تعظيم سلام أم قسمة وشباب شارع الحوادث!
في يوم السبت (16/5) وقع حدث له ما بعده في تجارب الشباب الإبداعية وفي تطور منظمات المجتمع المدني، تجمع عدد من الشباب الناشطين في مساعدة الأطفال الفقراء المصابين بأمراض السرطان والدم والكلى وغيرها أمام مستشفى محمد الأمين حامد بأمدرمان،ليفتتحوا غرفة للعناية المكثفة قدموها هدية للأطفال بذلك المستشفى. وفي لفتتة بارعة غير مسبوقة اختاروا "الخالة" أم قسمة، بائعة الشاي في شارع الحوادث أمام مستشفى جعفر أبنعوف للأطفال، لتقص شريط الافتتاح. جاءت أم قسمة من جنوب كردفانفي عام 2009م لمعالجة ابنتها "قسمة"المصابة بمرض الكلى والتي تم تحويلها لمستشفى جعفر أبنعوف، فاستقر بها المقام بعد عام طويل من الممارضة والمعاناة بائعةً للشايأمام المستشفى لتدبر عيشة أطفالها الخمسة الذين جاءوا معها، تمارض ابنتها ليلاً وتعمل في بيع الشاي نهاراً. وقد وجدت عوناً كبيراً من العاملين بالمستشفى على رأسهم د. صفاء عبد الحليم، وأشارت إحدى ممرضات المستشفى لشباب شارع الحوادث بمساعدة أم قسمة المكافحةلمعالجة ابنتها ومعيشة أطفالها. فجاءها الشباب (7 أولاد وبنتان) ذات صباح سعيد ليتعرفوا عليها ويسمعوا قصتها، ثم عادوا إليها في مساء ذلك اليوم بمظروف به 200 جنيه (كان مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت)،وقالوا لها إذا احتجت لأي شيئٍ فاطلبيه منا. ومنذ ذلك اليوم انعقدت آصرة خيرٍ وتعاونبين أولئك الشباب النشطاء في عمل الخير وبين "خالتهم" أم قسمة لم تنفصم حتى اليوم، يجتمعون على بنابرها القصيرة لساعات طويلة في معظم الأيام يتداولون الرأي حول أنشطتهم الطوعية ومشكلات تمويلها، وشيئاً فشيئاً أصبحت أم قسمة جزءاً لا يتجزأ من ذلك الفريق المتناغم، تُوجه كل محتاج يسأل أين يجد شباب الحوادث، وتستقبل أي مساعدة ترد للشباب في غيابهم، وتقدم ما تستطيع من مساعدة للمرضى بحكم علاقتها الطيبة بطاقم المستشفى، وتدلي برأيها مع الشباب، بل وتحتوي ما يطرأ من خلافات في الرأي لا بد منها بين شباب طموح وثاب، فأصبحت بجدارة حكيمة الشارع وخالة الشباب. وشهدت أم قسمة فكرة غرفة العناية المكثفة للأطفال منذ ميلادها في أغسطس 2012م عندما علم الشباب بالحاجة لجهاز أكسجين في أحد المستشفيات لإنقاذ طفل فلم يوجد به. لذلك لم يكن غريباً أن يقع عليها اختيار الشباب لقصّ شريط الافتتاح وأن يقدم لها المقص الطفل الصغيرعبد اللهالمصاب بمرض السرطان في ذات المستشفى. وأرى أنه كان اختياراً موفقاً لأني لست من المؤيدين لاستغلال النشاط الطوعي الخيري في الكسب السياسي في كل الأحوال، لا مع الحكومة ولا ضدها.
