تلخيص واستعراض لكتاب “أم درمان 1898م: قصة المعركة”

 


 

 

 

OMDURMAN 1898: Battle Story

ويليام رايت William Wright
بدر الدين حامد الهاشمي

هذا تلخيص واستعراض موجز لكتاب صدر عام 2012م عن دار نشر سبيلماونت بإنجلترا بقلم الكاتب البريطاني ويليام رايت عن معركة كرري (الواقعة على بعد 11 كيلومترا عن وسط أم درمان). والكاتب صحافي سابق، ورئيس مجلس إدارة جمعية متحف التاريخ الفيكتوري ببريطانيا. نشر الرجل قبل هذا الكتاب كتابين هما: Tidy Little Wars عن الغزو البريطاني لمصر عام 1882 م وكتاب Through the Indian Mutiny عن مذكرات قائد لفرقة مشاة البنجاب في عامي 1857 – 1858م. وكتاب أم درمان 1898م الذي نستعرض هنا بعض ما ورد فيه كتاب يقع في نحو 160 صفحة (من القطع الصغير)، وصدر ضمن سلسلة كتب عن حروب مشهورة أخرى خاضتها بريطانيا مثل ووتر لوو 1815، وكابول 1841-1842م، وإيساندلوانا 1879م (ضد مملكة الزولو)، وغيرها من المعارك التاريخية.
ويظهر نشر الكتاب – الحديث نسبيا – أن معركة كرري لا زالت تنال حظا من الدراسة والاهتمام البحثي بعد مرور أكثر من قرن من الزمان على وقوعها، مما يدلل بالطبع على عظم أهميتها التاريخية والحربية الكبيرة. ولا تخفى أهمية قراءة هذا الكتاب – وغيره – عن المعارك التي جرت في بلادنا في مختلف الحقب التاريخية، إذ أن معركة كرري كانت من المعارك الفاصلة التي كتبت نهاية عهد وطني (رغم الخلاف الحاد حوله بين سكان مناطق البلاد المختلفة) وعهد استعمار بريطاني – مصري استمر في الحكم حتى عام 1956م. وقراءة مثل هذه الكتب للمتخصصين من المؤرخين والعسكريين والمتعلمين الآخرين مفيدة لمعرفة كيف يرى الآخرون (خاصة الذين قاموا بغزو البلاد) تلك المعركة، مقارنة مع القليل الذي كتبه السودانيون عنها (مثل كتاب "كرري" لعصمت زلفو، الذي صدر عام 1973 عن دار نشر جامعة الخرطوم).
ومن مزايا هذا الكتاب المختصر (الأقرب للدليل المرشد Handbook) غزارة المعلومات التي أوردها- رغم صغر حجمه – ففيه مقدمة و11 فصلا، و25 صورة (منها رسومات من مجلة Punch عن الحزن الذي خيم على البريطانيين عند سماعهم بمقتل غردون في الخرطوم، وعن التقدير الذي ناله كتشنر من البريطانيين عقب انتصاره وغير ذلك)، وجدول زمني بالأحداث التي وقعت منذ يوم 12 أغسطس عام 1881م (معركة الجزيرة أبا) إلى 24 نوفمبر 1899م (معركة أم دبكيرات ومقتل الخليفة). وتناولت فصول الكتاب خلفية تاريخية (منذ ظهور المهدية وتدخل البريطانيين في الشأن السوداني)، ومعلومات عن القوات التي غزت السودان، وعن قوات المهدية وقائدها، وبداية الغزو الإنجليزي – المصري، ومعركة أتبرا، وعدد من الفصول عن بدايات المعركة الفاصلة ومراحلها الثلاث، ثم فصل عن مطاردة الجيش الغازي للخليفة عبد الله، وإرث المعركة التكتيكي والاستراتيجي، وعن ميراث المنتصرين والخاسرين فيها. وأخيرا أورد المؤلف سجلا بالأنواط والنياشين التي حصل عليها من شاركوا في الغزو، وبقائمة من المراجع شملت العديد من الكتب والأوراق التاريخية المتعلقة بمعارك السودان في تلك الفترة، مع فهرس ضم أسماء المناطق والقادة الذين ورد ذكرهم في الكتاب.
