهل الحق والمصلحة في المستقبل، ومن أصحاب الصوت العالي بضرورة أن يكون القادة ومنتجو المعرفة أخلاقيين في أقوالهم وعطائهم، ليدفعوا بالحياة في وجهة هويتها الأوسع، وهي الإنسانية (الإنسانوية). فالوليد من أولئك الذين لا تنقصهم الشجاعة العقلية والفراسة الروحية، والدربة والدراية بشؤون الناس والحكم في السودان، ولا تنقصهم الحاسة النقدية لإرث السودان السياسي والفكري فجاءوا برؤية عابرة للمدارس الفكرية والسياسية، بيد أن الواقع في السودان، لأمر غير مبرر، درج على تحجيم الشباب المخلصين المتمكنين في علومهم ومعارفهم ومهاراتهم وقدراتهم. فكثير من الشباب في السودان، وهم أبناء بيئات ومجتمعات التنوع والتعدد الثقافي، المفطورة على العبقرية، يحملون سمات العبقرية في القيادة والابداع وفي الالتزام تجاه الناس والوطن والإنسان، غير أنهم لم يجدوا فرصتهم ليكونوا في مواقع العطاء والتعبير. برغم ذلك ظل الوليد موسى مابو يقوم بأدوار كبيرة وعديدة بين أهله وعشيرته في دارفور وفي سوح المثقفين ومن أجل السودان والإنسان. كما ظل الوليد يساهم في تقديم الخدمة التنويرية، قائداً للمواجهة والنقد. فالوليد قائد ومثقف شاب ثائر بقلق وداعية للتغيير والتحرير. مر الوليد مادبو بتجارب حياتية ومعرفية متنوعة. فقد تخرج الوليد في قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة بجامعة الخرطوم، كان ذلك في العام الذي قامت فيه ثورة الإنقاذ في السودان سنة 1989م. سافر الوليد في طلب الدراسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فنال درجة الماجستير في العلوم السياسية من معهد إلينوى بشيكاغو، ودرجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة فلوريدا. كان موضوع أطروحته: Islam, Democracy and Governance: Sudan in a Comparative Perspective الإسلام والديمقراطية والحكمانية: السودان من منظور مقارن. ترك الوليد مجال الهندسة، وبدأ حياته العملية بعد الدكتوراه في مجال الحوكمة، فأصبح خبيراً في مجال التنمية المؤسسية وأستاذاً للعلوم السياسية. جاء الوليد مندفعاً للعمل في السودان بحماسة الشباب وحب الوطن وشعوبه، وهو يحمل المعرفة والخبرة والدربة في الأكاديميا الغربية. كان قد تشرب الحداثة وفكرها، وتابع أطروحات فكر ما بعد الحداثة وهو  لايزال، طالباً يدرس الدكتوراة بولاية فلوريدا. أنشأ في الخرطوم "وكالة تطوير الحكم والإدارة"، وهي جمعية طوعية معنية بأمر الحكمانية، ليساهم عبرها في التنمية وترسيخ الأسس العلمية في مختلف مجالات البناء الوطني، فما لبث أن واجهته الخرطوم "المدينة الآثمة" كما سماها، بقبحها، فأخرجت له أثقالها فضاق ذرعاً بها وبالأحوال وبالأوضاع فيها. رفض التشيؤ فقرر الهجرة إلى الدوحة. وصل الدوحة، عاصمة دولة قطر، مقر إقامتي وعملي،في العام الماضي ليعمل مستشاراً في مجال التنمية المؤسسية.

