تعلمنا منها حب الوطن بالدموع والدماء، رحلة جبلية صعبة بين رحيق الحياة وجراح الواقع

 


 

 

د. الهادي عبدالله أبوضفائر

في لحظة صفاء، تسلل الحنين وحب الانتماء إلى أعماق قلبي، فتذكرت صورة وطني الحبيب، وطن دمرناه بما كسبت أيدينا، يوم أن أسقطنا مادة التربية الوطنية من المنهج، فسقطت من عقول الكبار قبل ان تنتزع من قلوب الأطفال، فتسللت الأنانية وحب الذات إلى قلوبنا يوم أن فضحتنا محنة الحرب، فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد، أصبح الطمع والجشع والاستغلال سمة فينا إلا من رحم ربي، يوم أن غاب عنا الأمن وضاعت أحلام وذكريات الطفولة البريئة ولحظات جمال الغروب على شواطئ النيل، حينما فقدنا البيت الكبير بضوئه الدافئ وكل الذكريات، مضى الزمن ونحن نتمزق تحت وطأة فقدان هيبة الثورة في أعيننا، وقلوبنا تحترق حين عم الظلم في أرضنا وضاعت قيمة الإنسان.

عفواً يا وطن.. من اعماق القلب نعزي انفسنا، يوم أن سطرنا الطمع والجشع في دفتر الأحوال اليومية وعندما تناثرت أحلام الفقراء في سماء الليل المظلمة. فغمر الحزن قلوب الأمهات يوم ان فقدت لقمة العيش بطون أطفالهن الجياع، انهمرت الدموع المتعبة، لتُروي لنا قصة استغلال الضعفاء، مما يعكس زيفنا الذي يلبس ثوب العدوانية على طرقات حياة تحمل في طياتها أمل العدالة المفقودة. ضاع الحلم يوم أن توارت النخوة بين ارتفاع الايجارات وصوت الدانات وأزيز الرصاص في الطرقات و على ارصفة الظلم والجور. وفي هذا السياق المؤلم، لا تزال قلوبنا محملة بالأمل مع غروب كل يوم، ومن بين سحب اليأس، يترجَّل الأمل على أرض الواقع، تُعلمنا أن الفجر يشرق يوماً ما وسيعود العدل، وينتظم خيطنا المبعثر، ويظهر حقنا المفقود، ويتحد الشعب المظلوم، يكسر القيود، ويهزم الاستبداد، ويهدم الحصون. يوم ان يهتف الشفاتة والكنداكات ويعلو صوت الثورة التي تضيء دياجير الظلم، بها نستعيد الأمل المفقود ويستحقُّ كل إنسان حياة تليق بكرامته. بكثير من الدموع والدماء عرفناك يا وطن انك مصدر عزتنا وفخرنا، ولا يمكن لأي عزٍّ أو حبٍّ يضاهي قيمتك.

في مشاوير الرحيل المر بين المدن والأرياف سري الحزن تحت وطأة الفقدان، وتغلغل الظلم في أرضنا، وتلاشت قيمة الإنسان. وأسراب الضحايا تشكل شهادة صامتة على الطريق المظلم، بحقائبهم الخفيفة، وعيونهم الجريحة. يتهامسون سراً، وآثار المعاناة تلوح في بريق عيونهم الذابلة. تسوقهم سياط الظالم الجلاد إلى المجهول. وهم يعانون ألم الرحلة القاسية، بينما المعتدون يتلذذون ويضحكون، وأفواه بنادقهم تعوي في الدجى المشؤوم. وعلى الطرقات جثث ممزقة تروي قصة الدمار، واطفال يسيرون حفاة عراة، بينما صوت المعتدي يشكل صخباً لا ينطفئ، يمزق أذن الوجود، حيث لا شعور للظلمة، كأنهم صمٌّ بكم تجاه صرخات الأطفال.
ولكن مع كل هذه المعاناة هناك أمل بالعودة إلى القرية الغناء وللكوخ الموشح برائحة الورود، والبسمة تكسي الوجوه، فترسم لوحة جديدة من الأمل والإصرار.

