طرح الأكاديمي والمفكر الامريكي فوكوياما تساؤلا هاما في كتابه الأخير (صدأ وتآكل المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة)، وهو التجافي عن احداث الإصلاحات الضرورية لوقف تآكل المؤسسات السياسية في ظل عجزها عن اداء وظائفها في فضاء الدولة الحديثة.
وأشار فوكوياما في كتابه المذكور ان صدأ وتآكل المؤسسات لا يعني انهيار النظام السياسي للدولة لكنه يستظهر عجز هذه المؤسسات عن مجابهة التحديات التي تقع في نطاق عملها الحيوي. وهو ما يشير الي وجود عقلية جامدة تقاوم الإصلاح. من جهة اخري أشار القائم بالاعمال الامريكي الأسبق في السودان جيرارد قالوشي في مقال نشره هذا الشهر الي ان النظام المركزي هو افضل النظم التي تناسب دول العالم الثالث بما في ذلك السودان. تتفق معظم النخب علي الأقل سكوتيا علي اهمية إصلاح الدولة ، وقد جعلت الحكومة من برنامج إصلاح الدولة شعارا للمرحلة، لكن تربط بعض هذه النخب عملية إصلاح الدولة بالمسار السياسي، بمعني ان يجري الإصلاح السياسي وفق مجريات التفاوض ومحاصصات السلطة القادمة ، وان يتم إنزال هذه الاتفاقات باعتبارها برنامجا هيكليا و كليا للإصلاح. وهذه هي اول مواطن الخلل اذ يجب الفصل التام بين العملية السياسية والإصلاح الاداري للدولة ولا يوجد اي ربط موضوعي بين محوري العملية السياسية والإصلاح الاداري. وأي إبطاء في عملية إصلاح الدولة في انتظار نتائج الحوار السياسي يعتبر طعنا في جوهر مصلحة المواطن الحقيقية . أولي تحديات عملية إصلاح الدولة يبدأ باهمية الاعتراف بعجز المؤسسات القائمة عن القيام بوظائفها الحيوية علي الوجه الأكمل والاتم. وقد اصبحت مؤشرات هذا العجز مصدر قلق للمهتمين ، مما يعني ضرورة امتلاك الإرادة السياسية لإنفاذ موجهات الإصلاح. و تبرز اكبر معوقات الإصلاح بعد توفر الإرادة السياسية في وجود عقلية جامدة مقاومة للإصلاح لان الوضع الراهن يتماهي مع مصالحها لذا تعض عليه بالنواجز. كما توجد بعض المؤسسات المستفيدة من الوضع الراهن لانه يتيح لها تمدد نفوذها ازاء عجز المؤسسات الاخري. يؤدي الوضع الراهن الذي تتمثل ابرز ملامحه في عجز المؤسسات عن اداء وظائفها الحيوية الي تكريس الدولة البيروقراطية. هي دولة تتحكم فيها أمزجة الموظفين والمساومات والصلات والقرابات وشبكة المصالح لغياب النظام الفاعل والعادل الذي ينظم الشأن العام ويحتكم اليه الجميع. وهنا يطفح الفساد وتكثر الرشاوي. يعتقد فوكاياما في كتابه المشار اليه ان السبب الرئيس في تآكل المؤسسات السياسية في امريكا يعود الي تاريخ تطور هذه المؤسسات مشيرا الي ان الرصاصة الفضية لتحديد المشكلة تتلخص في تمدد نفوذ الجهازين القضائي والتشريعي علي حساب الجهاز التنفيذي. وهو خوف قديم ظل ملازما للعقلية السياسية الامريكية يرتكز علي ضرورة كبح جماح المؤسسة التنفيذية بما فيها سلطات رئيس الجمهورية خوفا من تمدد نفوذه. لكن في المقابل أدي تمدد نفوذ الجهازين التشريعي (الكونقرس) والقضائي علي حساب سلطات الجهاز التنفيذي وسلطات رئيس الجمهورية الي خلل مؤسسي فادح قاد الي بروز ظاهرة التآكل السياسي وعجز المؤسسات عن اداء وظائفها الحيوية ويؤدي ذلك لاحقا اذا لم يستدرك عليه بتدابير الإصلاح الي انهيار هذه المؤسسات. ما ينتقده فرانسيس فوكاياما في امريكا يحدث عكسه تماما في السودان، اذ تتوسع سلطات الجهاز التنفيذي علي حساب سلطات الجهازين التشريعي والقضائي. وهي ليست ظاهرة خاصة بالسودان لكنها ملمح بارز في الأداء السياسي في كل دول العالم الثالث. يبرز من هذا النقاش نقطة جوهرية وهي ان أولي خطوات اصلاح الدولة فضلا عن توفر الإرادة السياسية هو تفكيك الدولة البيروقراطية في السودان. لكن تفكيك هذه الدولة التاريخية البيروقراطية في السودان دونه حتوف، ليس فقط