ولا يتوقع القارئ بالطبع أن يحوي كتاب بهذا الحجم الصغير كل المعلومات المتعلقة بتفاصيل تلك المعركة الفاصلة وما سبقها من تحضيرات، وما أفضت إليه من نتائج. غير أن ميزة الكتاب الكبرى هي إيراد معلومات مختصرة (مدعمة بالأرقام) قد تكون مفيدة وجديدة على القراء من غير المتخصصين، ولا تخلو من فائدة للعسكريين والمؤرخين من ذوي الاهتمام الخاص بالمهدية كمرجع سريع للمعلومات الأساسية عن تاريخ غزو السودان مِنْ قِبَل الجيش الإنجليزي – المصري. وحرص المؤلف على تلخيص الكثير من المعلومات المهمة ووضعها في صناديق صغيرة مبثوثة في مختلف أجزاء الكتاب.
وسيجد القارئ أن الخلفية التاريخية التي وردت في أول الكتاب سردت ببعض الحيادية والتجرد ظهور المهدي وانتصاراته المتلاحقة على الحملات الحكومية التي أرسلت لاعتقاله، عدا معركة في المراسي al -Marasi ، حيث فقد فيها الأنصار نحو 4000 من رجالهم. وتناول قيادة هكس باشا (الذي وصفه بأنه قائد محنك إلا أنه عنيد ومتردد وغير دبلوماسي) لجيش يفتقر للتنظيم والروح المعنوية. وكانت النتيجة هي هزيمة ماحقة لذلك الجيش في أقل من نصف ساعة، تماما كما وعد المهدي رجاله قبل بدء المعركة. وتعرض الكاتب للدور البريطاني في المحافظة على سواكن وما حولها من هجوم أنصار المهدي (لم يسمهم "الدراويش" كما هو معتاد في معظم الكتب الغربية القديمة نسبيا). وأتى على ذكر غردون وكيف أنه أتى للسودان في 18 فبراير: "دون جيش، ولكن الله سيكون معه" أو كما قال، وألغى كل متأخرات الضرائب على السكان، وحاول رشوة المهدي بإهدائه له كسوة بديعة، أعادها له المهدي شاكرا مع خطاب رقيق وجُبّة أنصارية مُرَقَّعة بيضاء. وضح للرجلين أنهما من طينة الرجال المتزمتين وغير القابلين للفساد.
وتناول المؤلف في الخلفية التاريخية لكتابه بإيجاز غير مخل الحملة التي بعث بها البريطانيون لإنقاذ غردون من ورطته في الخرطوم (التي كان عدد سكانها في ذلك الوقت 25,000 نسمة وعدد جنودها 8,000) وعن تقاعس الحكومة البريطانية في إنقاذه. فقد كان رئيس الوزراء البريطاني جلاديستون يعترض على "شن غزو ضد من يجاهدون لنيل حريتهم". وعقب فشل الحملة أصيبت الملكة فيكتوريا بصدمة، ولامت جلاديستون ولكنها قالت: "... ولكن يجب أن أتحمل بنفسي هذه المذلة المأساوية، فأنا ملكة هذه الأمة". وأتى المؤلف على ذكر انتصار الجيش البريطاني المنسحب شمالا على مطارديهم من الأنصار في "معركة الكركبان" في دار المناصير بشمال السودان يوم 10/2/1885م. وتناول الكاتب أيضا وفاة المهدي في 22 /6/1885م بحمى التيفوس