تغييرات المسرح السياسي تقود إلي إين؟

 


 

 

شعب السودان هو الأكثر تجربة في إفريقيا و الشرق الأوسط منازلة ضد القوى الديكتاورية، الممثلة في سلطة المؤسسة العسكرية و الأحزاب التي تتحالف معها، و أغلبيتها كانت قوى أيديولوجية تريد فرض مشروعها السياسي بتحالف السياسة مع العسكر. و رغم أنتصار الشعب في معاركه ضد الديكتاتورية، لكن سرعان ما تخذله الأحزاب التي توكل إليها مهمة عملية التحول الديمقراطية. و قد تكررت التجربة عدة مرات، و الغريب في الأمر أن النخب السياسة لا تستفيد من تجارب الماضي. بل تقع في ذات الأخطاء. الغريب في الأمر تتغير الأجندة بعد سقوط النظام الديكتاتوري، و يغيب المشروع السياسي، و تتغير الأجندة عند القوى السياسية، فيتحول شعار العمل من أجل الديمقراطية " التحول الديمقراطي" إلي شعار الحفاظ على السلطة، و هو شعار يظهر الرغبات الحقيقية في مخيلة بعض القوى السياسية، و يتضح من التجارب أنها لا تملك الأليات المطلوبة لتامين السلطة الجديدة، أو أن أليات الحفاظ على السلطة تكون في أيدي القوى التي تريد أن تشاركها السلطة، و تغفل الأحزاب عن ذلك....! أن تغيير الأجندة يقود لمضار، يفقدك تضامن القوى التي كان لها الفضل في عملية التغيير، و التي استطاعت أن تحدث تغيير في ميزان القوى في المجتمع، مما جعلها تنتصر على الديكتاورية. و الصراع داخل دائرة القوى القابضة على السلطة بعد رحيل النظام السابق تفتح مسارات لدخول قوى أخرى تستطيع أن توسع الراتق بين القوى القابضة على السلطة لكي تحدث واقعا جديدا في توازن القوى. و تغيير ميزان القوى هو الذي يؤهلها للعودة.
و المشكلة ليست في الأحزاب وحدها؛ حتى في النخب المثقفة، إذا كانت في الإعلام أو في الصحافة، أو حتى في منظمات المجتمع المدني، كل هؤلاء يقع عليهم عبء مراقبة المسرح السياسي، و لفت نظار النخب السياسية بأن مسارها في تغيير الأجندة سوف يؤدي إلي تغييرات في المسرح السياسي، و هي تضر بعملية التحول الديمقراطي المطلوبة. لكن للأسف أن هذه النخب المثقفة بعضها يقع في دائرة الاستقطاب السياسي، و البعض الأخر يكون مشدودا للعواطف الخاصة بعيدا عن الموضوعية " Like and dislike " الأمر الذي يجعل الكل عندما تقع الطامة في حالة من الإنذعاج، رغم أن أغلبية الذين درسوا الفكر السياسي يعلمون أن السياسة ليست من المسائل الثابته حتى في القناعات المبدئية، لأنها مرتبطة بالمصالح، و بالتالي هي مواجهة بمتغيرات بصورة مستمرة، الأمر الذي أوعز لعلماء الإستراتيجية و إدارة الإزمات أن يأتوا بفكرة استخدام وسائل مساعدة مثل " المناورة و التكتيك" لكي تخدم الفكرة الكلية، أو الإستراتيجية المراد تحقيقها على الواقع. لكن هل القوى السياسية الراغبة في عملية التحول الديمقراطي عندها القدرة على استخدام التكتيك بشجاعة وفاعلية يمكنها من نجاح عملية التحول الديمقراطي المطلوبة؟
