جامعة الخرطوم المعتدى عليها! … بقلم: أ.د. الطيب زين العابدين
يقول المثل العربي الشرود "كل ذي نعمة محسود"، ينطبق المثل أساساً على الأفراد ولكنه يجوز كذلك في حالة الجماعات والمؤسسات فهي أيضاً تتميز على غيرها بنعم تنظيمية وفكرية ومادية مما يجلب عليها الغيرة والحسد من جماعات ومؤسسات نظيرة لا تقدر على منافستها بصورة علنية شريفة. والحسد مرض نفسي يصيب النفوس غير السوية ويستعصي على العلاج ولا يجلب إلا الشر لصاحبه وللمجتمع، لذلك جاء توجيه القرآن الكريم للمؤمنين أن يتعوذوا برب الفلق من شر حاسد إذا حسد. وأحسب أن جامعة الخرطوم قد أسبغ الله عليها نعماً كثيرة بفضل مكانتها العالية في المجتمع وكسب أساتذتها وطلابها في مجال العلم والبحث والإسهام السياسي القومي وتولي إدارة الجامعات الجديدة، وكسب خريجيها في إدارة دولاب الدولة ومشروعات التنمية والتمثيل المشرف في كافة مجالات العمل المهني خارج السودان. فلا عجب أن تكون محسودة على تلك المكانة وذلك العطاء الثر، وبما أن حاسديها لا يستطيعون منافستها في مجالات عملها العلمي والبحثي يلجأون إلى طعنها من الخلف بتحريض الدولة عليها، وأكثر الحكومات قبولاً لذلك التحريض هي الحكومات العسكرية لأن الجامعة بفكرها الليبرالي وتقاليدها المؤسسية وتراثها السياسي الطلابي أقرب للنهج الديمقراطي، لذا فهي تأبى الحكم العسكري وترفض الإملاء الخارجي والتعيين السياسي لمواقع المسئولية في الجامعة. وذلك بالرغم من أن التنظيمات الطلابية الكبيرة في الجامعة كانت ذات طبيعة أيدولوجية شمولية لكن قاعدتها العضوية لم تزد في أحسن الحالات عن 20% من مجموع الطلاب لكن الممارسة الديمقراطية حتى في أوساط تلك التنظيمات الشمولية كانت هي الأصل والحكم في كل أوجه النشاط الطلابي. والحكم العسكري بطبيعته وتدريبه شمولي النزعة قهري التوجه يؤمن بأن من حق القائد الأعلى أن يفعل ما يشاء في جنوده وأتباعه وممتلكاته لا فرق في ذلك بين قيادته للجيش أو قيادته للدولة. لذا دخلت الجامعة في مواجهة مع حكم الجنرال عبود أدت إلى ثورة أكتوبر، ومع حكم الرئيس نميري أدت إلى انتفاضة شعبان (73) ثم انتفاضة أبريل (85)، ووقعت فيها صدامات متفرقة مع حكم الرئيس البشير استطاعت السلطة أن تحتويها بفضل تأييد الطلاب الإسلاميين لها، وربما لهذا السبب كانت حكومة البشير هي الأكثر جرأة واعتداءً على الجامعة لأنها تمنعت من قبول سلطتها وسياساتها كاملة كما تريد. ونسرد فيما يلي بعضاً من هذا الاعتداء على حرمات جامعة الخرطوم.