بعد شهور قليلة من توليه حكم السودان، وتولي خليفته عبد الله مقاليد الحكم بعده، والظروف والأحداث والصراعات التي اكتنفت تسنمه لذلك المنصب رغم اعتراض "الأشراف" وغيرهم. وكتب أيضا عن ملاحقة جنود الأنصار للجيش البريطاني المنسحب شمالا، وعن مباغتة البريطانيين لهم في معركة جينس في يوم 30 ديسمبر 1885م وانتصارهم عليهم. وكانت تلك دلالة منذرة باكرة لما سيقع في معركة كرري لاحقا. وصف أحد ضباط تلك المعركة وجوه جنود الأنصار وهم يقعون صرعى قابضين على سيوفهم باليدين فقال: "شوه وجوهم هذيان الحماس المتعصب، وشفاههم تتمتم بالدعاء، وأعينهم تدور في محاجرها. لم ألحظ أي علامة أو مظهر للغضب على وجوههم، وبدا لي أن ذلك كان مرده نشوة الاستشهاد". وأختتم الكاتب ذلك المسح التاريخي العام بجزء سماه "ولادة جديدة للجيش المصري"، تناول فيها باختصار عمليات إعادة بناء وتنظيم الجيش المصري على أسس جديدة وتدريب حديث. وقامت السلطات البريطانية بتعيين 6,000 جندي مصري وتدريبهم على الأسلحة الحديثة على أيدي 25 ضابطا بريطانيا، بكلفة مالية بلغت 200,000 من الجنيهات الإسترلينية. وحدث أن انتشر وباء الكوليرا بمصر في صيف عام 1883م. وتمت الاستفادة من أولئك الجنود في المساعدة في أعمال الإغاثة والرعاية الطبية، وأبلوا بلاءاً حسنا في ذلك، مما شكل عندهم "نواة روح الجماعة المصرية".
وأثبت الجيش المصري الجديد فعاليته لاحقا في معركة توشكي عام 1889م، حين ألحق هزيمة ماحقة بجيش الأمير عبد الرحمن النجومي (أحد منافسي الخليفة بحسب زعم الكاتب) الذي بعث به الخليفة في محاولة انتحارية لغزو مصر. وكانت تلك أول وآخر محاولة من الخليفة لغزو مصر، إلا أن عثمان دقنة ظل يهاجم الجيش البريطاني في سواكن وبقية مناطق شرق السودان بصورة متقطعة.
وقدم المؤلف في فصله الثاني سردا مفصلا لثلاثة عشر من قادة الجيش الإنجليزي المصري (مع صور لهم)، ووثق لتاريخ حياتهم في نقاط مختصرة. ويلاحظ أنه لم يأت على أي ذكر للضباط المصريين في تلك الحملة! وأورد أيضا سطورا عن قادة جيش المهدية شملت الخليفة عبد الله (الذي قال بأن البعض يرمونه بالتشدد وبعدم الثقة في نفسه، وبالاعتماد على من يعتقد أنه أذكى منه مثل أخيه يعقوب). ووصف الكاتب الخليفة بأنه لم يكن ديكتاتورا حقيقيا"، إذ أنه كان ينفذ فقط ما خطه المهدي، وكلمة المهدي عنده بمثابة القانون المقدس الذي لا يعصي. وأتى المؤلف على سير قادة آخرين من جيش المهدية منهم عثمان دقنة ويعقوب وعثمان شيخ الدين وإبراهيم الخليل وعثمان أزرق والخليفة علي ود حلو.