يبدو لي أن الوليد فوق التدريب الأهلي (حضور مجالس الجودية التي يديرها زعماء الإدارة الأهلية)، وفوق الاستماع لقضايا الناس ودفوعاتهم، وفوق التدريب الأكاديمي في السودان وفي جامعات الغرب، يبدو لي أن الوليد قد خضع في أسرته الصغيرة لنظام تربوي خاص. فقد عبرَّ الوليد عن اعتزازه بوالديه في إهدائه لهذا السفر. ووصف والده بالحكمة. ويتراءى لي أن الوالد البروفسير موسى مادبو، الأكاديمي والسياسي والقائد الزعيم، إلى جانب الحكمة التي وسمه بها الوليد، وقد لمستها فيه حينما التقيته في زيارته الأخيرة للدوحة في شهر سبتمبر الماضي، يتراءى لي أن البروفيسور آدم موسى مادبو قد تميز بخصائص نادرة المثيل في أوساط المثقفين السودانين، وهنا أتحدث وأقدم شهادة وفقاً لمعياري الخاص. حكى لي الوليد أنه في ثمانينيات القرن الماضي، وفي مناخ محاكمة الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) بالردة عن الإسلام في شهر يناير عام 1985م، قرر الوليد أن يكتب ناقداً للأستاذ محمود ومعضداً لموقف القطيع منه. وعندما عزم على الكتابة ضد الأستاذ محمود، جاء فأخبر والده، حينها انتفض الوالد البروفيسور آدم موسى مادبو، وقال للوليد بحزم وحسم واختصار: Don’t. لم يضف الوالد شيئاً، فقط كلمة واحدة وترجمتها (لا تفعل). حينما حكى لي الوليد ذلك الموقف، وبدأنا في دراسة الموقف وتحليله وتشريحه وتفكيكه. قلت للوليد إن والدك تميز بخصيصة نادرة المثيل، وهي خصيصة الورع العلمي. ففي هذا الحسم ورع علمي رسب فيه الكثير من مثقفي السودان في موقفهم من الأستاذ محمود، نقدوه ووقفوا ضده مع القطيع بلا علم وبلا دراية وبلا قراءة لكتبه. إن هذا الحسم الذي تجلى في موقف والده، هو حسم عالم من رجل عالم، مشغول بالمستقبل بقدر انشغاله بالراهن، ولا يريد لابنه أن يكون سائراً مع القطيع يتبنى موقفهم ويسير في ركبه بلا علم ومعرفة. هنا في هذا الموقف فإن الوالد البروفيسور آدم موسى مادبو يتحدث بأخلاق الكبار، ويخاطب الشروط العلمية للنقد: الصدق والعلم، ويدفع بالورع العلمي ليكون أحد عناصر الحوار والسجال، وهذا ما لم تشهده سوح السودان الفكرية والثقافية والسياسية قط. التزم الوليد بتلك الكلمة (لا تفعل) وحبسها في صدره حتى عبر ربع قرن من الزمان، نمت خلالها معارفه ونال درجة الدكتوراه والدربة الأكاديمية، فأتى متحدثاً عام 2011م، بصورة مختلفة تماماً في موقفه من الأستاذ محمود، في محاضرة حول قضايا الدستور والحكم والتنمية بمركز الأستاذ محمود محمد طه الثقافي بمدينة الثورة بأم درمان، الخرطوم. إن كتابات الوليد اللاحقة تؤكد تطوره المعرفي والفكري، وتؤكد حكمة والده وصحة احترازه، وترفع عالياً من قيمة ورع والده العلمي. فالورع العلمي من شيم العلماء والكبار. كما أن المفردة القادمة بهوية أخلاقية، والتي أطلقها صاحبها لتعبر عن موقف أخلاقي، أو أطلقها ضمن موقف أخلاقي، فهذه مفردة لا تموت، بل تُبعَث ويُبعَث معها قائلها، وكذلك الموقف الإخلاقي بكل تفاصيله، هنا تتحقق عمليات تعليم وتربية ودربة للأجيال عبر السيرة والذكرى. فها أنذا أبعث بمفردة أطلقها الوالد البروفيسور آدم موسى مادبو قبل نحو ثلاثة عقود، لتأخذ هذه المفردة والموقف الأخلاقي موقعهما في الفضاء المعرفي السوداني، وهي تنطق بالأخلاق والورع العلمي والفراسة ورفض الظلم.ولتكون المفردة وقائلها موضع احتفاء وإجلال.

الشاهد أن النمو المعرفي والفكري قد ظهر جلياً في مسار الوليد وفي كتاباته، ففي عام 2007م، كتب المؤلف في مقالة بعنوان: "حرية الضمير" وهي ضمن سفره هذا، كتب قائلاً:

لا ننسى اغتيال النميري للأستاذ محمود محمد طه الأمر الذي أنكرناه سياسياً لمجرد رفضنا للظلم وللحقارة، لكننا لم نستطع أن ننبذه دينياً لسيطرة الغبش على قلوبنا ومعتقداتنا. إن التقاطع بين هاتين الحريتين: حرية الممارسة السياسية وحرية الاعتقاد الديني هو سبب الإشكالية النفسية التي نعيشها.

