يصب هذا الكتاب الموسوم بـ الفكرة الجمهورية من خلال الردود علي معارضيها، لمؤلفه عيسى إبراهيم، في تأكيد معنى عبارة الأستاذ محمود محمد طه الواردة أعلاه: "الفكر يتيم في هذا البلد". فالقضايا الفكرية الكبرى ظلت تعالج بمداخل فقهية، وتقابل بكسل عقلي ظاهر، ويتصدى لها الفقهاء ومن سار في ركبهم. ويكشف هذا الكتاب بجلاء عن وضعية الكسل العقلي التي لازمت رجال الدين، في مواقفهم من الفكرة الجمهورية( ) منذ أن طرحها صاحبها الأستاذ محمود محمد طه، في 30 نوفمبر 1951، وحتى يوم الناس هذا. كما يُعبر الكتاب بفصاحة عن مدى ضعف المعرفة بالفكرة الجمهورية عند المنشغلين بنقدها، ولدى المشتغلين بالفكر الإسلامي. تمحور الكتاب، وهو عبارة عن مقالات نُشرت خلال الفترة ما بين 7 فبراير 2013- 17 فبراير 2018، في ردوده حول آراء أحد عشر كاتباً، كما غشي آخرين. كان جميع هؤلاء الكتاب من السودان، وكان النصيب الأكبر من الردود على الفقهاء منهم. نُشرت آراء جميع هؤلاء المعارضين ما بين عامي 2013 و 2018 ما عدا أطروحة دكتوراة بعنوان: فرقة الجمهوريين بالسودان وموقف الإسلام منها، التي نال بها الطالب شوقي بشير عبدالمجيد (البروفيسور اليوم) درجة الدكتوراة في العقيدة، في عام 1404هـ [1983/ 1984]، من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، وهو مبتعث من جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان، إلى جانب كتب وأوراق استلها شوقي من أطروحته، ونشرها لاحقاً. تكوَّن الكتاب من ثلاثة عشر فصلاً، وخصص كل فصل لآراء أحد المعارضين للفكرة الجمهورية. تناول في ردوده وتصحيحه للآراء، محاور عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: التطور عند الأستاذ محمود محمد طه والدارونية، فرويد والفكرة الجمهورية، تطوير التشريع، أصول القرآن وفروعه، الإسلام إسلامان، النسخ في القرآن، لماذا؟، المثاني في القرآن، اللغة العربية ومعاني القرآن، بين الشريعة والسنة، بين الشريعة والدين، بين العلمية والعقائدية، وحدة الوجود: الحلول والاتحاد، محكمة الردة، الردة وحرية العقيدة، المرأة بين أصول القرآن وفروعه، تعدد الزوجات، خطوة نحو الزواج في الإسلام، بين الذات المطلقة والذات الحادثة، الإسلام بين الرسالة الأولى والرسالة الثانية، النبي هو رسول الرسالتين، الضحية، صلاة التراويح بدعة، الزكاة ذات المقادير شريعة وليست سنة، النبوة ختمت بنص صريح، الرسالة لم تختم: كيف ولماذا؟، كلمة الله في الفكرة الجمهورية، الله والإله، الله والإنسان الكامل، المسيح المحمدي والأستاذ محمود، الأصالة، الصيام والحج عند الأستاذ محمود، سقوط التكاليف، التسيير والتخيير، الجهاد، تأميم قناة السويس، القومية العربية، الجمهوريون والقضية الفلسطينية، ختان الإناث، ضرب الجزيرة أبا، الترابي ودعاوي التجديد، والنسب عند الأستاذ محمود محمد طه، وغيرها. إن جل هذه الموضوعات ليس بالجديد، فقد ظل الفقهاء يتناولونها بمداخل فقهية من دون ورع علمي، وهي قضايا فكرية تتجاوز سقوفهم المعرفية ودربتهم العلمية، منذ عقد ستينات القرن الماضي وحتى تاريخ اليوم. ولم يأت نقاد اليوم بجديد فيها، وإنما نقلوا أقوال السابقين من الفقهاء، فأعادوا سوء تخريجاتهم، ليعبروا عن كسلهم العقلي، وليبعثوا بحقيقة عدم الصدق عند الفقهاء. كان الأستاذ محمود محمد طه في عام 1968 قد قال: "نحن لا نلوم الفقهاء على عدم الفهم، ولكننا نلومهم على عدم الصدق" . ويحمد لعيسى إبراهيم أنه أستطاع في كتابه هذا، من خلال تتبعه لآراء هؤلاء الفقهاء، واستناده على مصادر الفكرة الجمهورية، أن يُبين ويؤكد عدم صدق الفقهاء في تعاطيهم مع نصوص الفكرة الجمهورية، فخصص محاور لذلك، منها: "بتر النصوص عادة المعارضين"، و"شوقي بين بتر النص والنقل الخطأ". لخص عيسى أثر المعارضين السابقين للفكرة الجمهورية في معارضي اليوم من أمثال: د. شوقي عبد المجيد ود. محمد وقيع الله، ود. عارف الركابي، وغيرهم، ضمن رده على كتابة د. وقيع الله، حيث كتب عيسى قائلاً: "لم يخرج فيها من سياق من سبقوه في معارضة الفكرة الجمهورية بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؛ وذلك من خلال نقلٍ مخلٍ، أو فهم قاصرٍ، أو تشويه مقصودٍ، أو تخريجٍ مؤوفٍ بروح القطيع، أو اتباعٍ لسابقين غير دقيق وبلا تمحيصٍ، أو قصور شخصي في الوصول للمعلومة الصحيحة..!". كما فصَّل عيسى في أطول فصول كتابه، وهو الفصل الأول، والذي خصصه لكتابات شوقي عبدالمجيد، والتي تمثل أبشع نماذج سوء التخريج والبتر للنصوص والنقل الخطأ. لقد أحسن عيسى صنعاً بأن خص كتابات شوقي بأربعة عشر مقالاً. إن أطروحة شوقي للدكتوراة وكتاباته، بما انطوت عليه من فوضى علمية وجهل بالفكرة الجمهورية، وبما وجدته من ذيوع في الدوائر الإسلامية، لهي أنصع دليل على يُتْم الفكر في السودان والعالم الإسلامي، وأبلغ بيان على انعدام الورع العلمي وغياب الأخلاق. لقد اتيحت لي الفرصة لدراسة أطروحة شوقي للدكتوراة، فهي تقع في (1431) صفحة، وتكاد تكون من أوائل الدراسات الجامعية التي أعدت في نقد الفكرة الجمهورية. وقد لاحظت أن هذه الأطروحة لم تكن فاقدة للأسس العلمية فحسب؛ وإنما كانت تضج بالجهل والسذاجة والعبث. كانت المعلومات فيها غير دقيقة وبعضها غير صحيح البتة ليس على مستوى الفكرة الجمهورية والأستاذ محمود محمد طه فقط، بل على مستوى تاريخ السودان ومساره السياسي. فقد أحاط الجهل بها، للحد الذي يصعب على قارىء مطلع ملم، دعك من متخصص، أن يكمل قراءتها( ). لقد بيَّن عيسى في كتابه هذا، خطل كتابات شوقي ومفارقتها للأسس العلمية، وكان هذا مهماً للغاية لعدة أسباب، منها: 1. إن أطروحة شوقي أصبحت من أهم المراجع عن الفكرة الجمهورية في الجامعات الإسلامية والمعاهد القرآنية في السودان والعالم الإسلامي. 2. استل شوقي من أطروحته بعض الكتب والأوراق المنشورة في الدوريات في البلدان الإسلامية. 3. استندت على الأطروحة بعض المقررات الدراسية الجامعية عن دراسة الفرق المعاصرة- فرقة الجمهوريين (مثال جامعة أم القرى). 4. بعد نيله درجة الدكتوراة أصبح شوقي يشرف على طلاب الدراسات العليا بجامعة أم درمان الإسلامية، ممن تناول الفكرة الجمهورية (مثال: أشرف شوقي على الطالب الباقر عمر السيد (الدكتور اليوم)، فنال على يديه درجة الماجستير، وكان الموضوع: نقض نظرية الإنسان الكامل عند الجمهوريين، كلية أصول الدين، جامعة أم درمان الإسلامية. وظل الباقر من الكُتاب المعارضين للفكرة الجمهورية 5. تسربت أطروحة شوقي في كتابات البعض (مثال: نقل المكاشفي طه الكباشي( ) من أطروحة شوقي باعتبارها بحثاً قيماً كما ذكر، المقدمة والخاتمة، وضمنهما