لتحكم الذهنية الجامدة المقاومة للإصلاح لكن لوجود شبكة مصالح ممتدة وعميقة ارتبطت مصالحها التاريخية ببقاء أسس هذه الدولة راسخة وقوية . وستقاوم مجموعة المصالح من مؤسسات وأفراد وطبقات ظلت تستفيد من ريع الدولة البيروقراطية كل محاولات الإصلاح. اذ ظلت طبقات راسخة تبيع سلع وخدمات الدولة للمواطنين خارج نظم الدولة لوجود طبقات من الإجراءات المعقدة واللوائح المقيدة، فتتم المساومات خارج النظم المؤسسية لصلات المصالح والقرابة والطبقة السياسية. لذا يتوجب علي صانع القرار في الدولة ان يوجه طاقته القصوي في عملية اصلاح الدولة الي تفكيك الدولة البيروقراطية ذات الثقل التاريخي الحافل. وقد سبق وان اشتكي سلاطين باشا الي كتشنر الحاكم العام حينها عندما كلفه باجراء إصلاحات ادارية ومالية مشيرا الي وجود طبقة من جامعي المكوس و الضرائب ارتبطت مصالحهم بالوضع القائم حينها مما افشل كل جهود الإصلاح المالي. لقد عجز سلاطين عن اجراء إصلاحات مالية لضريبة سوق البغاء في المسلمية لوجود شبكة المصالح والطبقات. ستقاوم مجموعة المصالح وبعض منتسبي الطبقة السياسية أي إصلاحات تهدف الي تفكيك أسس الدولة البيروقراطية علي شكلها القديم. واعادة تاسيس جهاز بيروقراطي يقوم علي الأداء والفعالية والشفافية والمحاسبة، وكذلك تخليصه من الترهل الاداري و التوظيف الجزافي. عندما ابتدر السيسلوجي الألماني ماكس فيبر البيروقراطية جعلها جوهر المؤسسة الناظمة للعلاقة بين صانع السياسات ومشرعي القوانيين والمواطن، و هي معنية بسلطة إنفاذ القوانيين المنظمة للنشاط المدني، تطور مفهوم البيروقراطية ودخل في منظومتها العديد من المؤسسات حتي تنزلت لما اسماه البعض (بيروقراطية الشارع العام). لذا يقول جيمس ويلسون في ورقته الفكرية عن ( صعود الدولة البيروقراطية) ان تقاطع المصالح بين المؤسسات العامة واصحاب المصلحة الخاصة هو ما يؤدي الي تضخيم دور الجهاز البيروقراطي لإدارة الدولة، ويفرق ويلسون بين (البيروقراطية الموجهة لخدمة العملاء) وهم المواطنين bureaucratic clientelism والبيروقراطية الجامدة التي تقدس الإجراءات علي حساب مصلحة العملاء او المواطنين. لا بد ان تبدأ الخطط والتصورات باصلاح المؤسسات وليس الانتظار لإجازة التشريعات والقوانين وإصلاح الهياكل، ويمكن للدولة ان تبدأ بنوافذ خدمات المواطنين من إجراءات وتبسيط المعاملات وقفل نوافذ المساومات، ولعل الاهمية تكمن في ان يبدأ الإصلاح من الأدني الي الاعلي وليس العكس فالاهتمام بالاجهزة الإدارية الصغيرة والوحدات و المؤسسات وهي مركز اهتمام المواطن اهم من اهدار الطاقة في اصلاح الهياكل الفيدرالية الكبيرة لانها تتطلب سن او تعديل تشريعات واستحداث لوائح واجراءات ناظمة تأخذ وقتا عزيزا لا يحبذه المجتمع. ويمكن ان تترافق عمليات الإصلاح المؤسسي و البدء من الأدني للاعلي مع خطوات اصلاح الهياكل الفيدرالية. وهذا يقضي التفكير بذهن رجل الدولة وليس بذهنية تجار السوق الذين يستعجلون النتائج للمصلحة العابرة العاجلة، و ليس البناء المؤسسي الذي يستثمر في المستقبل بالقوانين والهياكل و والاهداف. صفوة القول ان هناك إرادة سياسية عبرت عنها الدولة في اكثر من مناسبة ومحفل عن اهمية وضرورة الإصلاح لكن ينتظر المجتمع ان يري مظاهر ذلك الإصلاح عاجلا غير آجل دون انتظار لمسار ونتائج العملية السياسية ، وان يترافق ذلك مع رؤية كلية لتفكيك الدولة البيروقراطية التي ظلت بقرة حلوبا لبعض اصحاب المصالح والطبقة السياسية والافراد المنتفعين التي تقاوم التغيير والإصلاح للحفاظ علي مصالحها. ان بقاء واستمرار الوضع علي ما هو عليه دون اصلاح عاجل وفعال بعد ان برزت التشوهات والعجز النسبي في الأداء الحكومي العام سينتقل بالوضع من خانة الصدأ والتآكل الي الفشل والانهيار.