جدل الثورة والتدخل الخارجي … بقلم: خالد التيجاني النور

 


 

 


ما أن انطلقت صواريخ الدول المشاركة في الائتلاف الدولي لتدك مظان القوات الموالية للعقيد معمر القذافي تنفيذاً للقرار الدولي باتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين اللييبين الثوار من بطش كتائب العقيد الجهنمية, حتى انبرت بعض الأصوات في الساحة العربية تسترجع المخاوف وحتى التنديد بما اعتبروه تدخلاً أجنبياً عدوانياً سافراً يستهدف احتلال ليبيا والسيطرة على ثرواتها النفطية, وتذكر بما حل بالعراق, وتجربته المريرة مع التدخل الأمريكي.
ولعل أكثر ردود الفعل إثارة للاستغراب في هذا الخصوص ما ورد على لسان الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الذي استنكر ما يحدث معتبراً أنه مخالف لسيناريو قرار الجامعة بحماية المدنيين, وليس استهداف مدنيين آخرين جراء القصف الغربي, قبل أن يتراجع لاحقاً عن تحفظاته. بالطبع لا يخلو تعليق موسى من حذلقة سياسية, أو محاولة لخدمة أجندته المستقبلية استباقاً لردود فعل شعبية قد تتطور رافضة للأمر متنصلاً من مسؤولية توفير غطاءاً تدخل دولي لفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا لحرمان كتائب العقيد القذافي من الاستفادة من تفوقها العسكري على الثوار.
 وما هو معروف في باب العلم العام أن فرض حظر الطيران فوق منطقة ما يستدعي بالضرورة تدمير القدرات العسكرية لهذا الطرف لشل قدراته على استخدامها في خرق الحظر المفروض, ولا أحد يظن أن الأمين العام كان يتوقع أن يتم ذلك بخطب تحض القذافي على الإلتزام بالحظر وتوفير حياة مناوئيه, وهو الذي أعلن على رؤوس الاشهاد أنه عازم على تطهير ليبيا منهم في قولته الشهيرة "بيت بيت شارع شارع زنقة زنقة فرد فرد".
وينسى الذين ينتقدون التدخل العسكري الدولي ويعتبرونه مصيدة تهدف للإيقاع بليبيا في براثن الأطماع الغربية, أن هذا التدخل لم يأت إلا وقد بلغت القلوب الحناجر وكتائب القذافي تكتسح مواقع الثوار الليبيين من الغرب إلى الشرق حتى كادت تطبق على معقلهم الرئيس في بنغازي, وحتى ذهبت الظنون متهمة القوى الغربية الكبرى بأنها إنما تتعمد عدم التدخل, أو تتباطأ في ذلك, لأنها ترغب في إبقاء القذافي على سدة السلطة ليواصل خدمة أهدافها, ولذلك تتيح له الفرصة ليقضي على الثوار الذين حاول العقيد تسويقهم بحسبانهم من ربائب القاعدة. وخشي الثوار والشعوب العربية التي تدعهم انتفاضتهم أن تذهب ريح الثورة بعد أن عز النصير لها في مواجهة كتائب العقيد الدموية, وليس سراً أن الجميع تنفسوا الصعداء أن خطوات التدخل العسكري الدولي تسارعت في غضون ساعات قليلة كانت محصلتها استرداد الثوار لأنفاسهم والاستعداد لمواصلة انتفاضتهم.
وما أن مرت لحظة الرعب خشية اجهاض الثورة الليبية بفضل التدخل العسكري الحاسم لقوات الإئتلاف, حتى فاقت بعض الأقلام لتتحدث عن عواقب السماح بهذا التدخل الأجنبي, وهو أمر لا غبار عليه نظرياً لجهة الاعتبار بما جرى في الحالة العراقية, ولكن بما أننا لسنا أمام افتراضات نظرية ولا مجادلات أكاديمية, فإن السؤال المنطقي الذي لم يجب عليه المتحفظون أو المستنكرون لهذه الخطوة ما هي حلولهم العملية البديلة وقد رأوا بأم أعينهم كتائب العقيد تسحق بلا رحمة مواطنيه المحتجين الساعين للخروج من الزنزانة الكبيرة التي حبسهم فيها أربعة عقود في حالة بؤس لا نظير لها في عالمنا اليوم, وهو الذين لم يعترف بوجودهم أصلاً, وعندما أضطر لذلك اعتبرهم ليسوا بشراً متفضلاً عليهم بمرتبة لا تتجاوز الجرذان والجراد والضفادع والقمل, فهل كان على الثوار الليبيين أن ينتظروا السحل فرداً فرداً, كما أنذرهم العقيد, وهل كان عليهم أن يفنوا عن بكرة أبيهم حتى لا يجرحوا مشاعر المتوجسين من أن يكون السماح للتدخل العسكري الأجنبي مدخلاً للسيطرة على النفط الليبي, فهل الثروة النفطية مهما بلغت أهم شأناً من دماء مواطني البلاد الذين لم يجنوا منها شيئاً سوى أن صارت أداة لتسهيل قمعمهم وأضطهادهم وإخضاعهم لأكثر من أربعين عاماً؟.