ثم يعترف المؤلف اعتراف الشجعان قائلاً: "لا أنكر أنني وحتى فترة قصيرة لم أجرؤ أن أقرأ كتب الأستاذ لتهيبي "الخوض في الفتنة". ثم يتبع ذلك الاعتراف بإبداء رأي وموقف يستند على الفردية مطلب اليوم ومدخل المستقبل، ومبني على الوعي وعمق المعرفة، بعض شروط الورع العلمي، كتب الوليد قائلاً: "أي فتنة أشد من تقييد العقل بالوجدان، كما يقول صديقي المهندس الأديب محمد عبد اللطيف هارون (شيخ طويل)؟". ثم يقدم قراءته لأسباب قتل شهداء الفكر قائلاً:

إن جل الشواهد التاريخية تبرهن على أن الدين حتى وفق النظرة النصوصية بقى بعيداً عن المقاصدية (لأن النصوص لم تكن بالوفرة)  فلم يكن مسؤولاً عن قتل شهداء الفكر في عالمنا الإسلامي، لكننا يجب أن نعترف بأن صيرورة الحدث التاريخي قد شكلت الوجدان سلباً مما جعله على أحسن الفروض لايجرؤ على الإنكار، إنما الإقرار السلبى- السكوت.

ثم يَجرُد المؤلف المواقف ويعبر عن حزنه العميق عن الأستاذ الشهيد عبدالخالق محجوب  (1927م-1971م)، ويتقدم لتحمل مسؤوليته بأثر رجعي كمثقف عن جرائم القتل للعظماء والكبار، ويتحدث عن سلبية المواقف وحالة السكوت الجماعي من قصص القتل، يقول المؤلف:

إنني ما أن أرى صورة الأستاذ عبد الخالق محجوب إلا وأحس بوخز في ضميري كأنني ساهمت في قتله لأننا وبالسكوت الجماعي قبلنا لأحمق أن يواري سوأته-الغيرة الشخصية- بإغتيال نابهة متهماً إياه بالعمالة تارة وبالزندقة تارة أخرى، إذ كان يقول ملء فاه (عبدالخالق الذي لايعرف عبدالخالق).

في تقديري هنا تتجلي نظرة الجيل الجديد نحو الإرث السياسي والفكري ونحو ما انطوى عليه مجلد حقوق الإنسان في السودان. لا شك أن هذه النظرة حملها وناضل من أجلها الكثير من المثقفين، ولكنها توسعت مع جيل المؤلف. أيضاً، يتصل أمر قتل العظماء وحقوق الإنسان في السودان بنمو الحس العدلي لدى الأجيال الجديدة. فمن الملاحظات الجديرة بالاهتمام أن الأجيال الجديدة تحمل حساً عدلياً عالياً وقوياً، لعوامل عديدة بعضها يتصل بتطور معاني حقوق الإنسان في العالم، وتوسع ثقافة حقوق الإسنان، إلى جانب أنه في تقديري أن الفطرة الإنسانية كلما تقدمنا في جهة المستقبل تكون فطرة حاملة بقوة للحس العدلي. الشاهد لقد عبر المؤلف عن رؤية الجيل الجديد بما يشبه الوحدة الشعورية والوجدانية ووحدة الموقف من حقوق الإنسان، وتجلي الحس العدلي في أطروحاته، ولا شك عندي بأنه سيأتي يوم تفتح فيه كل ملفات حقوق الإنسان في السودان منذ الاستقلال. ثم يساهم المؤلف في تفكيك ما انطوت عليه السياسة السودانية من حيل ساذجة وبلا حد أدنى من الأخلاق، يقول المؤلف:

إن الحيلة ذاتها قد انطلت علينا ولو إلى حين، حين قبلنا من (عربيد نذر حياته للرذيلة) أن يتطاول على راهب (مهر أيامه بالدعوة إلى الفضيلة) ويصفه بالزندقه وبالكفر. إن النميري ليلة اغتيال محمود محمد طه سمع هتافاً من أحد سائقي التاكسي وهو ماراً بكبري بحري يقول له (نصرت الدين يا ريس!!).

بهذا التعليق من سائق التاكسي، يخرج المؤلف لينبهنا بضرورة تقديم النقد للمكونات الفكرية والوجدانية، ويقدم في هذا بعض المعالم، يقول المؤلف:

هذا هو الوجدان السوداني الذي تشكل وفق مقتضيات البداوه وجلافتها وآفات التزمت ومأساته. يا ترى هل كانت الانتفاضة تكفيراً لسيئة لم نبرح حتى عاودنا ارتكابها بقبولنا لزمرة المستشار الرجوع إلى القصرمرة ثانية وباسم الإسلام؟".