برغم ضراوة التحديات والكوارث وجور السنين وألم النزوح وفقدان الآباء والأمهات، ما زال الاطفال، كالفراشات الصامدة يحولون تلك الابتلاءات إلى فرص للبناء وهم ينشدون( الألف اللام السين الواو الدال الألف النون) نحن جند الله جند الوطن نتحدى الموت عند المحن محن قد تعصف بالأمم وتكسر ظهر الاوطان، ولكن من بين دياجير الظلام تنفجر الإرادة وتشتعل جذوة التصميم. إنها اللحظة التي تجعل الشعوب تستعرض قوتها وصمودها.. تماما مثل الحشائش التي تنبت بين الصخور وصم الحجارة. وكما يقول الحكماء: "إن البحار الهائجة تخفي للسفن أفقاً جديداً." فالشعوب الحية تعتبر الكوارث فرصاً لاستكشاف الإمكانيات وتحديد اتجاهات المستقبل، حيث يظهر الإبداع في إعادة بناء ما دُمّرته الحرب. إنها رحلة الحياة التي تتمايل على أنغام الأمل والتحدي. تحكي لنا أن الكوارث ليست النهاية، بل هي بداية لمرحلة جديدة، حيث يتجسد التحول الإيجابي في قدرة الإنسان على تحويل الألام إلى إلهام والظلام العنيد إلى فجر جديد.. لننهض معاً نحو مستقبل باهر يتسامى فيه الأمل والبناء.

في ساحة الوطن، تتراقص الابتسامات كألحان مخفية في سيمفونية الوجوه التي شربت كاسات المحن والإحن لعشرات السنين، في معسكرات النزوح، متحملين كل ألوان العذاب من التمثيل بالجثث ودفن الناس أحياء..
رغم ذلك يظل داخلهم الوطن، ام تحكي قصة الأمل الأخضر مقابل اليأس والبرود.. والقوة في مواجهة الأحزان. فقد كل وجه يرسم لوحة من البهجة، وخلف كل ابتسامة ينسج القلب أوتاراً خفية من الصمود. كأن الحياة تختبئ في تفاصيل الضحكة، حيث تتداخل الأفراح والأحزان كأنها تنقش على قلوبنا قصائد جميلة. فقط الحكيم من يدرك أن السحب السوداء أحياناً تلون سماء الأرواح. ما بين مسافة الحزن والفرح يكون الإنسان كالفنان الذي يمتزج بألوان اللحظات. ورغم غموض الأزمان، تكمن جمالية الوجوه المبتسمة في قدرتها على انجاز لوحة جديدة حتى في أصعب التحديات ترسم آهات الحياة بأنامل الأمل، ينسج البسمة على شواطئ الحياة، حبهم لأرضهم جعلهم يعيشون في عالم من الظلام الذي يفصلهم عن أشعة الراحة والسلام. وهم يحملون متاعب الحياة ، في حين يجد الآخرون طريقهم إلى الهناء. ينظرون للحياة بعيون تمتلئ بالتفاؤل والإيجابية. إنها رحلة تتخذ من الثقة في الآخرين والنظرة الإيجابية رفيقين، يهديان السفر عبر الأمواج الصعبة نحو شاطئ الوطن المنشود.

في عمق تلك اللحظات المشحونة بالضياع وانقطاع خيوط الأمل، يرقد وطني بين رزايا الأزمان وذرايا الأحزان، وهمسات الضياع. تتطاير آمال الأجيال كأوراق يابسة بعثرتها اعاصير الصيف في براري النسيان، تختبئ بين أفق ةالماضي وأضواء الحاضر، وفي تلك الفوضى المحتدمة، يصرخ القلم بألم على صفحات الواقع المرير. تحلق الأحزان كأطياف مهزوزة في سماء الزمان، تتلاشى وتتبدد بين لحظات الصمت وأفكار الاختلاط، وفي تلك الرحلة المتلاطمة، يتوه نضال مرير بين أوراق النسيان وأسرار الزمان. عندما تشتعل أشعة الشمس بلهيب الحقيقة، و تحكي قصة خيانة مخفية بين ألوان الصمت وظلال الانقسام. في ذلك المسرح المظلم، ينادي الوطن نداء الألم والأمل، يندب الأحلام المحطمة تحت أعباء الظلم والاحتلال، وتجدد الروح شرارة الصمود والتحدي. بين جدران السجن اللئيم وضجيج السلاسل والعقيد الثقيل..
اليوم يرفع شباب الوطن راية التحرير والعزة، يتحدون عاصفة الخيانة وأمواج الظلم.. تمضي التضحيات كأحجار الزمان، تمهر تاريخ البطولة والفداء بأحرف من ذهب. وبطولات ستبقى خالدة في ذاكرة الأجيال، ترسم دروساً للمستقبل ومعاني للوطنية والفداء.
وفي ساحات العز و الشرف، تتجلى قيمة الوطن وأمنه، وتتصاعد أصوات الرجال وهم يحملون شعلة الأمل وراية الحرية..
لك الله يا وطن...
نفديك بأغلى ثمن.

abudafair@hotmail.com

 

آراء