وكان الجيش الإنجليزي المصري الذي حارب في معركة أم درمان (وعدد أفراده 8,200) يتكون من لواءين، إضافة لفرقة مشاة، وبطاريتي مدفعية ميدان واللانسر الحادية والعشرين. وأتى البريطانيون في ذلك الجيش من كل أنحاء بريطانيا. ووصف الكاتب تلك الحرب بالنسبة لهم بأنها كانت عبارة عن "القليل من الكد الامبراطوري على الأرض الأفريقية" وليس أكثر.. وكان هؤلاء الجنود ينالون قدر كافيا من الطعام الجيد، وعصير الليمون في بعض الليالي، وحتى بعض النبيذ كل مساء (الأمر الذي أثار غضب كتشنر). بل كانوا يتناولون لقمة القاضي وكعك البرقوق والتمر الحلو المذاق كتحلية. وكانوا يعتقدون أن اللحم المحفوظ الذي كان يقدم لهم نتن ومتعفن، لذا كانوا يتبرعون به لمن معهم من الجنود السودانيين / الأهالي المتعاونين معهم (والذين يسمون بـ friendlies)، الذين كانوا يتلذذون بمذاقه. وكانوا يقيمون حفلات في الأمسيات، وفرقة الموسيقى تعزف ألحانا مألوفة تحت ضوء النجوم، ويستحمون في مياه النهر، ويشربون الشاي (دون تقنين) من ماء مفلتر. ويقدم لهم كل يوم أحد خبز طازج عوضا عن الخبز الجاف واللحم المحفوظ. بل كان أهل بعض الضباط يبعثون لهم من بريطانيا ببعض الكماليات مثل ماكينات ماء الصودا من أجل تحسين مذاق الويسكي الذي يحتسونه. وذكر الكاتب أمثلة أخرى ربما ليدلل على مدى راحة واسترخاء واطمئنان الجيش الغازي، وإيمانه – مسبقا – بحتمية انتصاره في معركته الكبرى التي تنتظره في أم درمان!
وشاركت في الغزو أيضا البحرية الملكية بزوارق حربية مزودة بعشرة مدافع. وذكر أسماء ثلاثة منها وهي: شيخ ومالك وسلطان.
وكان عدد الجنود المصريين والسودانيين في تلك الحملة الغازية 17,000 فردا (مقارنة مع 8,200 فردا بريطانيا، كما سبق ذكره). وتم تقسيم هؤلاء إلى 4 لواءات و9 أقسام مشاة مصرية صغيرة، و8 من سرايا الهجانة، إضافة لأسلحة فرسان وغير ذلك. وكان هؤلاء الجنود يعملون بعقود تمتد لستة أعوام وتتميز بالمرونة وبرواتب مجزية جدا (كان الضابط يُمنح 18 جنيها مصريا في السنة، بينما يُعطى الجندي 3.6 جنيها مصريا، إضافة لطعامه وشرابه). أما الكتائب من 9 إلى 14 فكان يقوم عليها سودانيون (سود، كما قال الكاتب) من جنوب السودان وجبال النوبة. وكان بعض هؤلاء قد حاربوا من قبل في صفوف "الجهادية" ضمن جنود المهدية، ولكنهم بدلوا ولائهم وانضموا للجيش الإنجليزي – المصري. وكان البريطانيون يؤثرون الجنود السودانيين على المصريين، لحسن بلائهم في المعارك التي خاضوها من قبل مع البريطانيين، خاصة في معركتي جينيس وأتبرا.
قدرت مخابرات وينجت أن عدد جنود الأنصار في معركة كرري سيكون نحو 51,427 رجلا. غير أن ذلك ظل موضوع شك ومراجعة بسبب التغيرات التي ظلت تحدث بأم درمان منذ أن جُمعت تلك التقارير الاستخباراتية. ذكر الكاتب شيئا عن تقسيمات جيش المهدية المعروفة، وكرر ما ذكره الشاعر البريطاني كيبلنق عن أن المحارب الأنصاري "مقاتل من الدرجة الأولى"، إذ أن هؤلاء المحاربين ظلوا في حالة حروب متصلة قرابة عقدين من الزمان، واكتسبوا بذلك الكثير من المهارات التكتيكية والقدرات القتالية.
شارك في القتال في معركة كرري عدد من المتطوعين، منهم بابكر بدري (الذي أُلحق بالراية الزرقاء). وأعترف الرجل في مذكراته بأنه لما رأى قوة نيران الجيش الغازي، لطخ وجهه بدم رجل جريح وحمل ذلك الجريح بعيدا عن مرمى النيران. وقدر الكاتب أنه من بين كل 3 من جنود الخليفة المتعصبين الذين قتلوا ذلك الصباح، ومن بين كل 4 جرحوا، كان هنالك رجل واحد على الأقل يرغب في النجاة بنفسه كما فعل بابكر بدري.
