تمثال الصنّدل

 


 

 


تجوّلت في زقاق المنحوتات في سوق أم درمان . جلست أنظر إلى التماثيل الصغيرة الملساء من الأبنوس تُحاكي حيوانات الغاب، في محل صغير لصُنع نماذج الحيوانات من الخشب يقوم بهما  حرفيان أو فنانان. فقد انتهى النحت في العاج بعد أن صار ممنوعاً. وفي نفسي دائماً جدلٌ ينْشب : أهما حرفيان أم فنانان ؟ . فالحرفة التي أراها أقرب للإبداع ، وليس سهلاً عليّ أن أصفهما بأصحاب الحِرَّف ، ولا أعتقد أنهما يصنعان التماثيل مجرد رغبة شارٍ يريد  .

(1)

طلبتُ كوباً من الشاي ، وأعقبته بكوب من القهوة، واستعدت أيام طفولتي وشبابي، حين كنتُ أتجول هنا أراقب هذا العمل الفريد بدهشة . حين كان ينجزه أناس ليست لهم مراتب في سُلم الفنون التشكيلية الأكاديمية ولا شهادات ، إنها الخبرة  دون غيرها.
طلبتُ ذلك اليوم عمل منحوتاً من الصندل ، لسيدةٍ أو فتاة تجلس القرفصاء . بدأتُ مع أحد المبدعين جدلاً كبيراً حول كتلة الصندل التي تصلح للمنحوتة والثمن ، وكان أهم من الجدل هو السؤال : لماذا تخيرت خشب " الصندل " دون  غيره  من الأخشاب !؟. وامتد الحوار حول كلفة  المنحوتة ، وأنه يتعين عليّ أن أترك عُربوناً بثلاثة أرباع الكلفة الكلية .وافقت على مضض ، لأني أرغب أن أقتني تمثالاً يعيد إليّ الصفاء الذي فارقني . فخشب الصندل يمنحني حباً جديداً لسيدة صغيرة صماء ، عمياء ولكنها ليست لها مطالب دنيوية وهي  موحية ، وفوق ذلك تمنحني رائحة زكية !.

(2)

كنتُ قد أصبت بجفاف الروح منذ فترة ليست بالقصيرة ، لم أستطع الكتابة ، وافتقدت طعم الحياة ومحبة اللحظات الهاربة من زخم الدنيا ،لأن لحظات الصفاء قد رحلت . وأن الأحرف والكلمات أصبحت خالية من المعاني العميقة . لم تعُد الدنيا من حولي تُثير. لا الأصوات ولا الغناء ، ولا الكتب الروائية  ولا الصحافة ، تُعيد إلى نفسي ألقها . جفاف تام يدور من حولي ، وتبلُّد مشاعر وتجمُّد أحاسيس. دماء في كل مكان ، تسمع عنها أو تشاهدها . فهل يعيدني التمثال إليَّ روحي الضائعة ؟ . طلبت من السيدة السادسة  من قبل  أن تبحث لي عن مسبحة من الصندل ، لأخلط العبادة الدافئة بعبق الصندل ، وَجدَّت السيدة في البحث ، ولم تعثر على ذلك الطلب الغالي والنادر .

(3)

استأنست بالصمت وغالبت نفسي أن أمارس جلسة في تمارين اليوغا اسمها dead Body meditation  .فمللت من التطبيقات الرياضية قبل الجلسة المأمولة ، ونفذت التمرين الأسهل الآخر والخاص بتمرين  إنارة الذهن:
أحضرت شمعة ، وتمرنت قليلاً ، ثم جلست القرفصاء ، وأوقدت الشمعة في غرفة مظلمة ، وأنا وحدى دون أنيس . شهقت عميقاً  وحدّقت ملياً في نار الشمعة دقيقتين وأغمضت عينيّ . لمحت الضوء الأصفر منيراً في ظلمتي التي أرى . تتبعت التعليمات أن أعيد التركيز لضبط الوهج الأصفر أن يكون في منتصف الظلام ، وقد كان .انتظرت وأكملت الجلسة الهادئة ، ولكني لم أحس بعدها بالعمق الذي كان يعاودني دائماً .

(4)

كان الوعد أن يكتمل تمثال الصندل خلال أسبوع ، وفي كل يوم أتحرق شوقاً إلى امتلاكه، علني أستعيد روحي الضائعة ، وشتات النفس ، فكل الخصال الوليفة التي أعرفها عن نفسي قد فارقتني ، وهذا التمثال الذي أطلب أن أقتنيه ، آخر أسلحتي لعودة روحي لسابق عهدها.لليل سكنية ، عندما يكون المرء وحيداً . خفضّت الإضاءة في الغرفة  ، وأنا مستلقٍ على الأريكة ، وبدأت :
أدرت موجات الراديو لإذاعة لندن العربية ، مساء حوالي الثانية عشر وما بعدها. برنامج منوعات . الأذن مفتوحة لا تنام . فقد جاء في الذكر الحكيم إن السمع أسبق من البصر . وسمعت استضافة سيدة أكاديمية  سودانية لها خبرة في منظمات العمل الإنساني في النمسا.تحدثت بلباقة ويُسر عن تجربتها الخاصة  وكفاحها وصعودها سُلم الحياة الأكاديمية وأصبحت تدرِّس في الجامعة ، وتحدثت عمّا يمثله الرجل في حياتها بأريحية وصدق .وخلدتُ أنا  إلى النوم المتدرج ، فامتزج الحلم بما كنت أسمع من الراديو :
وجدتُ نفسي أجلس قرب أرضٍ واسعة ظليلة ، في وقت ما قبل الغروب  . من الشمال أشجار " الدماس " الباسقة ، عالية . ومن الغرب صف من الغرف المفتوحة أبوابها، حيث يأتي الظل المديد. وجدتُ نفسي أجلس مع صديقين من أصدقاء الطفولة ، يبعدا عني في الحقيقة أكثر من أربعة آلاف كيلومتر عن مكان وجودي الحقيقي. وبتوصيلة للإنترنيت ، فتحنا غوغل ، وكتبنا "صورة الدكتورة " وأطلت علينا صورها المتعددة . تخيرنا واحدة ، ثم أدرت مُحرك البحث للدخول  ، فخرجتْ السيدة لدهشتنا من شاشة الكمبيوتر ، جسداً يرتدي الثوب السوداني ذاته الذي كُنا نشاهده في صورة غوغل !.سلّمتْ علينا يداً بيد. وجدت نفسي أقف، وعرّفتها على صديقيَّ ، فقد كنا نشترك سوياً أخوة في مدونة إلكترونية. شراكة تُعنى بالثقافة وتبادل أفكار . فهي شاعرة وباحثة ، ولها لغتها الخاصة في الكتابة ولها صفحة في الفيس بوك ، ولكني أتجنب تلك الصفحات كثيراً  لأن الكتابة هناك عجولة لا تتطلب قدراً من الجُهد . تلك هي  الصداقة التي لا تدخلها المصالح ، فنحن نسكن عالمين منفصلين ، لم نر بعضنا إلا عند حضورها لمؤتمر منذ ثلاث سنوات. التقينا حينها لساعتين برفقة صديقي " بابكر مُخيّر"، واحتسينا خمرة الود : إبريق شاي وقهوة وكوب من عصير الليمون وشيشة لمن يشربها !.

(5)

إني لم أزل متشوقاً أنتظر تمثال الصندل الصغير أن يكتمل ، وأعلم أن السيدة الخشبية العطِرة ، لا دماء فيها ولا شرايين ولا عقل ، ولكن لها أثر دون شك على صناعة رمزٍ للتأمُل و عبق حديقة حُلم ذات شجون ، قادرة  حسب ما أرى على خلق الموسيقى في وسط ضجيج الكون . فرائحتها لن تنقطع . وسوف أحفظها دون كل العوازل . فالحبيبة الخشبية الجديدة ، سأتخذها خليلة  ، مستيقظة عند كل لحظة سكون.أرغب أن أُشركها ساعة صفائيو لن تُكدّره أفاعيل الذين يتشككون أن تكون التماثيل برفقتك ، قد تُلهيك محبتها عن محبة الرب وفق الزعم الكسول السائد ، ويعيد لك الأصوليون أحكاماً لا عقلانية فيها، من أن الأمر هو عودة للات وللعُزّى !!.

(6)

في اليوم الموعود، كنتُ أول الزائرين للمحل . انتظرت اللمسات الأخيرة ، وصارت الآن في كامل هندامها . دفعت المتبقي من الثمن وحملتها كطفلٍ يفوز بلعبته المفضلة وعجلتُ بالرحيل .في البيت ، انتظرت خلوة الغرفة من سكانها الآخرين . جلست القرفصاء  لأداء تمرين جديد لليوغا ، أصنعه لنفسي . في المقابل جلس تمثال الفتاة القرفصاء أيضاً . وبدأت تمرين التأمل ، وفي ذهني تدور أسئلة :
أهي سيدة أم فتاة ؟.
أهي عاملة أم سيدة بيت ؟.
ألها تجربة في الحب ؟.
ألها تجربة في أشياء أخرى يخفيها الناس عادة عن بعضهم ؟.
ألها علاقة بمنْ نحتها من كُتلة الصندل ، أم أنني الوحيد في حياتها ؟.
ماذا لو سطا لصٌ وسرقها ، أستُخلص له أم تظل ساكنة بلا تعبير؟.

ما الذي كان يدور بعقول الذين يتأملون تمثالاً يحبونه ثم يعبدونه ؟. أيكونون مثل حالي ؟. فأنا لا أطلب تمثالاً ليقربني للرب ، ولكني أرغب محبوبة لا تعترض على مشيئتي . ولا تعترض على نزواتي ، وتقلُب أحوالي . بل امرأة خاضعة كل الخضوع ، فرغباتي ستصطدم بها وترتد إليَّ. فهي مرآة نفسي ، التي ستلُمّ أشتاتي .
أهذه الرغبة تُصحّ النفس أم تُكدرها ؟ . وما نوع العِلاقة الجديدة ؟ . أهو الامتلاك أم الشراكة ؟ ، أليس هو الأخذ والعطاء وفق منظور العصر ، أم أنني المالك المقتدر ، يستعبد منْ يريد بماله !؟

عبد الله الشقليني
5 أغسطس 2014

abdallashiglini@hotmail.com
//////////


 

آراء