تطور البلادة

 


 

 

 

من يتابع حركة الفن في السودان عبر فروع الفن المختلفة ؛ وخاصة الشعر ، سيلاحظ اننا بدلا عن ان نتطور نتقهقر. لا يمكن مقارنة اغاني الحقيبة ببؤس ما لدينا الآن من أغان تعكس انحطاط الذائقة الفنية. اللغة العربية الرصينة التي كتب بها الشعراء قبل عشرات السنين تعاني اليوم من ركاكة وفجاجة الا من قلة من الكتاب الأفذاذ... لكن الذائقة تتجه الى البلادة المطلقة... تتجه الى ما يسمى بأغاني (الزنق) التي تؤمها جماهير من المساطيل ، واغاني القونات التي تؤمها مجموعة من مختلي الأذهان... لكن هل نحن وحدنا من نتجه نحو التسطح والفجاجة ؛ لا ... فالعالم كله تدفعه ثقافة الرأسمالية الى ذلك. عندما ينفجر العالم العربي معتبرا لغو أنيس شوشان شعرا ؛ فهذا يعني خللا حقيقيا إما في عقل هذه الشعوب او خللا في الشعر او ما كنا نعتقده شعرا. شعر على محمود طه ، سميح القاسم ، العباسي ، ادريس جماع ، صلاح احمد ابراهيم ، محمود درويش ، أمل دنقل ....الخ. اذا كان كلام انيس شوشان شعرا فماذا ندعوا ما قاله اؤلئك حقا؟ 

واذا كانت هاري بوتر رواية طبقت الآفاق بانتشارها عند العامة ؛ فماذا نسمي روايات العمالقة التي انسحقت تحت سطح الوعي المنحط؟
ان الانسان بدلا عن ان يهبط الى العمق ، نراه يرتفع الى السطح ، لأنه هناك يتنفس ، يتنفس ما يوائم مكونه المعرفي. ذلك المكون الهش او كما قال كونديرا السير على سطح المفاهيم. إن البشرية تتجه حقا الى التخصص العميق حد تهميش كل ما هو خارج دائرة التخصص ؛ ليس فقط تهميش الموضوع بل تهميش الوعي ذاته ، اي نفض اي محاولات لاختراق هذا الوعي المتخصص من خارجه. وهذا التخصص الذي يفضي الى نبذ الثقافة باعتبارها ترفا وتضييعا للوقت والجهد الذهني ، يؤدي بدوره الى هشاشة الذائقة باعتبارها عاطفة ذكية تدرك قيمة الأشياء فتحكم عليها من حيث القوة والوهن. لا نغفل هنا اتجاهنا الانساني نحو موت الرمز. والامتناع عن استقبال غير المباشر. فكل شيء يجب ان يحمل معناه الحرفي ، لأن هيروغلوفية الرمز تحتاج وقتا وجهدا لا تطيقه ساعتنا المسرعة. إننا في عصر الانتاج المتخصص ، عصر الاحتكام الى خبرة دقيقة ، وبالتالي الانزواء داخلها دون ان ندرك اننا نحتاج الى ذلك الخارج اكثر من الداخل. اننا في عصر تقديس العمل. حيث يتم الاعتراف بك عبره. انت تعمل اذن فسنعترف بكيونتك . العمل حد السقوط موتا. العمل حتى ولو كان يستهلك عمرنا بأكمله من أجل الحصول على المال فقط. من أجل تسديد الفواتير ومن اجل اشباع عيوننا باستهلاك السلع التي يتم ترويجها بخبث شديد لنتحول الى ضحايا لها . نتحول الى مدمنين عليها ، نحن في عصر الشوبينج... وهو عصر يقمع اي عمق مفاهيمي او عاطفي.... عصر المسلسلات التركية واللغة المبتذلة. والتعبير المباشر. عصر الصراحة وموت اللغة الخولة.
amallaw@hotmail.com

 

آراء