الشاهد أن المؤلف تناول ولامس العديد من الموضوعات الجديدة القديمة التي تناولها كبار الأساتذة في العالم وفي السودان. كان الأستاذ محمود قد نشر العديد من الكتب والمقالات، عن: موضوع الأخلاق، وتحدث عن "ما علاقة المسئولية بالأخلاق في الإسلام؟" ،والحرية الفردية المطلقة، والعلاقة بين الفرد والمجتمع والكون . يقول الأستاذ محمود عن الأخلاق: "الأخلاق في الإسلام ليست هي الصدق، والأمانة، ومعاملة الناس بما تحب أن يعاملوك به، إلى آخر هذه الفضائل السلوكية المحمودة.. وإنما هذه نتائج الأخلاق، وثمرتها، ولكن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة. وحسن التصرف هذا بإزاء الخالق أولاً، والخلق ثانياً، وفي نفس الأمر" .وعن آفات الأخلاق، يقول الأستاذ محمود:  "والخوف، من حيث هو، هـو الأب الشرعي لكل آفات الأخلاق ومعايب السلوك، ولن تتم كمالات الرجولة للرجل وهـو خائف، ولا تتـم كمالات الأنوثـة للأنثى وهي خائفة، في أي مستوى من الخوف، وفي أي لـون من ألوانه، فالكمال في السلامة من الخوف" .

بقيت الإشارة لأول وأطول نصوص هذا السفر، وهو نص "المدينة الآثمة"، وهو  أكثر موضوعات هذا السفر صخباً ونقداً وثورية. إن "المدينة الآثمة" هو نص تداعي وتناص وبعث وشراكة في حالة موقلة في الالتهاب النقدي. فالنص يستدعي بلا مقدمات أو تشابه في المعالجة، يستدعي الشاعر صلاح أحمد إبراهيم (1933م-1993م)، والبروفيسور علي المك (1937م-1992م)، فيكونا حاضرين عبر ترجمتهما لكتاب:الأرض الآثمة، عام 1971ملباتريكفانورينزبيرج. وعادة العباقرة لا يحضرون إلا في لحظات الأفعال الجادة والأعمال الشجاعة والقائمة على المواجهة والقادرة على النهوض بأمرها. كذلك يعود الوليد عبر "المدينة الآثمة" بالسوح الثقافية والأدبية والفكرية في السودان إلى سبعينيات القرن الماضي ليبعث بالحوار حول فن هجاء المدن، بعد غياب طويل لذلك الفن. كان الشاعر والأستاذ الجامعي محمد الواثق حينما كتب قصيدة "أم درمان تحتضر"، ثم أصدر ديواناً بنفس العنوان ولم تسلم معظم كبريات مدن السودان من هجاء الواثق. اتكأت على هجاء الواثق، كتابات وقامت مساجلات وحوارات وكتبت مقالات وصدرت دواوين منها ديوان: أم درمان الحياة، للشيخ السماني بن الشيخ عبد المحمود (الحفيان) (1946م-1991م). ثم جاء مؤلف هذا السفر  في عام 2012م، بعد مرور نحو قرنين على تدشين الخرطوم كعاصمة للسودان، فوصف مدينة الخرطوم بـ "المدينة الآثمة"، بل حملها مسؤولية تصدير الرعب، فهو يقول: "آثمة تلكم المدينة لأنها لم تكتف بالاستئثار بمال الفيء إنما عملت على تصدير الرعب إلى الآخرين". نعت المؤلف المدينة بنعوت كثيرة ووسمها بوسوم ربما لا يقبلها الكثير من الناس. وناقش من خلال مقالته "المدينة الآثمة" العديد من القضايا، وطرح العديد من آرائه ومواقفه تجاه انفصال الجنوب، وموقفه من ما اسماه "إسلامويي الوسط"، يقول المؤلف:

لا يمكن لنا أن نهمل ذواتنا ونلغي ماهيتنا باسم المُنجز الوطني، بل لا يمكن لنا ان نستمر في تقبل المهانة باسم الغايات الأخروية التي لو صلحت لصلحت في تسكين شَرَهم الدنيوي واستطالتهم حتي أن أحدهم لا يكتفي ببناء كوزي (قطية او نوعاً من أنواع القطاطي في اللغة العامية) علىدحول بحر العرب، إنما ينتفخ جيبه بمال الحجيج حتى لا يرضى "النخيل"  (منتجع في مدينة دبي ومرفأ من مرافئ الاسلاميين المُخلَصين) بديلاً لسكنته.

