تقديم للجزء الرابع من كتاب “السودان بعيون غربية” للكاتب بدر الدين الهاشمي. بقلم: أ‌. د. أحمد إبراهيم أبو شوك

 


 

 

دار جدل قديم عن الترجمة في الأروقة الأكاديمية: هل هي عِلمٌ أم فنٌ؟ فكانت الإجابة المُجمع عليها: إنها تجمع بين الاثنين، فإذا نظرنا إليها من الناحية الأكاديمية فهي علمٌ له قواعده، وأسسه، ونظرياته المرتبطة بعلم اللسانيات، ولكن مخرجات العمل المُترجَم تتأثر بملكات المُترجِم اللغوية، وثقافته الأدبية والمعرفية، وقدرته على توليد المترادفات في اللغات؛ ولذلك يقال أنَّ المُترجم كاتب ثانٍ للنصّ؛ لأنه يتقمص روح المؤلف، ويتوخى الدقة في نقل إحساسه الكامنة وراء الألفاظ والمعاني. ويصدق في ذلك قول إريك بوري (Eric Boury)، المتخصص في الأدب الأيسلندي: "إنَّ المترجم يجب يختفي وراء صاحب النصَّ حتى يبلور أسلوبه"، فالاختفاء وراء النصّ ليس عيباً، بل فضيلة تبرهن أمانه المُترجم؛ لأن القارئ الحصيف لا يمنح النصّ المترجم ثقته الكاملة في بعض الأحيان؛ إلا إذا كانت الترجمة جيِّدة الصنعة، وجاذبةً بجمالياتها ورسالتها السامية في تواصل الشعوب والثقافات. ومن زاوية أخرى نلحظ أنَّ النصَّ المترجم يعكس نظرة المؤلف تجاه الآخر الذي يختلف عنه ثقافةً، إذا كانت الثقافة تُعرَّف بأنها الدين لغة؛ أي معتقدات الناس، وتقاليدهم، وعاداتهم، وتاريخهم المشترك. ولذلك أفلح الأستاذ الدكتور بدر الدين حامد الهاشمي بعنونت سلسلة الأعمال المختارة عن السُّودان التي ترجمها إلى العربية في ثلاث أجزاء سابقة: "السُّودان بعيون غربية". وأشار إلى ذلك في مقدمة إحدى المقالات التي نقلها إلى العربية في الجزء الرابع: "ونترجم هذا المقال من أجل نشر الوعي ببعض آراء الغربيين في الماضي القريب، وما سجلوه في كتبهم وصحافتهم عن جزء مهم من تاريخ السُّودان؛ ألا وهو تاريخ الدولة المهدية وقادتها. ولا يجد المرء حاجة ليذكر بأنَّ ذلك التاريخ مكتوب بأقلام المنتصرين، ويغلب على كثير منه الغلو، والتحيز، والميل، والهوى، وعدم الإنصاف، تماماً كما هو الحال مع التاريخ الذي يكتبه ويحفظه ويردده المناصرون (دون تبصر)، والذين لا يرون في قادتهم الوطنيين التاريخيين إلا أبطالاً عظاماً، لم تشب أفعالهم وأقوالهم شائبة، ولم تكن أفعالهم إلا خدمةً خالصةً للدين والوطن، بل وقد يلتمسون لهم الأعذار فيما ارتكبوه من انتهاكات، ومخازي، ومجازر. ولكن لا بد من القول بأنَّ كاتب هذا المقال قد أبعد النجعة في زعمه بأن الخليفة [عبد الله] "ربما يكون أقسى رجل في التاريخ"، فكل من له معرفة متواضعة بالتاريخ يعلم بأنه مرَّ على هذا العالم، شرقه وغربه - ومنذ آلاف السنين وحتى يومنا هذا- عشرات، بل مئات الطغاة الذين قد يُعدُّ الخليفة بالمقارنة بهم حاكماً منصفاً وجزلاً رحيماً ... لا يخفى أنه يجب قراءة مثل هذه الكتابات الغربية عن المهدي والمهدية قراءة ناقدة فاحصة؛ ليس فيها تصديق كامل، ولا رفض مسبق، مستصحبين الظروف التاريخية، والأهداف والنوازع السياسية والثقافية التي دعت لكتابتها ابتداءً." بهذه الكيفية طرق الأستاذ الهاشمي على بعض جوانب المنهج التاريخي، والمعرفة التاريخية التي تستند إلى مصادر الماضي وآثاره التي يُعاد تركيبها وفق منهج بحثي يقوم على الاستقراء، والتحقيق، والنقد، والتحليل الذي يتناول المؤثرات الداخلية والخارجية التي أحاطت بالمشكلة التاريخية موضوع البحث، وأسهمت في تشكيلها. لكن حجم المصادر، ودقة الاستقراء، ومخرجات التحقيق، ومهنية النقد، وجرأة التحليل لا تفي وحدها