تتطرق الكاتب في الفصل الثاني ببعض التفصيل (والرسومات التوضيحية) لأزياء الجيشين المتحاربين، وعن وسائل النقل والتموين والتكتيك عند الجيش الغازي (والذي كان من أهم عوامل النصر في خاتمة المطاف).
أما الفصل الثالث في الكتاب فتناول فيه المؤلف ما سماه ببداية "استرداد السودان"، وتتطرق فيه إلى ما سبق بداية الحملة نحو أم درمان، وكيف أن كرومر (المندوب السامي البريطاني في القاهرة، وحاكمها الفعلي) كان يرى أن يتقدم الجيش الغازي إلى دنقلا فقط، ولا يتعداها. غير أن ساليسبري (رئيس الوزارة البريطانية) كان يحاول إقناع كرومر بإمكانية اصطياد عصفورين بحجر واحد، واستخدام نفس الجيش من أجل "وضع قدم مصر لنقاط أبعد من دنقلا على مجرى النيل"، لا سيما وقد كانت هرولة الدول الأوروبية على أفريقيا على أشدها، وكانت بريطانيا تطمع في أن تستولي على حوض وادي النيل من المنبع للمصب، وتبعد فرنسا وإيطاليا من المنافسة. غير أنه كان من رأي كرومر أن يتم الاستيلاء على دنقلا لعامين أو ثلاثة، قبل أن يبدأ التقدم نحو أم درمان. وأرسل ساليسبري برقية لكتشنر يخبره فيها بأنه قد اُختير لقيادة تلك الحملة، ففرح كتشنر فرحا شديدا ورقص رقصة الجق jig وهو في بيجامته!
تتبع المؤلف مسيرة الحملة (بفرق مصرية) من فركة إلى حفير إلى دنقلا، وزود القارئ بخريطة توضح تلك المناطق. وترافق ذلك مع البدء في إنشاء خط للسكة حديد، استعان فيه كتشنر بالمهندس الكندي ايدوارد بيرسي جيروارد الذي تخصص في إنشاء خطوط السكة حديد. بدأ ذلك المهندس عمله من وادي حلفا في مارس 1896م. وبعد أن فرغ المهندس الكندي من عمله توجه لجنوب أفريقيا لبناء خط مماثل.
ولما بلغ جيش كتشنر دنقلا أسرع بالرجوع للقاهرة ومنها للندن ليقنع المسؤولين بضرورة مواصلة الحملة جنوبا. وأفلح في ذلك بمساعدة ضغط إعلامي وشعبي واسع.
وتناول المؤلف في الفصل الرابع معركة أتبرا، بعد أن بلغ الجيش الغازي بربر في نهاية فبراير من عام 1898م.
ومنذ ديسمبر 1897م ويناير 1898م كان الخليفة قد بدأ في دق طبول الحرب وعقد اجتماعات مع مستشاريه حول ماهية الخطة التي سيتبعها لوقف الجيش الغازي. وكان الخليفة يعتقد بأن الأحباش قد يساعدونه ضد أولئك الغزاة. غير أن ذلك لم يكن غير مجرد حلم. وفي يوم 27يناير توقفت طبول الحرب وقرر الخليفة عبد الله عدم التقدم عبر النيل لملاقاة الجيش الغازي وقرر أن ينتظره في أم درمان.
