جامعة هارفارد على خطى جامعة أم درمان الإسلامية …. بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 

mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]

مما يغري بدراسة تاريخ الفكر أن يلاحظ المرء أن رجالا أفذاذا تمكنوا بحدة أفكارهم الألمعية أن يحولوا مجرى التاريخ ويشكلوا وضعا عالميا جديا يعد ظاهرة مُعلمة من أعظم ما تشهد الدنيا من تطورات.

من هؤلاء البروفسور أحمد عبد العزيز النجار، الذي رحل عن دنيانا هذا الأسبوع، والذي عرفته بلادنا، وعرفها جيدا، عندما قدم إليها في ستينيات القرن الميلادي المنصرم، وأنشأ بجامعة أم درمان الإسلامية، قسم الاقتصاد الإسلامي، ودرب أبكار حملة هذا العلم في السودان، في وقت لم يكن أكثر مسلمي هذا العصر يعرفون شيئا عن الاقتصاد الإسلامي، ولا يدركون أن للإسلام منهجا في العمل الاقتصادي يختلف عن المنهجين الرأسمالي والاشتراكي.

وقد طاح ذلك القسم بعد سنوات من إنشائه عندما انقض عليه الشيوعيون بعد شهرين من وقوع كارثة ثورة مايو 1969م، ولكن بقيت آثاره تدل عليه وتؤكد ريادته الأكاديمية في كل بقاع العالم الإسلامي، إذ أنه كان أول قسم في جامعات العالم طرا في هذا التخصص العظيم.

محاضرته يتيمة الدهر:

ثم نهض القسم مجددا بعد أن تمكن رجال أخيار من أهل العلم والوطنية والدين والإخلاص، منهم البروفسور نصر الحاج علي، من إقناع النميري بإعادة الجامعة الإسلامية إلى وضعها القديم، وإعادة شيخها الرائد الحضاري البروفسور كامل الباقر ليَلِيَ أمرها مرة أخرى.

وعاد إلى بلادنا البروفسور النجار في السبعينيات لا ليحاضر بجامعة أم درمان الإسلامية، ولكن ليسهم في تأسيس بنك فيصل الإسلامي السوداني، والمقصود هنا هو التأسيس الفكري، أو ما يسمى بالتخطيط العام.  فلم يكن الرجل من أصحاب الأموال، ولا ممن يشغلون أنفسهم بتحصيلها، وإنما جاء لينزل أفكاره على محك الواقع السوداني، ووفق في ذلك توفيقا ذا شأن.

وأذكر أنه جاء في تلك الأيام إلى الجامعة ليقدم محاضرةً، يتيمةَ دهرٍ حقا، في موسم ثقافي إسلامي، وقد كانت من المحاضرات التي يقول الغربيون فيمن يدلي بها: إن المحاضر العظيم هو الذي يقدم إليك محاضرة واحدة  لا تنساها بقية عمرك!

شحذ النظرية وتشذيبها:

وحدة أفكار النجار ودقتها مشهود لها عند أئمة علم الاقتصاد عامة، والاقتصاد الإسلامي خاصة، فهذه هي ميزته الكبرى. وقد لا يكون البروفسور النجار أقدم أساتذة الاقتصاد الإسلامي، وربما كان الدكتور محمد عبد الله العربي، رحمه الله، سابقا عليه في مجال التنظير للاقتصاد الإسلامي، ولا شك أن مولانا العلامة المودودي كان سابقا عليهما معا في هذا المجال.

 ولكن تفرَّد البروفسور النجار بتحديد الأفكار، وشحذ النظرية، وتجريبها مرارا في واقع الحياة الاقتصادية، وذلك منذ أن أسهم في إنشاء  بنوك الادخار اللا ربوي بمصر في الستينيات، وهي البنوك التي أثبتت نجاحا هائلا، لا للنظرية اللا ربوية وحسب، وإنما للنظرية التنموية

Development Theory

في شمولها كذلك.

ولكن سقطت تلك التجربة ضحية للحقد اليساري الاشتراكي، الذي ما كان أربابه يرضون بأن يكون للإسلام أي  دور في فضاء الحياة العامة بمصر، ولو كان دورا مساعدا للحكومة، يقوم بتجميع مدخرات الفلاحين، وتدويرها في مشروعات صغيرة تسهم في ترقية أوضاعهم.

وقد أسهم الدكتور النجار بعد ذلك في تأسيس معظم البنوك الإسلامية، إلى منتصف الثمانينيات، والتزم من ثم موقف المراقب والناصح الأمين، الذي يتابع التجربة، ويبذل الاستشارات اللازمة لتقويمها وتسديدها.

ومن أهم مآخذه على تصرفات البنوك الإسلامية، اتجاهها المفرط إلى استخدام صيغة المرابحة، والتوسع في استخدامها على حساب الصيغ الأخرى. وتقصيرها في تمويل الصغيرة لأناس محتاجين،على حساب تمويل المشروعات الكبيرة لأناس مقتدرين. وقد نتج أكثر ذلك الانحراف من تسليم إدارات الكثير من هذه البنوك، إلى أناس مغامرين، ذوي عقلية مادية، ولم يتلقوا تربية كافية في المدرسة الإسلامية.