كانت المواجهة الأولى في عام 1991 عندما طلبت الحكومة من البروفسير مدثر التنقاري فصل عدد من الأساتذة لأنهم متهمين بمعارضة النظام دون أدنى دليل، الغريب أن المكتب التنظيمي للحركة الإسلامية داخل الجامعة رفض بالإجماع فكرة فصل الأساتذة ورفض أن يرشح أي شخص للفصل من الجامعة ولكن بعض ممثلي مؤسسات التعليم العالي في التنظيم احتجوا لدى السلطة: كيف يفصل أساتذتهم وجامعة الخرطوم لا تفعل؟ ووقف التنقاري موقفاً صلباً مشرفاً ضد تلك السياسة العشوائية الظالمة وكانت النتيجة أن أعفي من منصبه قبل أن يكمل سنتين في إدارة الجامعة. وكانت المواجهة الثانية مع البروفسير مامون حميدة الذي رفض تدخل وزير التعليم العالي في شئون مجلس العمداء والاجتماع بهم في غيبة المدير وقال للوزير كلمة سارت بها الركبان: إن كلمة وزير ليس لها وجود في قانون الجامعة! وذهب الوزير مغاضباً وطلب من الرئيس إعفاء المدير المشاكس واستجاب الرئيس لطلب الوزير فأعفي ب مامون بعد سنتين فقط من توليه المنصب. ولم تكن الجامعة موافقة على مجمل سياسات التعليم العالي التي من شأنها التأثير على مستوى الطلاب الأكاديمي مثل سياسة التعريب دون استعداد لذلك وزيادة أعداد القبول واستيعاب الطلاب الذين استدعتهم الحكومة من الخارج رغم قلة الإمكانات المعملية وقبول المجاهدين وأبناء الشهداء على حساب مقاعد القبول الخاص وقبول طلاب دارفور في البكالوريوس والدبلوم من دون رسوم دراسية، واضطر ب الزبير بشير أن يتمرد على دفع فاتورة الكهرباء واستحقاقات البنك العقاري لأن الحكومة لم تدفع للجامعة رسوم القبول الخاص الذي وعدت به. وفي ظل المناكفة بين الطرفين فكر بعض زبانية الحكومة تغيير اسم الجامعة من "جامعة الخرطوم" إلى "جامعة الشهيد" نكاية في الجامعة التي لا تقدر مكانة الشهيد حق قدرها (قال الرئيس سلفاكير وهو يصوت للانفصال في أول يوم للاقتراع على استفتاء تقرير المصير: إن دماء شهدائنا لم تذهب سدى! هل يستطيع الرئيس البشير أن يقول مثل ذلك؟)، وصعب اقتراح تغيير الاسم على خريجي الجامعة في دهاليز السلطة فماتت الفكرة في مهدها. وبدأ سياسة التقتير على موازنة الجامعة بحجة أنها عريقة ومكتملة التأسيس مقارنة بالجامعات الجديدة فأصبح ما تدفعه وزارة المالية يساوي فقط 90% من الفصل الأول (تعويضات العاملين) و10% فقط من الفصل الثاني (التسيير) ولا شئ للفصل الثالث (شراء الأصول) ولا شئ للفصل الرابع (التنمية). ورغم الإقرار بأن جامعة الخرطوم مترهلة في عدد العاملين بها من العمال والموظفين إلا أنها سعت لتخفيض تلك العمالة الفائضة التي تم رصدها بناءً على دراسة دقيقة مستفيضة على أن تقوم الحكومة بدفع حقوقهم، ورغم الوعد الذي قطعه رئيس الجمهورية على نفسه بمقابلة تلك الحقوق إلا أن كشوفات العمالة الزائدة التي قدمت له منذ ثلاث سنوات ما زالت ترقد في مكان ما بمكاتب القصر الجمهوري.