كان الأمير محمود ود أحمد قد سار بجيش لملاقاة جيش كتشنر. وفي الطريق ارتكب جيشه مجزرة بالمتمة في 1897م قُتل فيها ما لا يقل عن 2,000 فردا. وقدم الأمير عثمان دقنة بأكثر من 4,000 من الأنصار لزيادة عدد قوات محمود ود أحمد. غير أن تلك الزيادة لم تزد حال جيش محمود ود أحمد إلا صعوبة وضيقا.، بل وخلقت بعض التنافس في قيادة الجيش. ولاقى جيش الأنصار الجيش الغازي (المكون من 14,000 مقاتلا) في النخيلة على نهر أتبرا بعد أن استشار كتشنر رؤساءه في القاهرة ولندن، وسألهم إن كان عليه أن يحارب محمود ود أحمد، وهذا مما جلب عليه لاحقا سخرية بعض أولئك الرؤساء. وأسفرت المعركة عن هزيمة جيش الأنصار وأسر الأمير محمود ود أحمد. ويلقي الخبير العسكري سير فريدريك ماكسيس باللوم على الخليفة عبد الله في تلك الهزيمة لفشله في تزويد محمود ود أحمد بما يلزمه من الجنود، أو في إنقاذ حياته. ولو فعل ذلك، فربما كان من الممكن أن يغير مجرى حرب كرري لاحقا. غير أن كتشنر – حتى بعد انتصاره على محمود ود أحمد – لم يكن يعلم تماما أين سيقابل جيش الخليفة عبد الله. وكلف كتشنر الضابط بروود وود بقيادة 800 من الفرسان المصريين لاستطلاع مواقع جيش الخليفة. ضمن المؤلف وصفه لمعركة أتبرا بصور لتحصينات "الزريبة" التي أقامها الأمير محمود ود أحمد، وبها عدد من قتلى الأنصار، وصورة الأمير (الفخور المتحدي الوسيم، كما وصفه) وهو أسير بين جنود كتشنر السودانيين.
تعرض المؤلف في هذا الفصل لعداء كتشنر للمراسلين الحربيين (وكانوا نحو 17 رجلا في حملته) ورجال الإعلام بصورة عامة، وكان ينعتهم صراحة بأقبح الصفات، مثل قوله إنهم مجرد مجموعة من "حثالة السكارى"، لإفراطهم في الشراب.
وفي الرابع والعشرين من أغسطس 1898م بدأ تحرك كتشنر وجنده على الشاطئ الغربي للنيل نحو أم درمان، وحرص على أن يكون الجنود البريطانيين أقرب للنهر من غيرهم. وعانت تلك القوات من الحر ومن الأمطار الغزيرة. وبعد أيام (تحديدا في 31 أغسطس)، استعرض الخليفة قواته في ساحة قرب عاصمته. وفي تلك الليلة أخبر الخليفة قادته بأنه يرغب في أن يقوم جيشه بهجوم كاسح على العدو القادم من جانبين مختلفين (في عودة للتكتيك الكلاسيكي لجيش المهدية الذي مُورس بنجاح من قبل ضد هكس وجنوده). وهطلت أمطار غزيرة في ليلة 31 أغسطس وفجر الأول من سبتمبر صعبت من مسيرة جيش الخليفة الذي قاده نحو كرري.
قدم المؤلف في هذا الفصل وصفا مفصلا ودراماتيكيا لما حدث في الأول من سبتمبر بكرري. أطلقت مدافع الزوارق الحربية نيرانها على الجموع الانصارية المتقدمة والصامدة. إلا أن قوة النيران كانت أشد مما يمكن احتماله. وعند الظهيرة انطلقت نيران المدافع نحو قلب عاصمة الخليفة مستهدفة قبة المهدي. وعند الساعة الثانية والدقيقة الخامسة توقف الخليفة المنسحب في خور شمبات (الجاف) ليريح جنده، وليقرر إن كان سيواصل الانسحاب أم يعود للهجوم.