في كتابه: الردة ومحاكمة محمود محمد طه في السودان، 1987. كان أغلب كتاب المكاشفي عبارة عن فصول منقولة من كتب أخرى)( ). يقيني أن شوقي ستلاحقه اللعنة لما شيعه من تضليل عن الفكرة الجمهورية، بسبب تناوله غير الأمين والمنافي للعلمية، وبما قدمه من معلومات غير صحيحة عنها. تناول عيسى كتابات بعض الشباب ومنهم: دكتور صبري محمد خليل، أستاذ فلسفة القيم الاسلامية في جامعة الخرطوم، وأوضح ما وقع فيه صبري من البتر للنصوص والنقل الخطأ، ومن نماذج ذلك، قول صبري: "يقول محمود محمد طه (ويومئذ لا يكون العبد مسيَّراً، إنما هو مخيَّر قد أطاع الله حتى أطاعه الله [معاوضة] لفعله، فيكون حياً حياة الله، وقادراً قدرة الله، ومريداً إرادة الله ويكون الله) (الرسالة الثانية: ص90)". أوضح عيسى الأخطاء في هذا النص الذي أورده صبري، ثم بين أن النص عند الأستاذ محمود محمد طه لا ينتهي إلى حيث وقف صبري، وإنما يواصل النص فيقول: "وليس لله تعالى صورة فيكونها، ولا نهاية فيبلغها، وانما يصبح حظه من ذلك أن يكون مستمر التكوين...". وهذا عين ما كان يفعله رجال الدين. ما كنت أود لصبري أن يتقفى أثر رجال الدين والفقهاء، كونه شاباً قادراً على الإسهام في خدمة التنوير بمعزل عن قطيع الفقهاء، كما أن موقعه الأكاديمي يتيح له الفرصة للانفتاح والاطلاع بدلاً عن أن يركن لآراء الفقهاء. كما وقف عيسى أيضاً عند كتابة شاب آخر هو غسان علي عثمان، فوصفها، قائلاً: "باختصار كتابة غسان جاءت بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، واعتمدت على شهادة وحيدة ومجروحة". لقد آسيت لغسان، تعجله في الكتابة عن الأستاذ محمود محمد طه والفكرة الجمهورية، ونشره لآراء فطيرة وهشة، قبل الاطلاع الكافي، كونه من الشباب الذين ينشدون الإسهام في تنمية الوعي من خلال تقديم البرامج التلفزيونية والحوار الحر. فمثل غسان وصبري وغيرهما من الباحثين الشباب، كان من واجبهم الاطلاع على مصادر الفكرة الجمهورية، والانفتاح على إرشيف السودان القومي بدار الوثائق القومية، كما أنهم، بحكم مجالات عملهم، معنيون بتبني المواقف الأخلاقية تجاه واجب الثقافة واحترام الفكر والنقد العلمي، بدلا عن تقفي أثر الفقهاء، والعجلة في إطلاق الأحكام. وقف عيسى في كتابه عند موضوع النسب، الذي أثاره الدكتور محمد أحمد محمود. يُعد النسب موضوعاً جديداً من بين الموضوعات التي آثارها المعارضون. فقد تناول محمد موضوع النسب والكفاءة عند الأستاذ محمود محمد طه من خلال كتابيه: تطوير شريعة الأحوال الشخصية، والرسالة الثانية من الإسلام. وأشار إلى أن الكفاءة في المذهب الحنفي لها ست خصال هي الإسلام، والدِّين (بمعنى الأخلاق)، والحرية، والنسب، والمال، والحرفة. وذكر محمد بأن كل هذه الأمور ستسقط في شريعة الرسالة الثانية من الإسلام "ولا يظلّ منها قائما غير الدين والنسب". وأضاف محمد، قائلاً: "هكذا أبقى طه في شريعته المقترحة خصلة النسب،... والنسب شرط ذو طبيعة عنصرية... إلخ". وذهب محمد بالنسب لحد التدليل على التوتر في مشروع الأستاذ محمود محمد طه، الأمر الذي نسفه عيسى في رده. أوضح عيسى في رده وتصحيحه لما أورده محمد، ما كان غائباً عند الكثيرين، وهو أن النسب عند الأستاذ محمود محمد طه هو للدين/ الأخلاق وليس للدم، وأورد قول الأستاذ محمود محمد طه