والعدوان الأكبر كان على أراضي الجامعة التي كانت تمتلكها منذ زمن الانجليز في حين وجدت جامعات أخرى مثل أفريقيا العالمية وأم درمان الإسلامية كرماً حاتمياً من رئيس الجمهورية في منحها قطع واسعة تحسب بعشرات الآلاف من الأمتار. نزع رئيس الجمهورية في مطلع التسعينات كل أراضي سوبا الواسعة التي سبق للرئيس نميري أن منحها للجامعة في السبعينات واستطاع ب مامون مدير الجامعة في ذلك الوقت أن يستردها بعد جهد جهيد. ورفض والي الخرطوم في عام 1997 أن يحول مزرعة الجامعة شرق شارع المعونة بشمبات إلى قطع سكنية وفقاً للقرار الجمهوري إلا إذا اقتطع منها 20% وأخذت مصلحة الأوقاف 12,5% وكان له ما أراد، رغم أن القرار كان يعفي الجامعة من تبعات وتكاليف الإجراءات الإدارية والقانونية. وقد اضطرت الجامعة لتحويل أرض المزرعة إلى أراض سكنية وبيعها لأنها فشلت في توفير القاعات والمعامل اللازمة لمقابلة زيادة عدد الطلاب في كل من مجمع شمبات والعلوم الطبية. وتم نزع ستة عشر ألف متر من أرض الجامعة بالعمارات (شمال شارع 15) بقرار جمهوري ومنحت للسفارة الأثيوبية لتقيم عليها مبناها الجديد، واستطاع وزير الداخلية (عبد الرحيم محمد حسين) الذي يعرف بواطن الأمور أن يستثني أرض الداخلية المجاورة لقطعة الجامعة (خمسة آلاف متر) والتي كان من المفترض أن يشملها القرار وباعها للمستثمرين بمبالغ طائلة، واجتهد بعدها في متابعة تنفيذ قرار الرئيس على أرض الجامعة! ورغم أن القرار نصّ على تعويض الجامعة وقبلت ولاية الخرطوم بتعويض الأرض المنزوعة على أن تدفع لها الحكومة قيمة الأرض، ولم تدفع الحكومة التعويض على مدى خمسة عشر سنة إلى اليوم؛ ويبدو أن أرض الولاية لا تنزع مثل ما تنزع أرض جامعة الخرطوم! وفي مطلع عام 2008 أمر وزير رئاسة الوزراء (كمال عبد اللطيف) بإخلاء أساتذة كلية التربية من منازلهم بالقوة الجبرية لأن المنازل تتبع لمجلس الوزراء وهو يريدها لتسكين بعض أرباب نعمته من الدستوريين، وبدأت قوة البوليس المكلفة بتنفيذ الإخلاء برمي أثاثات الأساتذة على الشارع. ولو لا وجود ب الزبير بشير على رأس وزارة الداخلية لما عاد الأساتذة إلى منازلهم، وقد كانت تلك المنازل جزءاً من معهد تدريب المعلمات الذي آل لجامعة الخرطوم في 1994 لكنها لم تقم بتسجيلها في الوقت المناسب حتى طاف عليها وزير مجلس الوزراء في غفلة من الجامعة.
ونموذج آخر للاعتداء غير مسبوق قامت به سلطات ولاية الخرطوم في مارس من العام الماضي حين كلفت شركة بتجريف مزرعة الجامعة في شمبات لشق طريق يمتد من كبري الحلفاية الجديد إلى الطريق العام دون أن تخطر الجامعة أو تتشاور معها، وفشلت الجامعة في وقف تجريف مزرعتها رغم لجؤها للجهات العدلية لأن الشركة المنفذة تتبع لجهة نافذة في الدولة تستطيع أن تفعل ما تشاء! الجدير بالذكر أن المزرعة هي مختبر المجمع الزراعي والبيطري لتدريب الطلاب في كليات شمبات الأربع بما فيها من مرعى وحيوانات وقنوات مياه. وفقدت الجامعة كذلك عدداً من منازلها في حي المطار لتقام فيها منازل سيادية دون تعويض للجامعة. وكانت ثالثة الأثافي هي نزع أرض البركس (110 ألف متر مربع) بقرار جمهوري في التاسع عشر من سبتمبر الماضي لمصلحة صندوق رعاية الطلاب، ووصل القرار للجامعة دون تشاور ودون تبرير يوضح أسبابه ودون إشارة لتعويض يأتي أو لا يأتي. ومن مصلحة الذين يحكمون باسم الإسلام أن يعلموا أن الشورى الإسلامية هي أوجب ما تكون عندما يطلب من المرء التنازل من بعض حقوقه، فقد استشار المصطفى (ص) جيشه بعد