تلف في خلايا الدماغ السياسي السوداني
بمناسبة إطلالة العام الميلادي الجديد نهنئ جميع الخيرين والشرفاء من أبناء وبنات هذا الوطن والإنسانية جمعاء، كل من يعمل علي ترسيخ قيم الخير والسلام والحرية والتعايش بين الشعوب بمختلف ثقافاتها وأعراقها وأديانها. العام الميلادي الذي يعبر عن تنظيم الله للكون في ارتباطه بالنظام الشمسي الذي يحدد تعاقب الليل والنهار وتراتبية الفصول ونظامها ويرتبط به نظام عيش الإنسان في معاشه وتعايشه مع الطبيعة بمواسم هطول الأمطار ، تساقط الجليد وفيضان الأنهار وتجمدها وذبول الأشجار وتفتحها وفي النبت والإخصاب. التهنئة لكم جميعا أيها الشرفاء من النساء والرجال، العاملين من اجل إسعاد البشرية وصيانة كرامتها. أما الذين ينكرون سلامة التهنئة بهذه المناسبة فلهم الاستثناء. كذلك أولئك الأشخاص من المتعصبين والعنصرين من (الهتلرين) و (النيرونين) و (الهولاكويين)، هؤلا لم ولن يصنعوا التاريخ ولن يتعدي انجازهم التسبب في الآم عظيمة لشعوبهم وللعالم الذي يعيشون فيه بظرفه الزماني والمكاني. في النهاية سيذهبون الي مزبلة التاريخ وستظل ذكراهم عالقة في السجل والمخيلة التاريخية كبقعة سوداء مثل انبعاثات شديدة (التلويث) تكتم الأنفاس وتحرق الزرع وتجفف الضرع. كل عام وكل المعنيين بجمال الكون وسعادة الإنسان وحريته وكرامته في حباته القصيرة، الي ان يلقي ربه لينال حسابا عادلا، لهم التهنئة وأجمل الأمنيات. لا يفوتني ان أزف تهنئة خاصة لصديقي بروف بوب بمناسبة ميلاد العنوان أعلاه في نقاش مشترك بيننا حول حال الوضع في السودان متمنيا لوالده الصحة والعافية ولاسرته الكريمة الصحة والعافية والسعادة.
الأشياء التي تحدث في السودان من قرارات سياسية (إن جاز التعبير) ومبادرات ومشاكسات وفوضي يدعو للاعتقاد بان خلايا الدماغ السياسي السوداني قد أصيبت بتلف ما. لا يمكن ان تكون الأوضاع السائدة في السودان طبيعية باي حال من الأحوال. هناك الكثير من صب الزيت علي النيران ومن افتعال المشاكل الجديدة وتعقيد القائم منها أصلا، بل حتي الكثير من الآراء الحميدة والتي تهدف الي خير البلاد وحفظ دم مواطنيها وضمان سير حياتهم بشكل طبيعي، حتي تلك الآراء تبدو غير واقعية ولا منطقية وغير قابلة للتنفيذ لدرجة التساؤل عن جدواها وتوقيتها.
يبدو من المؤكد ان العام 2011م سيكون اول السنوات العجاف التي تنتظر هذه البلاد. الحال بعد انفصال الجنوب، بالوضع السائد اليوم، لن تكون علي ما يرام. اكبر دليل علي ذلك حالة التخبط والفوضي السياسية والاقتصادية التي نعيشها اليوم والتي من مظاهرها دخولنا في سجل الأرقام القياسية التي تسجل في مجال معدلات التضخم الذي جعل الأسعار في السودان فلكية لا تمت بصلة للعالم الذي نعيش فيه. من جانب آخر تسببت (إصلاحات) ، (كما يحب الإعلام الغربي تسمية مثل هذه الإجراءات)، التي قام بها بنك السودان المركزي في زيادة تدهور الأوضاع ، ذلك كون (السعر المرازي) للدولار والذي سمي ب(الحافز) قد أدي الي جملة من الآثار السالبة التي يصعب تداركها، ان لم نقل ان في الأمر استحالة. لقد جفت البنوك والأسواق من النقد الأجنبي وأصبح الموجود منها يحول الي خارج البلاد. دفع ذلك المغتربين الي الحرص علي عدم تحويل درهم واحد زائد عن حاجة ملحة الي السودان ، كما اجبر غالبية متوسطي الحال والميسورين منهم للتفكير بشكل جاد في إيجاد وطن بديل، حتي ولو كان ذلك بعد بلوغ سن الستين وتجاوزها بغرض (الركلسة) في الخارج بعيدا عن هموم الداخل مهما كانت رداءة ذلك الخيار وسؤ عاقبته نفسيا واجتماعيا. اما بخصوص الاستثمارات الاجنبية فهذا الباب سيظل مغلقا الي حين انجلاء المواقف.