بأن "النسب لأخلاق النبي مُش [ليس] للنبي". ولفت عيسى نظر المهتمين، وربما لأول مرة، إلى أن مسألة النسب قد قتلت بحثاً عند الجمهوريين، وأكد على ذلك بأن دفع برابط من موقع الفكرة الجمهورية على شبكة الانترنت( )، يقود إلى تسجيل صوتي تضمن بعضاً من ذلك البحث، وما أورده من أقوال للأستاذ محمود محمد طه عن النسب. إن إعمال الحس النقدي تجاه أي طرح مطلوب، بل ويجب أن يكون النقد دوماً موضع احتفاء، وسبيل للشراكة بين المثقفين في البناء الفكري والمعرفي ومن أجل التغيير. ويقيني أن عيسى في كتابه هذا لا يدعو إلى الحجر على نقد الفكرة الجمهورية، وإنما يدعو إلى التزام العلمية في النقد، باعثاً في ذلك قول الأستاذ محمود محمد طه إننا لا نرفض النقد، ولكننا ندعو بأن يكون الناس علميين في نقدهم. لقد ظل المعارضون في نقدهم ومواقفهم من الفكرة الجمهورية منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى تاريخ اليوم يؤكدون على عجلتهم وتصوراتهم الموروثة الخاطئة عن الفكرة الجمهوريه. وهذا ما أشار إليه الأستاذ محمود محمد طه، منذ وقت باكر، قائلاً: "إننا بالتجربة الطويلة في ممارسة حمل الدعوة، لم نجد خصومنا في الرأي يعارضون محتوى ما نقول.. على النقيض من ذلك هم يعارضون آراءً توهموا أننا قد قلناها، ولو أنهم قد إستأنوا قليلاً لكان لهم موقف آخر، فإن علم الله واسع، وإن كلماته لا تنفد"( ). لقد تجلت في ردود عيسى على المعارضين للفكرة الجمهورية، قدرات فكرية وعلمية، قوامها تتلمذه على الأستاذ محمود محمد طه، ومعارف الفكرة الجمهورية، إلى جانب ما تلقاه من تحصيل علمي وخبرات عملية. تخرج عيسى ابراهيم في كلية دار العلوم، بجامعة القاهرة، عام 1971. وعمل فور تخرجه بوزارة الثقافة والإعلام في السودان، وتنقل في العمل ما بين الإذاعة القومية بأم درمان، ومكتب إعلام بورتسودان، فإعلام دنقلا، ثم إعلام مروي، حتى أصبح مديراً لمكتب وكيل وزارة الثقافة والإعلام بالخرطوم، ثم أحيل للمعاش في يناير 1989. بعد ذلك اتجه للعمل بالصحف مدققا لغوياً. فعمل في العديد من الصحف، منها: صحيفة الخرطوم، الرأي الآخر، والاقتصادية، والأضواء، والسوداني، والتغيير الإلكترونية، وغيرها، كما عمل مستشارا للتحرير بصحيفة القضية. نشر عيسى، وهو الكاتب والصحفي والناقد، العديد من المقالات في التحليل السياسي، وفي شؤون الفكر والثقافة، في الصحف السودانية، مثل صحيفتي الوطن وسودانايل الإلكترونية، وغيرهما، إلى جانب عموده الراتب "ركن نقاش" الذي ينشره في التغيير الإلكترونية. ظل عيسى يقود السجال منافحاً عن الفكرة الجمهورية، وناقداً للآراء الفجة التي يطرحها المعارضون عنها. وكان في نقده، كما لاحظت من متابعتي معه، شديد الحرص على أن يكون دقيقاً وعلمياً، فلا غرو فقد وصفه الأستاذ محمود محمد طه بأنه: "ناقد حصيف". تنسم عيسى إبراهيم الفكرة الجمهورية في مسقط رأسه بمدينة بورتسودان، ميناء السودان الرئيس على البحر الأحمر، بشرق السودان. تعود علاقة هذه المدينة بالفكرة الجمهورية إلى عام 1951، عندما زارها الأستاذ محمود محمد طه، فور خروجه من خلوته بمدينة رفاعة، ضمن جولة لعدد من مدن السودان، وهو يدعو ويبشر بالفكرة الجمهورية، فحُظيت منذ ذلك التاريخ بالعديد من زياراته ومحاضراته. كما شهدت وقائع كبرى أرخت لمحطات مهمة في