هزيمة قبيلة هوازن واحداً واحدا حين طلب منهم التنازل عن بعض نصيبهم من الغنيمة لأن شيوخ هوازن قبلوا الدخول في الإسلام وأصبحوا إخواناً لهم في الدين، وقبل أفراد الجيش جميعاً عدا اثنان قال لهما الرسول في سماحة إذن أقرضونا إياها إلى أجل قادم فرضي الرجلان. وأحسب أن هذا القرار الجائر يعتبر من باب الاعتساف في استعمال الحق، الذي كتب عنه الخبير الدستوري المصري عبد الرزاق السنهوري مجلدات ضخمة هي فخر للتراث الفقهي الإسلامي، وإن شئنا الدقة فهو ليس حقاً وإنما هي صلاحيات قانونية أعطاها صاحب الأمر لنفسه في الدستور، ويجوز أن يقال عنها إنها إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق. والأرض المنزوعة غصباَ تحتوي على 17 داخلية من داخليات الجامعة القديمة تسع أربعة آلاف طالبة ظل الصندوق يشرف على إدارتها منذ 16 سنة دون أن يطلب تحويل ملكيتها ودون أن تسبب له الجامعة أية مضايقات. وتدير الجامعة في هذه الأرض بعض منشآتها الطلابية مثل: دار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، عمادة الطلاب (20 مكتبا)، وحدة علاج العيون (6 مكاتب)، الوحدة النفسية (4 مكاتب)، داخلية مكتب النشر القديم (مقترحة لأن تكون مستشفى يرتبط بمركز الخدمات الصحية)، داخلية الحميراء لطالبات الدراسات العليا (120 طالبة)، حوض السباحة. وقام الصندوق على عجل بتحويل الملكية لنفسه بناءً على القرار المجحف، وعرض أمين الصندوق على الجامعة بغطرسة يحسد عليها أنه يمكن أن يستضيف لها بعض وحداتها مثل دار اتحاد الطلاب إلى حين تدبر الجامعة أحوالها! ولو كنت مدير الجامعة لطلبت منه أن يهدمها على رؤوس الطلاب والموظفين حتى يستولى على الأرض التي يريد استثمارها مع بعض ذوي النفوذ. وبهذه المناسبة فقد بلغت إيرادات الصندوق بنهاية عام 2009م حسب تقرير المراجع العام 178 مليون جنيه أى 71 مليون دولار وهي تساوي أكثر من ضعفي ميزانية جامعة الخرطوم من الدولة في تلك السنة (ميزانية الجامعة حوالي 80 مليون ونصف)! وكان تعليق المراجع العام على حسابات الصندوق أن المبالغ الظاهرة بمصروفات دعم الأمانات الفرعية (بالولايات) بكشوفات الأمانة العامة لا تطابق تلك التي تظهر بحسابات الأمانات الفرعية، وذلك يعني أن الأمانة العامة تكتب في حساباتها مبالغ أكبر من التي أعطتها فعلاً لأمانات الولايات، ولا أظن أن هناك مسئول واحد شغلته هذه المخالفة الصغيرة التي قد لا تزيد عن بضع ملايين من الجنيهات. فالبلد كلها منهوبة!
ولا أشك في أن صندوق رعاية الطلاب الذي تغدق عليه الدولة مبالغ طائلة تقتطعها من دافع الضرائب والجمارك سيصبح بعد بضع سنين في ذمة التاريخ لأنه ليس من الطبيعي في بلد يطبق النظام الفدرالي أن تبقى فيه سلطة مركزية تتولى إدارة داخليات الطلاب في كل ولايات السودان فالداخليات ليست مؤسسة للتصنيع الحربي ولا شبكة قومية للكهرباء حتى تستحق سلطة اتحادية قابضة على شؤون الطلاب في كل أنحاء البلاد. فلماذا لا تسلم هذه الداخليات للجامعات التابعة لها أو إلى حكومة الولاية المعنية؟ ولا شك عندي أيضاً في أن الحكومة القائمة ستذهب في يوم قريب أو بعيد مثل ما ذهبت حكومات سابقة وسينسى الناس أسماء المتنفذين فيها مثل ما طوى النسيان شخصيات حكومية سابقة؛ ولكن جامعة الخرطوم ستبقى أقوى منارة للعلم والبحث والتدريب في السودان لعشرات أو مئات السنين مثل ما بقيت في الماضي وسيسجل التاريخ أسماء أولئك الذين اعتدوا على حرماتها غيرة وحسداً وكيدا.
al-Tayib al-Abdin [aalabdin1940@yahoo.com]