لإعادة تركيب الماضي؛ لأن عملية التحليل والإعادة تحتاج إلى منهجٍ قادرٍ على استيعاب ديناميات الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، الناظمة لمفردات الحدث التاريخي. وهنا يظهر الفرق بين معايير القراء؛ لذلك يرى الهاشمي من فوائد الاطلاع على كتابات الآخرين أنها تعرفنا على ذواتنا عند أولئك الآخرين، "وكيف ينظرون إلى كثير مما نغفل نحن عنه، بحكم الألفة والتعود، رغم أن البعض منا تضيق صدورهم بالنقد  أنى كان مصدره، وتبغض نفوسهم أن توجه إليهم  سياط النقد من غير أهل البلاد، خاصة ممن حكمونا في العهد الاستعماري. وصدق من قال إنَّ المعاشرة حجاب."
    تقودنا هذه التوطئة إلى خلاصة فحواها أنَّ الترجمات والملخصات التي جمعها الأستاذ الهاشمي بين دفتي الجزء الرابع من سلسلة "السُّودان بعيون غربية" تخدم أكثر من غرض بالنسبة للقراء السُّودانيين.
أولاً: تُسهم في تثقيف القارئ العادي بنظرة الآخر إلى بعض القضايا الإشكالية المرتبطة بتاريخ الرق وتجارة الرقيق في السُّودان، وبعض الجوانب المتعلقة بالفكر المهدوي وممارسات الدولة المهدية، وبعض التساؤلات المشككة في ضع دارفور في دولة السُّودان الحديثة، وجذور بعض المشكلات ذات الصلة بواقعها المأزوم؛ وتتطرق أيضاً إلى طرفٍ من تاريخ الناقل الوطني: الخطوط الجوية السُّودانية؛ فضلاً عن أدب الرحلات الذي دوَّنه نفرٌ من الإداريين والمعلمين البريطانيين الذين عملوا في خدمة حكومة السودان لفترات مختلفة، ونقلوا لقرائهم الكثير والمثير عن غرائب السُّودان وعجائب الأسفار فيه، على سنة الرحالة ابن بطوطة.
ثانياً: تضيف ترجمات الهاشمي وملخصاته لبعض الباحثين السُّودانيين الذين لم يطلعوا على أصولها بُعداً آخر في مصادر أبحاثهم ذات الصلة، وتثقفهم أيضاً بالمنهجيات العلمية المتبعة في معالجة القضايا الشائكة في تاريخ السُّودان، علماً بأن بعض المقالات المترجمة قد كتبها باحثون مقتدرون في مجال الدراسات السُّودانية، باختلاف مساقاتها العلمية (التاريخ، والعلوم السياسية، وعلم الاجتماع، وعلم الانثروبولوجيا)، ونذكر منهم ركس شون أوفاهي (R. S. O’Fahey)، وبيتر ودوارد (Peter Woodward)، وهيزر شاركي (Heather Sharkey)، وروبرت كريمر (Robert Kramer)، أهارون لايش (Aharon Layish) ورتشارد لوبان (Richard Lobban)، وروبرت كولنز (Robert Collins)، ودقلاس جونسون (Douglas Johnson)، وإلينا فيزاندي (Elena Vezzandini). فلا غرو أنَّ الاستئناس بمناهج هؤلاء العلماء في مجال البحث العلمي يفيد في تجسير الروابط بين العلوم الاجتماعية والإنسانية المختلفة، ويُسهم في توليد المناهج البحثية المتكاملة في إطار أدبيات الدراسات البينية.  
ثالثاً: تعين ترجمات الهاشمي وملخصاته قادة العمل السياسي والفكري في استيعاب أبعاد بعض المشكلات السياسية في السُّودان، فمثلاً: الدكتور بيتر ودوارد طرح في المقالين اللذين ترجمهما الأستاذ الهاشمي حزمة من المشكلات الجوهرية المتعلقة بإدارة الحكم السُّودان، وذلك في إطار عنوان مقاله الاستنكاري: "هل السُّودان قابل للحكم؟" وفي مقال الآخر بعنوان: "التحولات السياسية في ماضي وحاضر السودان". وعلى النسق ذاته ناقش الدكتور أوفاهي قضية دارفور في ضوء سؤال محوري: "هل لدارفور مستقبل في السُّودان؟" فلا مندوحة أنَّ قراءة مثل هذه المقالات بتدبر من قبل الساسة السُّودانيين وسدنة "العقل الاستراتيجي" ربما تُسهم في معالجة بعض مشكلات إدارة الدولة، ونظم الحكم، وصراعات الهُويَّة في السُّودان.