وفي يوم الافتتاح تحدث نائب مدير المستشفى، الدكتور برير محمد الفكي، مثمناً مبادرة الشباب وشاكراً لهم وقال: إن هؤلاء الشباب الذين يقفون أمامكم في ملابس أنيقة (أحمد إدريس، حسام مدني، محمد إسماعيل، أيمن سعيد) الذين شرحوا لكم فكرة الغرفة ومهامها وطريقة تمويلها كانوا يعملون هنا لشهور عديدة بملابس عادية ورثة يقومون بعمل شاق يواصلون الليل بالنهار، حتى أن بعضنا لم يعرفهم في هذه الملابس الأنيقة!لقد بلغت مساحة غرفة العناية المكثفة 185 متر مربع احتوت على الآتي: 7 أسرة مكتملة، غرفة للعزل، غرفة للممرضات، غرفة للطبيب، غرفة للمناوب، غرفة للتعقيم. نظام ضد الحريق، نظام لتأمين الكهرباء، نظام للدخول بالبصمة، نظام ملف إليكتروني، سقف معدني للحماية من البكتريا، نظام تكييف، ستائر إليكترونية للعزل وحفظ الحرارة، دهان للأرضية مقاوم للبكتريا، 2 ثلاجة، 8 كراسي، 2 كاونتر، 2 دولاب فايلات، 3 حاسوب، واحد سيرفر، 2 دولاب ملابس، دولاب للممرضات. أجهزة ومعدات طبية لكل ما تحتاجه غرفة العناية. ومن الواضح أن الشباب قد درسوا المشروع بعناية شديدة وقاموا بالاستشارة المهنية اللازمة قبل أن يبدأوا مشوارهم الذي استغرق أكثر من سنتين ونصف، وهذا هو الفرق بين الموظف الذي يؤدي عمله بصورة روتينية من أجل الأجر الذي يتقاضاه شهرياً وبين المتطوع المحبلعمله ويريد أن يبلغ به درجة الكمال ما استطاعلذلك سبيلا. كلفت غرفة العناية حوالي 2 مليار و27 مليون جنيه (بالقديم)، 76% من هذا المبلغ جُمع من داخل السودان، 8% من سودانيين بالخارج، 16% من مؤسسات. وتم جمع المبلغ أساساً عبر وسائل التواصل الاجتماعي الإليكترونية مثل ما فعل شباب نفير في سيول 2012م قبل أن تترصدهم زبانية الحكومة فتشتت شملهم.
أما صاحبة الحدث قسمة التي جاءت بأمهامن جنوب كردفان لعلاج الكلى فقد شفيت بحمد الله وهي الآن طالبة منتظمة تدرس بالسنة الأولى في قسم علم النفس بجامعة الأحفاد للبنات، وأكاد أجزم أن ب. قاسم بدري مدير الجامعة لا يأخذ جنيهاً واحداً للرسوم الدراسية من تلك الطالبة، فقد درجت الجامعة منذ سنوات عديدة على إعطاء عشرات المنح المجانية للطالبات من جنوب السودان، وتكفل شباب الحوادث بمساعدة اخوانها الخمسة الآخرين بمواصلة تعليمهم في المدارس، ولا نريد أن نقصم ظهر الدكتورة صفاء إحدى ملائكة الرحمة بتفصيل ما قدمت من مساعدة لهذه الأسرة المكافحة والمحظوظة. مثل هذا السلوك الإنساني والأخلاقي الرائع،بصرف النظر عن اختلافات الموطن والأصل، هو الذي يبني الأوطان ويدمج المجتمعات المتعددة عرقياً وثقافياً في كيان وطني موحد يحُس بآلام بعضه البعض، خاصة إذا ما ظللته عدالة قانونية واجتماعية وحقوق مواطنة متساوية.
خلاصة ما هدفت إليه من هذه المقالة هو الإشارة إلى الدور الكبير والمتعاظم الذي يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني في بناء الأمة ونهضتها وتماسك وحدتها بعد أن فرقتها المشاكسات السياسية والاحترابات القبلية. وقد انتشر تكوين منظمات المجتمع المدني، منذ منتصف الثمانينيات، بصورة غير مسبوقة خاصة بين الشباب والنساء. وقد أحصيت قبل بضع سنوات أكثر من أربعة آلاف منظمة وجمعية مسجلة مع مفوضية العون الإنساني بوزارة الشؤون الإنسانية في الخرطوم، دعك من الهيئات والمراكز المسجلة في وزارة الثقافة ووزارة الإرشاد والأوقاف والتربية والتعليم. (نُشرت تلك الدراسة بمجلة الدراسات السودانية التي يصدرها معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم فيأكتوبر 2009م). تعمل كثير من هذه المنظمات في العديد من المجالات الحيوية للمجتمع مثل: الإغاثة والتنمية والصحة والتعليم والبيئة وتوفير المياه والآداب والفنون والتوعية والمناصرة والعون القانوني.ولا ينبغي للحكومة في مجتمع فقير مثل السودان لا تستطيع الدولة أن توفر له الأدوية المنقذة للحياة أن تترصد أنشطة هذه المنظمات الطوعية بالشبهات والتهم السياسية بلا دليل مقنع ثم تنقض عليها بالملاحقة والحظر وعدم تجديد الترخيص، وتظن بذلك أنها تزيد من تأمين بقاء النظام. أحسب أن العكس هو الصحيح فهذه المنظمات الطوعية تمثل انفراجة محدودة لقسوة الحياة في السودان التي تسيطر الحكومة على كل جوانبهادون نجاح يذكر!
altayib39alabdin@gmail.com