مسار الحركة الجمهورية، وفي تاريخ المدينة. فعندما عبَّرت هذه المدينة عن مظالم أهل الأقاليم والمطالبة بحقوقهم، حيث عُقد فيها مؤتمر البجة في أكتوبر 1958، كان الأستاذ محمود محمد طه من أوائل الذين كتبوا عنه، إن لم يكن أولهم. فقد نشر في يوم 18 أكتوبر 1958 مقالاً بصحيفة أنباء السودان، تناول فيه مؤتمر البجة، قائلاً: "أنا من الداعين للاتحادات الفدرالية لجميع مناطق السودان"، ونادى بإعطاء أهل الأقاليم من الحقوق، فوق ما جاء في توصيات ومطالب مؤتمر البجة، لأنه، كما قال، "ولست أرى في مطالب مؤتمر البجه ما يعين على حل المشاكل القائمة في منطقتهم"، وإن حل مشاكلهم، كما هو الحال في الجنوب والغرب، تتم بإقامة الحكم الذاتي لجميع ولايات السودان، ومنح أبناء تلك المناطق الفرصة كاملة لإدارة شؤون مناطقهم. واستمر يكتب عن حقوق أهل الأقاليم، لا سيما مؤتمر البجة، ويدعو للتعاطي مع مشاكل أقاليم السودان المختلفة، خاصة مشكلة جنوب السودان "بالذكاء وقوة التخيل" نسبة للاختلاف والتنوع. وقد لفتت تلك الكتابات انتباه الكثير من أبناء مؤتمر البجة إلى الفكرة الجمهورية، فأصبح بعضهم من الجمهوريين. ومن بين هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر، الأستاذ محمد أدروب أوهاج (1942- 2013)( ). شهدت مدينة بورتسودان، أيضاً، حراكاً جمهورياً واسعاً، وقدم فيها الأستاذ محمود محمد طه محاضرات كثيرة عن الفكرة الجمهورية. ففي العام الذي التفت فيه عيسى إلى الفكرة الجمهورية، عام 1967، وهو طالب بالمرحلة الثانوية، كان الأستاذ محمود محمد طه قد قدم إحدى عشرة محاضرة بالمدينة في ذلك العام. حضر عيسى كل تلك المحاضرات وأقتنع بما جاء فيها، كما شارك بالأسئلة في اثنين منها، نُظمت المحاضرة الأولى بعنوان: "بتقليد محمد تتوحد الأمة ويتجدد دينها"، بنادي دبايوا، والمحاضرة الثانية بعنوان: "تعلموا كيف تصلون" بنادي تنقسي. بعد ذلك سافر عيسى للدراسة بمصر، فاختار الدراسة في كلية دار العلوم متأثراً بالفكرة الجمهورية، وعندما عاد التزم بها، وأرخ لذلك بيوم 28 مايو 1975. ارتبطت مدينة بورتسودان، كذلك، في مسيرة الحركة الجمهورية بخروج الأخوات الجمهوريات، إلى الشارع وهن يحملن كتب الفكرة الجمهورية ليوزعنها على المارة في الطرقات، لأول مرة في تاريخ الفكرة الجمهورية، ولأول مرة في تاريخ السودان، وربما في تاريخ الدين الإسلامي( )، بل وفي تاريخ الأديان جميعها. لقد اتخذت القيادة الجمهورية قرار خروج الأخوات الجمهوريات لتوزيع الكتب في الطرقات، في مناخ وقائع قضية بورتسودان. كانت قضية بورتسودان، من أشهر وأطول القضايا التي واجهها الجمهوريون في السودان، وقد وثقوا وقائعها في سلسلة من الكتب، جاءت بعنوان: من سلسلة وقائع قضية بورتسودان: بين من كانوا يسمون بالقضاة الشرعيين والفكر الجمهوري، إلى جانب عناوين كتب أخرى اتصلت بالقضية. وصف الكتاب الأول القضية، قائلاً: "قضية بورتسودان هي القضية التي رفعها الشيخ ابراهيم جاد الله قاضي مديرية البحر الأحمر (دائرة الأحوال الشخصية) ضد الأخوان الجمهوريين المسئولين عن معرض الفكر الذي أقيم بنادي الخريجين ببورتسودان في أبريل 1974 ثم أضيف الأستاذ محمود محمد طه إلى البلاغ موضوع الإتهام. والتهمة الموجهة إلينا هي إساءة القضاء الشرعي، وإساءة محكمة الردّة...