    تؤكد هذه الأغراض الثلاثة المشار إليها أنَّ الأستاذ الهاشمي كان يختار موضوعات ترجماته وملخصاته بعناية فائقة، غير ذاهلة عن مقاصدها، بل تدل على سعة ثقافته، واطلاعه، ووعيه بثقافة القارئ الذي يخاطبه، بالرغم من أنه لم يكن متخصصاً في الدراسات السُّودانية بفروعها الاجتماعية والإنسانية؛ لكنه هاوٍ لتاريخ السُّودان، وصاحب رسالة هدفها تثقيف القارئ السُّوداني بنظرة الآخر إليه؛ لإخراجه في دائرة الانكفاء على الذات إلى دائرة استيعاب نظرة الآخر إليه، التي ربما تساعده في فهم بعض مشكلات السُّودان الآنية، والبحث عن حلول مناسبة لها. ومن زاوية أخرى يدرك القارئ المتمعن في متون النصوص المترجمة في الجزء الرابع من سلسلة "السُّودان في عيوب غربية" والأعمال الأخرى أنَّ الأستاذ الهاشمي قد أثبت بجدارة أنَّ الإبداع يكمن في الهواية إذا توفرت الملكة لصاحبها، فالتخصص في علوم اللسانيات لا يكفي وحده لجعل عطاء المترجم عطاءً ثراً، بدليل أنَّ عَالِم علم الأدوية والسموم استطاع أن يترجم إلى العربية سلسلة من الأدبيات الإنجليزية المهمة في مجال الدراسات السُّودانية بضروبها المتنوعة، والشاهد في ذلك سلسلة "السُّودان بعيون غربية" بأجزائها الأربعة؛ وروايتي الأستاذة الروائية ليلى أبو العلا: "مئذنة في ريجنت بارك"، و"حارة المغنى". ولذلك تصدق شهادة الدكتور الدبلوماسي خالد محمد فرح: أنَّ الأستاذ الهاشمي "أغزر السُّودانيين إنتاجاً ... وأميزهم عطاءً كماً وكيفاً" في مجال الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، وتقودنا هذه الشهادة إلى نتيجة مفادها أنَّ الأستاذ الهاشمي استطاع أن يؤسس لنفسه موقعاً متميزاً في قائمة السُّودانيين، الذين احترفوا صنعة الترجمة وعجموا عيدانها، أمثال صلاح الدين عثمان هاشم، وجمال محمد أحمد (1915-1986م)، والجنيد علي عمر، وهنري رياض سكلا (1927-1995م)، وعلي محمد المك (1934-1992م)، وعبد الرحيم أبو ذكرى (1944-1989م)، ومحمد علي جادين.  
    وبناءً على ذلك أؤكد للقارئ الكريم أنه سيجد متعةً فائقةً ومؤانسةً لطيفةً في قراءة هذا الجزء الرابع من سلسلة السُّودان بعيون غربية، تشكل تراكماً معرفياً للذين قرأوا الأجزاء الثلاثة الأولى منها، وتحفِّز أيضاً الآخرين على قراءتها؛ لأن هذه السلسلة تذخر بكمٍ وافرٍ من المعلومات المثيرة للجدل عن تاريخ السودان، والفوائد التي تُعرِّف القارئ ببعض مفردات التراث السُّوداني في نظر الآخرين الذين دوَّنوه بأقلام ذات ثقافات ومنطلقات فكرية متباينة، تجمع بين القراءات الأكاديمية الجادة، وأدب الرحلات ومؤانساته، والروايات الاستشراقية المثقلة بنظرتها الاستعلائية تجاه الآخر.


alibadreldin@hotmail.com
/////////

 

آراء