وعن انفصال الجنوب وعلاقته بمثقفيه يقول: "لا أخفي سراً اذا قلت بأنني احس قربى فكرية وحميمية إنسانية عندما تجمعني الظروف للالتقاء مع أتيم ومجاك وباقان لا احسها حالة الالتقاء النادرمع إسلامويي الوسط الذين لديهم أنفة لا تسندها وقائع التأريخ او مخرجات الواقع التجريبي...". وعبر عن حزنه لذهاب أهل الجنوب بعد الانفصال، فقد كتب قائلاً:

وقد حزنت لذهابهم وإن كنت لأنتظر لحظة إيابهم أو ذهابي اليهم فلم اعد مكوثا مع الفئة الباغية. ذلك أنني قد خرجت من سجن النص والتقيت مع روحه التي تستدفعني لموالاة قيم الحق العدل والإحسان والبراءة من الفحشاء والمنكر والبغي.

ففي تقديري، أن المؤلف أتاح لي فرصة لإبداء مداخلة هنا ظللت حاضناً لها زمناً طويلاً. فقد وسمت من قبل الخرطوم بالمدينة اللئيمة. فالخرطوم في نشأتها وتاريخ سيرتها، وبجرد متساهل لأفعالها منذ أن دشنت عاصمة للسودان، هي لا تشبه أهل السودان في شىء، ولا صلة لها ببيئاتهم وبسحناتهم. لقد نشأت الخرطوم بصفوية مثل صفوية مزاج مثقفي السودان، الموروثة منذ كلية غردون التذكارية. كانت مدينة الخرطوم صنواً لكلية غردون التي علمت طلائع متعلمينا، وظلت حتى تاريخ اليوم تعلم (الجدل لا العمل). الخرطوم مدينة قوام إرثها هو المعرفة الاستعمارية، التي حقنت سوح المثقفين بالصراع والتنافس بلا أخلاق، وخرجت خطط التنمية منها لتركزها في مناطق محددة من السودان، فأدخلت حالة اللا تعافي بين شعوبه. في الخرطوم ما بين القصر الجمهوري والشجرة (سلاح المدرعات) ومشنقة كوبر  بالخرطوم بحري، فقدنا عظماءنا وقادتنا وآباءنا المؤسسين بحق. الخرطوم المصنوعة استعمارياً قامت على فصل شعوب السودان عن إرثها الحضاري، وغذت الصراع بين المثقفين وداخل القصرها الجمهوري، فشهدت سوح مثقفيها نسف لقيم التسامح والتضامن. الخرطوم وبسبب صناعتها الاستعمارية القائمة على توفير عناصر العذل للمثقفين عن بيئاتهم، ساهمت في حرمان شعوب السودان من الهناء بأبنائهم. كان الأبناء حينما يأتون إليها لا يرجعون منها، فالبون ظل شاسعاً بينها وبين القرى في السودان، ففيها كل شيء، ولا يوجد في تلك القرى شيء. الخرطوم مدينة قامت بصفوية وتعرف كيف تأخذ وكيف تتفاعل مع أصحاب المزاج الصفوي. وللمزاج الصفوي، تاريخ في سيرة مثقفينا ومسيرتهم وفي مناخات حياتنا. حينما ضاق الحال بالناس في الريف وانعدمت فيه التنمية، وجاء أهل الريف للشراكة في حقوقهم في الصحة والتعليم... إلخ، بل لانتزاع حقوقهم، فوصلوا الخرطوم، وعملوا فيها بالمهن التي يعرفونها ويتقنونها وقد تعلموها في ظل غياب الدولة، فعملوا بعون حميرهم وحصينهم وفرشوا في الشوارع وتجولوا بالبضائع، وهذا ما يتقنونه وما تعلموه في حياتهم الفقيرة. حينما ظهر ذلك في شوارع الخرطوم، ارتفعت أصوات بعض المثقفون وقالوا إن الخرطوم تريفت. في تقديري، هذه ذاتية مفرطة وقصر نظر لا يخدم الراهن في شيء، بل تفكير له نتائج خطيرة على المستقبل. ففي واقع الأمر الخرطوم لم تتريف، وإنما عادت لأحضان أهلها الغبش، لتشبههم وتشبه واقعهم الفقير. الخرطوم مدينة بنيت بخطة استعمارية محكمة، وبقفزة هائلة فوق واقع شعوب السودان، ولم يكن فعلها اليومي سوى عمل ضد الأعراق الخلاسية، ومزيد من الصفوية والانزواء والانعزال. رسخ المستعمر فكرة أن يأتي الناس للتعليم، فظل الناس لنحو قرن من الزمان يأتون للتعليم في الخرطوم، والصحيح أن التعليم يذهب للناس في مناطق وأماكن عيشهم. لقد ظلت الخرطوم في وادي وأهل الريف في السودان في وادٍ آخر. الشاهد أن المؤلف الوليد مادبو محق فيما ذهب إليه، واتفق معه. بل أقول ينبغي ألا تكون الخرطوم عاصمة للسودان، ويجب تغييرها. فتغيير الخرطوم يساهم في التعافي بين شعوب السودان، فالخرطوم تحمل في ذاكرتنا جرائم بشعة واغتيالات فظيمة، لا ينبغي أن تظل عاصمة. نعم الخرطوم قدمت ثورة أكتوبر 1964م وقدمت ثورة أبريل عام 1985م، ولكنها امتصتهما، كأن لم يكونا، وظل تاريخهما برغم العطاء العظيم والتضحية الكبيرة التي قدمها الناس في الشارع في الثورتين، إلا أن تاريخهما بقي كأنه لا يعني جل أهل السودان في شيء. إن ثورتي أكتوبر وأبريل لا تشفعا للخرطوم، لأن الثورتين تبخرتا مثلما تبخرت كل مؤسسات السودان الحداثوية وذات العائد التنموي. إن تغيير عاصمة السودان والانتقال بها من الخرطوم، إلى مكان آخر، أراه شرطاً من شروط دخول المستقبل. فالخرطوم لا تحمل ملمحاً من ملامح لحظات اليقظة والإسهامات الحضارية لشعوب السودان منذ كوش وحتى اليوم. فالعاصمة يجب أن تحمل رمزية عزة الشعوب من خلال استلهامها لفترات الفجر والمجد والإسهامات التي دفعت بها للبشرية عبر المبادرات الخلاقة. إن شعوب السودان قد قدمت للبشرية الكثير في حقب تاريخية عديدة.