استغربت جدا للتوجيه الذي كان قد جاء في حديث ياسر عرمان عضو المجلس المركزي لتحالف ( الحرية و التغيير) لجريدة ( الشرق الأوسط) عن عودة الإسلاميين مرة أخرى للسلطة. حيث قال " أوجه تحذيرين للمجتمعَين الإقليمي والدولي، من مخاطر وشيكة تتهدد البلاد، بسبب اقتراب أنصار النظام السابق الإسلاميين من استعادة السلطة التي فقدوها مع سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019 بفعل ثورة شعبية. كما حذر عرمان من محاولات يبذلها الإسلاميون لخلق فتنة بين القوات المسلحة وقوات «الدعم السريع»، على أمل إضعافهما والتسلل إلى داخلهما للسيطرة على الدولة؛ مشيراً إلى أن حدوث ذلك قد يهدد الأمن الإقليمي" و ياسر عرمان ليس ناشطا سياسيا، بل هو محترف سياسة لأكثر من أربعة عقود. و كان عليه أن يقرأ الساحة السياسية بموضوعية خلاف الأخرين، لأن الإسلاميين كانوا في السلطة ثلاثة عقود، و قد تحالفت معهم قوى سياسية عديدة، و رجال إدارة أهلية، و طرق صوفية، و كل هؤلاء كانت تربطهم مصالح بالنظام السابق، لا يعني سقوط النظام أن انصاره سوف يذهبوا إلي حال سبيلهم لكي يقرره لهم الأخرين، هؤلاء ينتمون لقوى أيديولوجية منظمة سوف يشكلون تحدي للنظام الجديد في مساره، و يشكلون تحديا لعملية التحول الديمقراطي إذا لم يعرفوا موقعهم السياسي من النظام الجديد. فكان على قوى الحرية و التغيير أن تدرك هذا الواقع و تتعامل معه وفقا للمعطيات التي تؤدي إلي نجاح عملية التحول الديمقراطي. الغريب في الأمر أن ياسر عرمان و عمر الدقير كانت لهما رؤية موضوعية، أن تكسب قطاع عريض من الإسلاميين لمناصرة عملية التحول الديمقراطي دون مشاركتهم في الفترة الانتقالية، و يمكن أن يشاركوا في أي حوار لصناعة الدستور و قانون الانتخابات، و اعمال مفوضة الانتخابات. و هذا لا يمنع من تفكيك دولة الحزب الواحد لصالح التعددية السياسية، و محاسبة كل الذين أجرموا أو ارتكابوا فسادا، لكن للأسف أن الكل تخوف من شعارات الشيوعيين بعدم الاقدام على الخطوة، باعتبارها ضد شعارات الثورة، و هذا خطأ، لآن شعارات الثورة تركزت في (حرية سلام و عدالة، و قيام الدولة المدنية الديمقراطية) و يتبني التكتيك على هاذين الشعارين فقط، و لكن استجابت قيادات الحرية و التغيير لشعارات الشيوعيين الممرحلة، فوحدة بين اطياف كل الإسلاميين و عناصر المؤتمر الوطني، و حزب مثل الاتحادي الديمقراطي الأصل الذي يمتلك قاعدة عريض من المواليين. ثم عاد الحزب الشيوعي و أعلن الحرب على حكومة حمدوك و الحرية المركزي، بل عمل على خلق جفوة بينهم و لجان المقاومة، لكي يكون وحده هو الممثل البطل في المسرح السياسي. هل كانت قوى الحرية و التغيير غير مدركة لإستراتيجية الزملاء؟
عندما تكون فكرة (السلطة) هي المسيطرة على الجميع، تصبح عملية الصراع في أعلى درجاتها، و كل قوى لا تستطيع أن تعلم بكل تفاصيل مخططات القوى الأخرى، و لا بالأدوات التي يمكن ان تستخدمها. و لكن فكرة ( الديمقراطية) تجعل صاحبها لديه الاستعداد أن يفتح الجسور مع كل القوى الأخرى لدعم الفكرة، و لا يتخوف من طرحها بقوة في الشارع السياسي، و معلوم أن التحول الديمقراطي لا يتم إلا بالشروط التي تعزز ثقافته في المجتمع. فالديمقراطية نظام يؤسس بأكبر قاعدة أجتماعية مناصرة له، و حتى الذين يعارضون بداية مسيرتها يمكن تحيدهم مؤقتا حتى يصلوا لقناعة بضرورة الديمقراطية. فالصراع الدائر بين أطرف القوى التي شاركت في الثورة، و محاولت كل مجموعة أن تدعي هي الأحق وحدها لكي تتسلم السلطة من العسكر، هي التي فتحت طريق عودة عناصر النظام السابق للساحة، إذا كانت بمعاونة العسكر، أو الاستفادة من صراعات الأخرين مع بعضهم البعض.