 والذي نريده اليوم من قسم الاقتصاد الإسلامي، بجامعة أم درمان الإسلامية، هو أن يواصل رسالة رائده وشيخه العظيم النجار، في مراقبة أداء البنوك الإسلامية في السودان، من مثل هذا المستوى العلمي المحتسب الرفيع، وذلك بتتبع صيغ المعاملات،المصرفية في السودان، ونسب تمثيلها، وطرائق تطبيقها، وكتابة البحوث العلمية، النقدية، الرصينة، الهادئة، في نقدها، وإبداء التوصيات بشأن إصلاحها، وتقويمها.

الجهاد في زمن الغربة والتغريب:

لقد كان البروفسور أحمد النجار يعمل وسط غربة فكرية حقيقية، وفي أطواء مد علماني طاغ، اجتاح العالم العربي في الستينيات. ولكنه لم يهن ولم يستسلم، وبقي  مقتنعا، اقتناعا صميميا، بما عنده من العلم الشرعي، شاهرا حجته، وتجربته، في وجه من استنكر على الإسلام أن يكون له دور في الاقتصاد والتنمية.

وأذكر أنه في محاضرته تلك التي ألقاها بجامعة الإسلام السودانية، ذكر طرفا من مجادلة دهاقنة بنك السودان له، وزعمهم أن بنكا لا يتعامل بالربا ما سمعوا به في الأولين ولا يرجون له نجاحا في الآخرين. فجادلهم بالحجج الحسنى القويمة،التي لم يحيطوا بأمرها خُبرا، وعندما لاحظ شدة زيغهم، وإيثارهم التشدق والتنطع بعلوم أساتذتهم الغربيين، حدثهم قائلا إن التجربة العملية وحدها هي التي ستفصل بيننا، بعد أن لم يفصل بيننا منطق العلم والدين، وهذا ما كان، إذ أثبت بنك فيصل نجاحا منقطع النظير أخرس ألسنة التغريبيين.

هارفارد على خطى النجار:

وازدهر قسم الاقتصاد الإسلامي مجددا بجامعة أم درمان الإسلامية، ونشأت أقسام شبيهة له بالجامعات الإسلامية الأخرى. ولا تكاد تجد جامعة في العالم الإسلامي لا تتطرق له.

وهنالك اليوم أكثر من ألف جامعة على نطاق العالم، تدرِّس مادة الاقتصاد الإسلامي ،على خطى جامعة أم درمان الإسلامية العتيدة، وفي طليعتها جامعة هارفارد، التي أنشأت قسما لدراسة صيغ التمويل الإسلامي، بالإضافة إلى عشرات (الكورسات) الموزعة على سياقات أخرى في أقسام الاقتصاد وإدارة الإعمال والدراسات الاجتماعية تتناول هذه الظاهرة المعجزة.

 وأذكر أني عندما كنت طالبا في مرحلة الماجستير، بجامعة أوهايو، حاورت أستاذا لي عن موضوع البنوك الإسلامية، فأجاب بما أجاب به إداريو بنك السودان النجار، قائلا: إنه لا يعقل أن يقوم بنك في الدنيا بغير ربا، فماذا تقول؟ إنك لتقولنَّ أمرا عجبا!!

قلت له إن المسألة ليست مسألة فرض علمي مجرد، أتحدث عنه على المستوى اليوتوبي، وإنما دخل تحيز التطبيق العملي، منذ سنوات، وسجل نجاحا فائقا، وإن هنالك اليوم أربعة وعشرون بنكا إسلاميا في العالم، لا تتعامل بالربا، واحد منها في إندونيسيا التي أنت متخصص في سياساتها، فلك أن تراجع أمره بنفسك. ولعله قد فعل، ووقف على ما انتهى إليه ذلك البنك من التوفيق.

إمكانات الاقتصاد الإسلامي لحل المعضلة الاقتصادية العالمية:

وفي الآونة الأخيرة تردد الحديث في أوساط علمية اقتصادية عالمية محترمة، عن إمكانات الدين الإسلامي لتقديم حلول ناجعة، للمعضلة التي يعاني منها الاقتصاد العالمي حاليا.

 جاء ذلك بعدما شاهدوا إمارات النجاح في أداء البنوك التي تلتزم صيغ التمويل الإسلامي، ورأوا أن قطاع البنوك الإسلامية كان أقل المؤسسات المالية العالمية تأثرا بالأزمة المتفاقمة منذ العام الماضي، ولا ينتظر أن تنجلي عن قريب.

وبعد ذلك أفلا يحق لنا أن نخص هذا الإمام الفكري الرائد بالتبجيل؟

بلى .. وإن  قصة نجاحه الفكري الأخاذ، لقصة تغري فعلا بدراسة تاريخ انتقال الأفكار وتطورها.

 

 

آراء