القارئةالكريمة، القارئ الكريم، إن المؤلف في هذا السفر لم يقدم رؤيته كاملة بكل أركانها، بل في الواقع لم يقل ما يود قوله، وإنما بدأ يفصح عن ما يحمله. هذه البداية عبر تقديمه لأفكار مجملة وتساؤولات وإشارات قابلة للتطوير والنمو، تجعلنا نعتقد بأن هذا السفر يحمل ضمنياً التزاماً من المؤلف نحو نفسه ونحو القراء بأن التفصيل والتوسع قادم في كتابات قادمة، وهذا ما سنتوقعه وسنترقبه. إن هذا السفر ، وهو باكورة انتاج المؤلف، ما هو إلا نداء لإعمال حاسة النقد، ودعوة للمواجهة في شؤون الفكر والسياسة والثقافة والتنمية من أجل التغيير والمستقبل وأنسنة (الإنسانية) الحياة، وحض على الثورة على العقل الثقافي السائد، وطرح لتساؤلات كبيرة ومتجددة وهي أسئلة المستقبل، وتذكير بأهمية تجسير التواصل بين شعوب الأرض ومراكز إنتاجها المعرفي. لهذا،فإن قراءة موضوعاته المتنوعة تحفز على التأمل والتفكير أكثر من كونهاتقدم حلولاً، فطرح الأسئلة الكبرى عبر المواجهة وبشجاعة وأسس علمية أهم من تقديم الحلول، كون التغيير يتوقف على التساؤلات والمواجهة، والتساؤلات مفتوحة على الاطلاق، بينما يخضع تقديم الحلول للسقوف المعرفية، وكثيراً ما تأتي حاملة للجزئي والتسكيني والمؤقت والمرحلي. آمل أن تجد موضوعات هذا السفر حظها من الاحتفاء في العقول والسوح عبر الحوار والسجال بما يخدم التنوير والتحرير والتغيير والتنمية.

عبدالله الفكي البشير
18 نوفمبر  2012م
الدوحة، دولة قطر


 

آراء