أن عودة عناصر المؤتمر الوطني للساحة السياسية أصبحت واقعا، و هي سوف تغير في قوانين اللعبة على المسرح السياسي، و هي مجموعة عندها قدرة على الحركة و الإمكانيات التي تساعدها على ذلك، إذا كان ذالك برعاية العسكر، أو قدرتهم الذاتية على الحركة، و هذا يشكل تحدي للقوى الأخرى. يصبح السؤال هل تكتف بالشكوى للمجتمع الدولي و الإقليمي كما فعل ياسر عرمان، أم لها تصور أخر. هناك البعض الذي يعتقد لابد من وحدة قوى الثورة، و تصعيد الثورة الشعبية ضد الانقلاب. أن تصعيد الشارع وحده لا يستطيع اسقاط الانقلاب إلا إذا كان مدعوما بإضراب سياسي يشارك فيه كل الشعب السوداني، أو قوى مسلحة أخرى تنحاز للشارع. يصبح السؤال ما هو العمل من أجل نجاح عملية التحول الديمقراطي في ظل هذه المتغييرات الجديدة؟ و هل عملية التحول الديمقراطي هي بالفعل تشكل الأولوية دون سواها؟
أن الإجابة على السؤالين؛ مرتبطة بقدرة القوى السياسية لقراءة الواقع قرأة صحيحة، و معرفة الميكانيزمات المحركة لهذا الواقع، و قدرتها على التأثير سلبا أو إجابا. و حتى الآن ماتزال الكرة في ملعب قوى الحرية و التغيير ( المركزي) و مدى استطاعتها لتقديم مشروع سياسي، أو ميثاق تطرحه بقوة على الكل و تدير حوله حوارا مفتوحا. و تقلص مشروعها ذو الثلاث مراحل إلي مرحلتين فقط، المرحلة الأولي الجلوس مع كل القوى المؤيدة لعملية التحول الديمقراطي ،و الوصول معها لتوافق حول مسودة دستور تحكم الفترة الانتقالية، و التوافق على حكومة من كفاءات سودانية مشهود لها بالنزاهة و الشفافية و حسن الإدارة و الوعي السياسي و هي التي تستلم السلطة من العسكر، ثم تبدأ في انجاز الفترة الانتقالية، و تشكيل الأجهزة العدلية و المفوضيات و بقية المؤسسات المطلوبة، و تشكيل مجلس تشريعي لا يتعدى 150 شخص، تخصص 40% من مقاعده للجان المقاومة بمشاركة كل الأقاليم، و 20% للمرأة من كل الأقاليم و 40% للأحزاب و الحركات و القوى المدنية، و أن لا تتعدى الفترة الانتقالية سنتين، و تكون مفوضية للدستور تدعو لحوار من أجل صناعة الدستور تتفق عليه القوى السياسية دون أي قصاء، و يقدم الدستور للحكومة المنتخبة و يجاز في برلمانها و من ثم يقدم إلي أستفتاء شعبي. فهل قوى الحرية المركزي تستطيع أن تقدم في أجندتها الوطن و التحول الديمقراطي على أجندة السلطة؟ هو السؤال الذي يجب أن تجاوب عليه. و إذا تعتقد أنها متمسكة بمراحلها الثلاث سوف تخسر معركتها السياسية بسبب المتغيرات في الساحة السياسية. و نسأل الله التوفيق و حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء