ثورة عباس الفران …. بقلم: يحيي فضل الله
28 June, 2010
تداعيات
=============
هدرت تلك الموسيقي العسكرية مجلجلة تعلن كعادتها عن البيان الاول ، ناداني منزعجا حد التمتمة صديقي و زميلي عبد الحميد حسن ، ناداني عبر الحائط معلنا عن ذلك التوجس ، عبد الحميد حسن خريج قسم الدراسات النقدية - قسم المسرح - بالمعهد العالي للموسيقي و المسرح ، كان يعمل في مصلحة الثقافة فيما يسمي وقتها بقسم الثقافة الجماهيرية ، عبد الحميد كان نقابيا نشطا ينتمي الي ذلك الحس الخدوم المتأصل و الاصيل ، اذكر انه بعد ان تهشم مشروع الديمقراطية الاخيرة و اظنه قد احيل الي الصالح العام ، إنتقل إلي مدينة شندي حيث بدأ يستأنس الارض نافيا عقلية المثقف ذي العلائق المسرحية و المهتم جدا بالفلكلور و الجغرافيا الثقافية و علاقات التماس الثقافي وعقلية موظف الدولة ليصبح تربالا يخدم في ارض اهله و كنا قد بدأنا نجني ثمار هذا التحول وذلك حين يزورنا بادرمان الجميعاب موزعا علينا شوالات البصل و البطاطس وكراتين المنقا - قلب التور - أضافة الي حالة كونه منتج حيوي و كلفاح لسربعات الليل و الطشاشات ، كنت قد زرته في شندي و إستمتعت جدا بمراقبته و هو ينتمي الي هذا الفعل الجديد - الزراعة - ، كنت اراه مؤتلفا مع زملائه المزارعين اصحاب الخبرة تلك التي يخصونه بها و يتفانون في منحه وسائل للتعلم في هذا الحقل الذي فرضت الضرورة ان يكون حقله ، كنت قد رافقت عبد الحميد في احدي تلك الصباحات من صيف 1990م الي مكاتب الزراعة حيث قابل المفتش الزراعي المسئول ، شاب انيق ، لا علاقة للزراعة بمظهره ، يتمتع بلا مبالاة واضحة في طريقة إستقباله لشكوي عبد الحميد من ان المياه لاتصل الي الارض المزروعة لان ( الجنابية ) مقفولة ، وعده المفتش انه سيأتي بعد ساعة الي هناك وهكذا حين تحركنا نحو تلك الحقول و البساتين ، كان عبد الحميد يوزع خبر مجئ المفتش الزراعي بحميمية نقابي قديم وحين وصلنا الي احد المزارعين ، رجل تجاوز الستين ويعمل في حقله بهمة شاب ، صاح فيه عبد الحميد :- (( يا عم حسن المفتش قال جاي يشوف موضوع الجنابية بعد ساعة ،(( قذف العم حسن بالطورية علي الارض متأففا و قال بعد ان مسح عرق جبينه بطرف العراقي :- (( يا عبد الحميد يا ولدي ، بقولوا كترة الصفيق بتعلم المزاوغة )) و تناول طوريته من الارض وعاد الي ما كان يفعل فيه و لم املك انا إلا ان انفجر بالضحك من هذه الحكمة البليغة ، اكلت تلك الظهيرة ساعاتها و زحفت نحو العصر وتحت ظل نخلات كان عبد الحميد يجلس مع مجموعة من المزارعين يناقشون تجاهل المفتش الزراعي لمشكلة (الجنابية)
((تعال ، نحن في الديوان )) قالها عبد الحميد و هو يختفي من علي الحائط ، ، في الديوان وجدت عمر الطيب الدوش قلقا ، يحاول ان ينفض عن عينيه اثار سهرة الامس ويدعك عينيه الدامعتين بعصبية محسوسة وكان البيان الاول لم يعلن بعد ، في الديوان كان سامي سالم واقفا ، لايهدأ له بال ، مشدود الوجه و عيونه متسعة كأنها تتحسس خطرا ما و العم حسن محمد علي يدخل من الباب الخلفي للديوان و يخرج بالباب الامامي و نظراته تتحسس الجميع متأكدا ان البيان الاول لم يذع بعد و الحاج نبقة - عبد المنعم- مشغولا بصب الشاي علي الكبابي يردد بين فينة و اخري :- (( ما قالوا عندنا مليشيات )) وفي الديوان كان عبد الله عبد الوهاب - كارلوس - يحكي عن إصرار عبد الواحد كمبال في الذهاب الي بري بعد ان فشل في تحريك مظاهرة فورية لاسترداد الديمقراطية ويدخل العم حسن محمد علي و يتجه مباشرة الي ابنه عبد الحميد ويقذف في وجهه بهذا التحدي السافر ساخرا من فعالية ابنه السياسية :- (( اها يا عبد الحميد ورونا شطارتكم ، مش مضيتوا علي ميثاق حماية الديمقراطية ، اهو ده إنقلاب ، عاد ما يبقي كلام ساكت )) و يفرقع كارلوس ضحكته و يهتز سامي سالم بالضحك و كان عمر الدوش ساهما ومستلقيا علي السرير و هو يلوئ علي شئ و كان البيان الاول لم يذع بعد ، في الديوان يدخل التاج وهو يفرك إبهامه علي الخاتم الفضي في اصبعه ، حركة متوترة و سريعة و يحتج : - (( الناس دي ما سلو روحنا )) و يخرج
في المساء كان العم حسن محمد علي يتابع بيانات التأييد و يقذف في وجه التلفزيون بشتائم تعلن خيبته واذكر حين جاء بيان تاييد من الاستاذ فراج الطيب الامين العام للمجلس القومي الاداب و الفنون وقتها والذي شغل المنصب في ذات الديمقراطية المنقلب عليها ، صاح عم حسن يناديني كي يعلن :- (( يا يحيي ياولدي الناس ديل خلاص دلدلوا رجلينم )) ، صديقي العم حسن محمد علي رحل عن الدنيا في يناير من العام 1990 بعد ان هرب ابنه عبد الحميد خوفا من مغبة الإعتقالات الي حقول وبساتين اهله بشندي لاسيما ان العم حسن محمد علي كانت حرفته ما بين البذرة والثمرة ، كان زراعيا وتنقل في الكثير من مناطق السودان ، عم حسن كان شجرة يانعة الثمار و اذكر حين رحل العم حسن محمد علي سقطت في اقل من اسبوع بعد رحيله شجرة كبيرة علي يمين الباب الكبير ، قالت امنا حاجة زينب وهي تودعه :- (( حسن ما عسل و إنغسل ))
كان نهارا قائظا مشحونا بالتوترات و كان البيان الاول لم يذع بعد وحين كان الحاج نبقه يحاول ان يرتب فزعة الي الحارة خمستاشر سمعنا هتافات و كواريك وصرخات مرحة المزاج ، كانت هذه الهتافات نقية المقاصد و تميل الي إعلات إنفلاتها من كل تلك القيود ذات الطابع الديني ، اعذروني لا استطيع ان اكتب تلك الهتافات فهي كانت مباشرة وتلقائية بما يكفي ان اخفيها ، تلك الهتافات لم تكن لجماعة من الناس ولكنها كانت هتافات عباس الفران ، خرجنا من الديوان الي الخارج نتابع ثورة عباس الفران و كان البيان الاول لم يذع بعد ، عباس الفران يعمل في الفرن القريب من بيتنا في حي الجميعاب ، كان عباس الفران في غفوته الصباحية اذ انه يقصي الليل امام الفرن و يهرب احيانا متي ما تمكن من ذلك لينضم الي قعدتنا في بيت (أتيمه ) المجاور لنا ، كان عباس الفران في غفوته الصباحية في يوم الجمعة 30 يونيو 1989م وحين كان متناوما يفكر في الذهاب الي -الحارة خمستاشر- بعد سوق -ام دفسو- حيث اعتاد ان يقضي قيلولته هناك، كان يغالب نعاسه حين ايقظته المارشات العسكرية و كانت الاعلانات المتكررة عن إذاعة البيان الاول قد اخرجت عباس الفران من تعسيلته في ضل الضحي فخرج ليعلن هتافاته تلك الحارة والمنتشية حد الصرخات الصاخبة و المناوئة جدا للمشروع الاصولي ، هتافات عباس الفران كانت تخرج من حروق الجوف ، كانت هتافات ذات غبن شخصي فقد كان لعباس الفران معارك مع خيمة العساكر في اخرمحطة القديمة لحافلات الجميعاب ، معارك دائما ما تدفع به الي الخسران والشعور بالمهانة و المذلة
حين فتحنا الباب رأينا عباس الفران يركض هنا و هناك ، يهتف ، يتصايح و هو يلوح بديك ابيض يحمله في يمناه و ابواب البيوت علي الجانبين فتحت و اطلت النسوة و الصبايا يتابعن ما يحدث و اطفال من مختلف الاعمار تحلقت حول عباس الفران و هو فرحا منتشيا بخلاص يخصه وحده و كان البيان الاول لم يذع بعد و كان قد اختلطت اصوات الديك مع صيحات هتافات عباس الفران ، كان عباس الفران يركض نحو قيلولته في - الحارة خمستاشر- و يحمل معه احلامه الهاتفة الصائحة بخلاص مجهول ، يركض و الديك يصيح و الاطفال يركضون خلفه و يهتف ، يصيح ويتصايح و كان البيان الاول لم يذع بعد و عباس الفران ينتمي الي إنفلاته الخاص و كنا نقف امام الباب نتابع مظاهرة عباس الفران حتي تلاشت هناك في البعيد و كان البيان الاول لم يذع بعد
yahia elawad [yahia_elawad@yahoo.ca]