إلخ". عقدت المحكمة عشرة جلسات، وكانت الجلسة العاشرة بتاريخ 12 يونيو 1975. لقد مثلت هذا القضية حدثاً فريداً في ساحة العدالة في السودان وفي تنمية الوعي القانوني، إذ كان الإخوان الجمهوريون يقومون بنشر وقائع جلسات المحكمة، أول بأول، وتوزيعها على الناس في الشوارع من أجل التوعية والتربية الشعبية والتعميم للثقافة القانونية بين المواطنين، وفي سبيل خلق "الرأي العام المستنير الذي يحترم القانون الدستوري، ويوقر السلطة الشرعية". وقد انتهت القضية بأن تقدم الشاكي بتنازله عن الشكوى، ثم قررت المحكمة "حفظ البلاغ، وإخلاء سبيل المتهمين". إنني على يقين تام بأن هذه الوقائع، وغيرها من القصص والحوادث التي وقعت مع الجمهوريين والجمهوريات، كما هو الحال في كل مدن السودان، محفورة في ذاكرة مدينة بورتسودان، وسيأتي اليوم الذي تُبعث فيه لتُدْرَس وتُدَرَّس في مدرجات الجامعات وفي مراكز البحوث والدراسات. فالمستقبل يخاطب الأذكياء، بل يكاد يعلن لهم بأن الاهتمام غداً سيكون بالمُغيب في خطاب الدولة، وبالمحجوب عن مناهجها التعليمية، وبالمُبعد عن اهتمام الدوائر الأكاديمية في السودان. كانت المحاضرات التي حضرها عيسى عن الفكرة الجمهورية بمدينة بورتسودان، إلى جانب وقائع قضية بورتسودان، من أهم العوامل التي جعلته يلتزم بالفكرة الجمهورية. كما أوضح بأن إهداء كتاب: الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين، الذي صدر عام 1969، كان من أكثر نصوص إهداءات كتب الفكرة الجمهورية، التي أثرت فيه أوانئذ. يقول الإهداء: "إلي الجمهوريين، أنتم الغرباء اليوم.. أنتم غرباء الحق.. ولكن غربتكم لن تطول.. فاستمتعوا بها، من قبل أن تنظروا فلا تجدوا في الأرض إلا داعياً بدعوتكم ..استمتعوا بها، فإنه في وقت الغربة القرب من الله سريع.. استمتعوا بها، فالتصقوا بالله، واجعلوه أنيسها ..واجعلوه عوضاً عن كل فائت". ظل عيسى، ولايزال، منذ عام 1975 وحتى اليوم جمهورياً. حضر العديد من الجلسات التربوية بمنزل الأستاذ محمود محمد طه بأم درمان، وشارك في الكثير من نشاطات الحركة الجمهورية في الخرطوم وفي مختلف بقاع السودان. وعلى الرغم من أن عيسى ساهم في تحرير وتصويب العديد من الكتب التي صدرت عن الفكرة الجمهورية، كما نشر الكثير من المقالات، إلا أن هذا الكتاب يُعد كتابه الأول عن الفكرة الجمهورية. وقد علمت منه بأن لديه ثلاثة كتب أخرى عن الفكرة الجمهورية، أنجز مسوداتها، والآن بصدد الدفع بها إلى المطبعة. ونأمل أن تجد طريقها للنشر قريباً لتلحق بهذا الكتاب. إن هذا الكتاب يدعو، فيما يدعو إليه، بشأن التعاطي مع الفكرة الجمهورية، إلى ضرورة التحرر من الأوصياء على العقول من رجال الدين، من أدعياء العلم والمعرفة بالفكر الإسلامي، فكتاباتهم تبين بأنهم ليسوا على شىء، كما أنهم لا يعرفون شيئاً عن الفكرة الجمهورية. فعلينا أن نستدعي فرديتنا ونستنهضها في السعى للقاء بالأستاذ محمود محمد طه كفاحاً، عبر كتاباته وأحاديثه الموثقة، دون أن يكون بيننا وبينه حجاب رجال الدين، أو حاجز نقص المعرفة. كما يُذكّر هذا الكتاب أولئك الذين نشروا نقدهم للفكرة الجمهورية، بأن يعيدوا النظر في آرائهم، ومراجعة مواقفهم من خلال اتاحة الفرصة لأنفسهم بالإطلاع على مصادر الفكرة الجمهورية، وبالمزيد من الانفتاح على إرشيف