لم يتم التدبر للسنوات العجاف التي تحدث عنها لفيف من الاقتصاديين والخبراء منذ وقت مبكر بوضعهم خيار الانفصال في الحسبان، وقد رددنا كثير في المنتديات العامة ضرورة السير في منهجية (الصندوق الأسود Black Box) تحسبا للأسوأ. لقد حافظت اتفاقيات نيفاشا علي السلام وعدم اندلاع حرب طيلة السنوات الخمس الماضية. قناعتي الشخصية ان السبب الرئيس في الاستقرار خلال الفترة الانتقالية يرجع الفضل فيه للبترول وليس لحنكة او حكمة سياسية ما. كلا طرفي نيفاشا يدرك جيدا ان حلاوة عيشه وطراوة بيته ومكتبه مرتبطة بالاستمرار في إنتاج البترول وتصديره. بالرغم عن كل ما يقال في حق البترول وكيفية استغلال موارده وبالرغم من قناعتنا الشخصية بان استخدام الموارد لم يتم بالشكل الأمثل ولم يتم توظيفها بشكل فعال في مقتضيات التنمية، كما لم يتم مراكمة احتياطات مهمة لامتصاص الأزمات (علي المدي الطويل) ومواجهة الطوارئ بشكل يكفل الاستقرار المالي والنقدي في البلاد بالرغم من كل ذلك الا أن نعم البترول علي البلاد لا يمكن إنكارها تماما في التقييم الاقتصادي. لقد قلل البترول كما ذكرنا مرارا وتكرارا من العبء الضريبي ولقد رأيتم كيف ادي الخوف من انقطاعه الي مضاعفة العبء مرات كثيرة خلال الأشهر الثلاث الماضية. ساعد البترول الي حد كبير من احتواء اثأر الأزمة المالية العالمية بما وفره من موارد حتي العام 2008م مما ساعد في ترتيب الجوانب المالية والنقدية خلال العام 2009 والثلاثة أرباع الأولي من العام 2010م. مكن البترول من بناء (السد) وهذا وفر إمدادا كهربائيا مقدرا للبلاد، ساعد في بناء الجسور والطرق وقيام الأبراج وكنس السيارات (الهكر) من شوارع المدن السودانية. بالمقابل ملأ البترول الجيوب وضخم الحسابات المصرفية لأشخاص معينين وزاد من تجاوزات المال العام بقدر إنعاشه لبعض الخدمات مثل الاتصالات ، البناء، الخدمات المصرفية وكذلك خدمات التعليم والعلاج الخاصة للفئة المستطيعة من المواطنين، كما وسع من جانب اخر من الفوارق الطبقية والتفاوت في الدخول .
بالرغم من كل ذلك فموارد البترول لم يتم توظيفها في التنمية البشرية وظلت معدلات الفقر في ارتفاع الي ان الوصل الحال الي الدرك الذي نعيشه اليوم عندما أصبحت الأسعار تحلق في (الثريا) ولن يطالها حتي خيال الشعراء. لم يتم توظيف موارد البترول في التنمية الزراعية وتنمية الريف والأوساط المحلية لضمان عيش غالبية المواطنين وضمان أمنهم الغذائي وإحداث استقرار ديمغرافي يحد من الهجرة الي المدن وتفشي البطالة بشكل كارثي. مع ذلك وبما ان البترول هو عصب الاقتصاد في الشمال والجنوب فان المحافظة علي استمرارية عطائه سيخفف من الآثار المتوقعة للسنوات العجاف القادمة خاصة في الشمال بسبب نقص الموارد لفقدانه لنسبة مقدرة من عائدات البترول لن يجدي معها تطمين النفس بان فقدانها لن يترك أثرا. الآثار السالبة الان وقبل الانفصال علي (قفا من يشيل)، وبالتالي لا داعي ( لخداع النفس والعيش في الأحلام). يمكن للبترول ان يكون عاملا حاسما في تلطيف الأجواء بين الشمال والجنوب ، لان البترول بالنسبة للجنوب مسألة حياة او موت، هذا يمكن ان يحدث استرخاء سياسي بين الشريكين مما يمكنهما من إقامة علاقة بناءة تضمن لهما سير الحياة بشكل يمكن من إصلاح الحال والالتفات الي إحداث الاستقرار والسير في طريق التنمية. هذه الشروط يمكن ان تتحقق في حالة ان مر الاستفتاء وما ينتج عن من مصير بشكل سلمي سلس يجنب البلاد (الحرب). هناك بعض الأشخاص الذين يروجون للحرب والطرد والحرق وهؤلأ إما أنهم لا يفهمون او ان لهم أغراض شريرة تدميرية او أنهم مجانين او تنطبق عليهم جميع تلك الأوصاف. اعني بهم أشخاص في الشمال والجنوب. لا يخفي علي احد ان هناك الكثير من بؤر التوتر علي جانبي الحدود وهي تشكل بذرة للصراع وعدم الاستقرار بشكل ينسف أي أمل في بقاء أي من الدولتين المحتملتين بالشكل المقدر لهما ان يكونا عليه بعد الانفصال. ربما تكون هذه اخر مرة قبل الاستفتاء التي نحذر فيها من السير في طريق الاستفزاز والحرب من قبل أي من الطرفين ونقول ان الوقت والظروف لا زالت تسمح بالتوافق علي حلول تضمن الاستقرار والتعايش السلمي وتغليب المصالح المشتركة بين الشمال والجنوب.
هذه المصالح المشتركة غير قابلة للتعويض من أي طرف أجنبي سواء أن كان إفريقيا او عربيا، سواء كان ذلك الطرف هو أمريكا، أوربيا او إسرائيل. تلك المصالح المشتركة والتي تهم في المقام الأول قبائل مناطق التماس والأقاليم المضطربة وجميع افرد الشعب السوداني بجنوبه وشماله ، تلك المصالح توجد في السودان علي أراضيه وبين شعوبه وفي موارده ومنها البترول، المورد الوحيد، حتي الان القادر علي تسيير عجلة الحياة بشكل شبه طبيعي للجنوب والشمال. بذلك يصبح تجنب السنين العجاف القادمة، ومنها، بالمناسبة أثار التغيرات المناخية المحتملة، في العيش المشترك وبناء جسور من التواصل لصيانة المصالح المشتركة التي قد لا يدرك الكثيرون أهميتها الحيوية لطرفي البلاد. احذروا الحرب وأوقفوا قرع طبولها لتخفيف من حدة السنوات العجاف القادمة،ألجموا مصادر الاستفزاز، إذا لم تتوفر تلك الشروط فستثبت فرضية إصابة الدماغ السياسي السوداني بتلف خطير في خلاياه.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]