بالطبع لا أحد عاقل يتصور أن الدول الغربية المنخرطة بحماس في تنفيذ القرار الدولي بفرض منطقة حظر طيران وحماية المدنيين اللييبين تفعل ذلك لوجه الله, ولا أحد يجب أن يتوقع ذلك منها لأنها ليست مؤسسات خيرية, ولأن قواعد اللعبة ونواميس الكون في المدافعة لا تحرم السعي لجلب المنافع, ولا شك أنها إنما تفعل ذلك من أجل تحقيق مصالحها, ولكن ما المشكلة إذا تلاقت المصالح في لحظة ما, فللثوار الليبيون ايضاً مصلحة في هذه اللحظة بالتحديد من التدخل الدولي, وواحدة من أفات تفكير المنتقدين في منطقتنا أنهم يستنكرون على الغربيين أنهم لا يتحركون إلا وفق مصالحهم, وهو أمر طبيعي, والسؤال إذا كنا عاجزين عن إدراك مصالحنا والعمل من أجلها, فلماذا نلوم غيرنا إذا امتلكوا الوعي بمصالحهم وعملوا من أجلها, ولماذا نريد من الآخرين أن يخدموننا بإيثار إذا كنا لا نفعل ذلك من أجل أنفسنا؟.
ولأن النخب في المنطقة العربية مسكونة بهواجس وظنون مؤامرة خارجية مستديمة, تختبئ وراءها لتعفي نفسها من المسؤولية عن الانحطاط الذي نعيشه, فقد أدمنت الشكوى من التدخل الخارجي وجعلته مشجباً لكل نقيصة, مما يجعل الباب مفتوحاً دائماً لأن نكون دائماً مهيضي الجناح في خانة المفعول به مكتفين بلوم الفاعل على بؤس حالنا. وليس هناك من مؤامرة ولا يحزنون, بل هناك من هو مدرك لمصالحه ومجتهد لتحقيقها, وبين غائب عن الوعي بمصالحه وعاجز عن الفعل, منتظراً رحمات الآخرين أن تمطر عليه مجاناً دون أن يكلف نفسه مؤونة الاجتهاد.
وهناك الاتهام المكرور من أن هدف الغربيين من كل تدخل السيطرة على منابع النفط, وكأنهم محرمون من الحصول عليه, والواقع يقول إن النفط مجرد سلعة تجارية متاحة في الاسواق حسب قوانين العرض والطلب ولطلما اغتنت منه الدول التي تحظى بنصيب وفير منه, وليس هناك تهديد لتدفق الإمداد حتى تضطر الدول الغربية الأكثر استهلاكاً للنفط من التحرك عسكرياً لتامين استمرار تدفقه. فضلاً عن أنه ليس لدولة منتجة منفعة من حبسه عن الأسواق.
على أي حال من الواضح أن ثمة اعتبارات مهمة رافقت التدخل الغربي هذه المرة, فالغربيون استفادوا من تجاربهم السابقة حيث أدركوا ان التدخل بدون مصوغات موضوعية سيكرس الصورة الذهنية السلبية في الشارع العربي التي تشكلت في الماضي  ولذلك حرصوا أن يكون الطلب العربي واضحاً بهذا الشأن منعاً للالتباس.
والأمر الثاني أن الشعوب العربية باتت أكثر وعياً بمطلبها بالحرية التي سلبتها أنظمة طاغوتية جثمت على صدورهم لعقود ما زادتهم إلا وبالاً, ولم يعد ممكناً حصرها في خيار ضيق بالتخويف من التدخل الأجنبي أو الخضوع لأنظمة ديكتاتورية لا تعرف الرحمة ولا تتوانى عن إفناء شعبيها من أجل التشبث في السلطة, فالشعوب التي امتلكت الإرادة للتمرد على واقعها المظلم على أيدي حكام من بني جلدتها لم يراعوا فيها إلاً ولا ذمة, لن تعوزها الإرادة لمواجهة التدخل الأجنبي إن إراد استبدال قهر بقهر, ولم تعد الشعوب تنخدع بشعارات تطلقها الأنظمة التي يدركها الغرق تحاول عبثاً استدرار حميتها بالتخويف من حرب صليبية أو مطامع استعمارية, لقد استعادة الجماهير وعيها, وإرادتها وتصميمها على التحرر وعرفت طريقها ولن تستجيب مجدداً للدعاوى الزائفة.    

 Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]
 

 

آراء