السودان القومي. ختاماً، أجد نفسي ممتناً لعيسى إبراهيم، فقد أتاح لي اليوم عبر كتابة هذا التقديم، الفرصة إلى تطهير نفسي وعقلي وجسدي وروحي. فلقد ظللت منذ إعداد كتاب: صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، الذي صدر عام 2013، مدركاً بأن الأستاذ محمود محمد طه قد ولدني من جديد، فأصبحت منذ ذلك الوقت، أشعر بأنني أمثل الطرف الاعتذاري من الشعب السوداني، ولهذا فإنني لا أفوت فرصة، مثل التي أتاحها لي عيسى، للإسهام في التصحيح والتبشير عبر العمل والكتابة أو الخدمة في ساحته وسيرته ومشروعه.
الهوامش:
( ) ضمن: عوض الكريم موسى، "الافتتاحية"، مجلة الجمهورية، مجلة الحزب الجمهوري الداخلية، العدد الأول، بتاريخ 17 أبريل 1969، ص 1؛ مقابلة مع عوض الكريم موسى، كانت المقابلة بالهاتف، عوض الكريم بمدينة أم درمان في السودان، والمؤلف بمدينة الدوحة بدولة قطر، بتاريخ 5 يناير 2013، الساعة: 11:10 صباحاً. (ملاحظة: مجلة الجمهورية هي غير صحيفة الجمهورية التي صدرت خلال الفترة ما بين يناير- يونيو 1954). ( ) وسم الأستاذ محمود محمد طه مشروعه، بعدة أسماء، جاءت في كتاباته وأحاديثه، وهي: الفكرة الجمهورية، والدعوة الإسلامية الجديدة، والمذهبية الإسلامية الجديدة، والبعث الإسلامي، والفهم الجديد للإسلام، والرسالة الثانية من الإسلام. ( ) محمود محمد طه، بيننا وبين محكمة الردة، السفر الأول من سلسلة بيننا وبين محكمة الردة، ط1، شركة الطابع السوداني، الخرطوم، 1968، ص 32. ( ) للمزيد أنظر: عبدالله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراة في المواقف وتزوير التاريخ، ط1، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013. ( ) من المهم الإشارة إلى أن المكاشفي طه الكباشي كان رئيساً لمحكمة الاستئناف الجنائية، بالعاصمة القومية، وهي المحكمة التي أصدرت قرارها بتأييد حكم إعدام الأستاذ محمود محمد طه وأربعة من تلاميذه في 15 يناير 1985. كان حكم الإعدام قد أصدرته المحكمة الجنائية رقم (4) بأم درمان، برئاسة القاضي حسن إبراهيم المهلاوي في 8 يناير 1985. ( ) يقع كتاب المكاشفي في (309) صفحة، منها (204) صفحة عبارة عن فصول ومحاور منقولة بالنص من كتب ومصادر أخرى، وقد أشار المكاشفي لذلك، وبرر نقله وأرجعه إلى أهمية المادة المنقولة. ( ) عنوان موقع الفكرة الجمهورية على شبكة الإنترنت هو: www.alfikra.org ( ) محمود محمد طه، من دقائق حقائق الدين، ط2، أم درمان، 1976، ص 2-3. ( ) حكى لي محمد الفضل أحمد الطاهر بكر، وهو من الإخوان الجمهوريين، بأن الأستاذ محمد أدروب أوهاج كان عضواً في مؤتمر البجة ومن الفاعلين والمؤثرين في مجتمع شرق السودان يحكى عن الأسباب والمؤثرات التى ساهمت فى التزامه للفكرة الجمهورية كتابة الأستاذ محمود عن مؤتمر البجا وهى ليست عنصرية والعنصرية مرفوضة لكنها مناطقية تقع فى حيز الحكم الفدرالى. المصدر: مقابلة مع محمد الفضل أحمد الطاهر بكر، تمت المقابلة بالهاتف، المؤلف في الدوحة، ومحمد الفضل بمدينة القضارف، السودان، بتاريخ 1 أبريل 2018، الساعة 22:30 بتوقيت الدوحة. ( ) مقابلة مع الريح حسن خليفة، تمت المقابلات بالهاتف، المؤلف في الدوحة بقطر، والريح بمدينة مونتري بأمريكا، بتاريخ السبت 14 فبراير 2015، الساعة 10:00 بتوقيت الدوحة.