وفي الفصول التالية تطرق المؤلف لتفاصيل معركة كرري، وكرر إيجاز ما هو مذكور في كتب أخرى (مثل حرب النهر لتشرشل). إلا أنه، كمؤرخ حربي، أضاف تفاصيل دقيقة لآراء قادة الهجوم الغازي الذين كان يرى محلل عسكري بريطاني أن كتشنر كان في وضع ضعيف، وأنه كان بمقدور الخليفة (لو أحسن التكتيك في تلك المعركة) أن يمزق الجيش البريطاني – المصري إربا وأن يغرق جنوده في النيل. وأورد المؤلف أيضا بعض مقترحات قادة المهدية المختلفة للخليفة حيال ما يمكن عمله ضد الجيش الغازي، وبعض آراء المؤرخ الحربي السوداني عصمت زلفو. وكان من غريب ما ذكره زلفو أن أحد عيون الخليفة قد تمكن من التسلل إلى معسكر كتشنر في جنح الظلام دون أن يلحظه أحد، ثم عاد ليبلغ الخليفة بما رأى.
لقد كانت معركة كرري هي أول معركة كبيرة يجري تصويرها فوتوغرافيا بينما كانت أحداثها تتوالى فعليا. وسبق ذلك تصوير بعض مشاهد معركة أتبرا. غير أن الفيلم الذي تم تصويره سينمائيا لتلك المعارك لم يسلم من الظروف التي تم تسجيله في غضونها.
قدم المؤلف عرضا دراميا (وربما متخيلا في بعض جوانبه) لدخول كتشنر لأمدرمان بعد انتصاره في معركة كرري وخلفه راية المهدية الزرقاء، وكيف أن الشوارع كانت خالية، والرعب يعم السكان. وحكى عن قصة شيخ كبير ظهر أمام كتشنر وسأله إن كان ينوي قتل النساء والأطفال. ولما طمأنه كتشنر بأنه لن يفعل شيئا كهذا، سلمه الشيخ مفتاحا ضخما ( ربما لداره!؟)، وأعقب ذلك سماع أصوات زغاريد النساء وهن على سطوح منازلهن!؟
تتطرق الكاتب في ختام كتابه عن تقييمه لمِيراث تلك الحرب من ناحيتي التكتيك والاستراتيجية، وعما ناله المنتصرون (من ترقيات واوسمة ونياشين)، كان آخرهم هو الجندي جيمس مايلز الذي شارك في تلك المعركة، وتوفي عن 97 عاما في عام 1977م. أما في جانب من خسروا تلك المعركة، فقد ذكر المؤلف السيد موسى يعقوب الذي شارك مع الخليفة في معركة أم دبيكرات، وتوفي في السبعينيات، ومن الأمراء يونس ود الدكيم، الذي توفي عام 1936م، وعثمان دقنة الذي مات في الأسر عام 1926م عن 86 عاما. وذكر المؤلف أيضا الخليفة محمد شريف الذي أعدم مع ولدين من أبناء المهدي في عام 1899م. ورغم كل ذلك بقيت عائلة المهدي عائلة مؤثرة في الخرطوم إلى اليوم. وخلص إلى أن شعور البريطانيين تجاه معركة كرري يتراوح بين الفخر بالنصر والخجل من الطريقة التي تم بها الانتصار، وما لقيه موتى وجرحى الأنصار في تلك المعركة من معاملة قاسة وغير كريمة.
مما يحسب للكتاب والكاتب هو حشده لكمية من المعلومات والاحصائيات (والقصص الصغيرة، بل والنوادر والمواقف الطريفة في تلك الأيام العصبية التي ربما لم تذكر في كتب أخرى) في صفحات قليلة. ويحسب له أيضا تناوله للأحداث بنوع من التجرد وبلغة حيادية قلما تجدها في الكتب الغربية (العامة) المشابهة. غير أن صغر حجم الكتاب ربما اضطر المؤلف ليأتي خطفا على كثير من حوادث تلك الأيام (مثل ما لقيه الجيش الغازي من ترحيب في مناطق السودان الشمالية وهو يتقدم جنوبا، وعلى ما جرى من صراع بين الأميرين عثمان دقنة ومحمود ود أحمد في طريقة إدارة معركة أتبرا، وما سبق ذلك من مجزرة في المتمة، وغير ذلك.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء