جمال محمد أحمد: رائد دراسات ونقد خطاب ما بعد الاستعمار

 


 

 

ينظر دوماً عندنا إلى الغرب بوصفه مصدرا وحيدا للمعرفة ليس في علوم التقنية وحسب بل وفي العلوم الاجتماعية والانسانية أيضا. فنحن لا نثق إلا بالأفكار والمذاهب والمفاهيم التي ينتجها الغرب ويروج لها. فالفكرة مهما كانت بدهية لا تحظى عندنا بالقبول والتقدير إلا إذا زكّاها لنا مفكرو الغرب ومؤسساته التعليمية وروجت لها آلته الإعلامية والدعائية.
فمثلا كانت الكتابات والبحوث المناهضة للاستعمار التقليدي قد انطلقت قبل تصفيته بحقب طويلة، وبعد خروجه استمرت الاقلام في نقد سياسات ما بعد الاستعمار أو ما عرف بالاستعمار الجديد. ولكن الغرب لم يلتفت ولم يعترف بقيمة هذه الدراسات والبحوث إلا في اوائل ثمانينات القرن العشرين. وتحديدا بعد أن أصدر المفكر الأمريكي من أصل فلسطيني إدارود سعيد كتابه (الاستشراق) سنة 1978 واتبعه بالآخر المكمّل له "الثقافة والإمبريالية" 1993. ثم طفقنا نحن نردد من بعدهم بوعي أو دون وعي ما يقولون.
أذكر أنه عشية رحيل الطيب صالح في 2009 لفت نظري أنّ جل الذين كتبوا بمناسبة رحيله عن رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) كانوا يرددون في تكرار ممل مصطلح "النقد ما بعد الكولونيالي" وكأنّهم اكتشفوا فجأة شيئاً جديداً لم يكن معروفاً من قبل؛ وما ذلك إلا لأن نقد خطاب الاستعمار وما بعد الاستعمار كان هو (الموضة) الصاعدة آنذاك في الساحة النقدية العربية.
فقبل أن ينتقد إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) 1978 صورة الشرق في الذهنيّة الأوروبية ويصفها بأنّها صورة متخيلة ولا تمثّل الشرق الحقيقي. كان تحطيم العلاقة الوهمية بين الشرق والغرب، أقوى دوافع الطيّب صالح لكتابة (موسم الهجرة إلى الشمال) 1966.
يقول الطيب في حوار نشر سنة 1976 أي قبل صدور كتاب "الاستشراق" بثلاث سنوات،: "حينما فكرت في كتابة "رواية موسم الهجرة إلى الشمال" كانت تدور في ذهني فكرة العلاقة الوهميّة بين عالمنا للعربي الإسلامي والحضارة الغربية. إنّ هذه العلاقة تبدو لي من خلال مطالعاتي ودراساتي علاقة قائمة على أوهام من جانبنا ومن جانبهم. والوهم يتعلّق بمفهومنا عن أنفسنا أولاً، ثمّ ما نظنّ في علاقتنا بهم، ثمّ نظرتهم إلينا من ناحية وهمية".
وقبل أن يلتفت إدارود سعيد في كتابه (الثقافة والإمبريالية) 1993 إلى أهمية رواية (قلب الظلام) للروائي جوزيف كونراد في نقد خطاب الاستعمار في أفريقيا؛ كان الكاتب النيجيري اشنوا أشيبي أحد رواد الرواية الإفريقية، قد انتقد كونراد بحجّة أنّ روايته قلّلت من إنسانيّة dehumanized الإنسان الإفريقي، وصورته كأنّه بلا ثقافة وبلا ماضٍ ولا تاريخ. كان ذلك في محاضرة ألقاها أشيبي سنة 1975 بجامعة ماسوشيتس بعنوان:
“An Image of Africa: Racism in Conrad’s Heart of Darkness”
ونشرت فيما بعد بمجلة ماسوشيتس ريفيو سنة 1977 مع أننا لا نتفق مع أشيبي في كل ما ذهب إليه في نقده لكونراد الذي يكفيه أنه أول كاتب أبيض ينتقد بقساوة بشاعة وجشع الاستعمار الأوربي في هذه الرواية.
ولذلك جاء بمؤلف جامعة كمبريدج:
The Cambridge Companion to Postcolonial Literary Studies
"القول إن دراسات ما بعد الاستعمار، لم تبرز كحقل مستقل في الدوائر الأكاديمية إلا في نهاية السبعينات من القرن الماضي، لا يعني بأنه لم تكن هنالك قبل ذلك دراسات من هذا النوع، على العكس من ذلك، كانت هنالك ثروة هائلة من هذه الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية ذات النزعة القومية والكتابات الأدبية والنقدية المناوئة للخطاب الكولونيالي".
وهذا صحيح تماما. ففي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان هنالك فرانز فانون، وايمي سيزار، وسنغور، والشيخ انتا ديوب، وأنور عبدالملك، وجمال محمّد أحمد، وغيرهم، يعرضون رؤاهم وبحوثهم المغايرة للخطاب الاستعماري والاستشراقي والناقدة لنظرة الآخر الغربي لتاريخهم وثقافتهم. وفي مجال الإبداع الأدبي كان هنالك أيضًا ايمي سيزار، اشنوا اشيبي، نقوقي واسنقو، كمارا لي، آرماه، الطيّب صالح، إلخ.
ومن رواد هذه الدراسات الكاتب والمفكر السوداني جمال محمد أحمد (1915-1986) والذي لم يلتفت أحد إلى القيمة التأسيسية لكتاباته في هذا المجال رغم شهرته ومكانته. وهو عندي من المؤسسين الأوائل في أفريقيا والعالم العربي لما عرف فيما بعد، بنقد خطاب الاستعمار وما بعد الاستعمار أو دراسات ما بعد الاستعمار "Post-Colonial Studies".
لم يكن جمال محمد أحمد من السابقين وحسب إلى هذه الحقل المعرفي بل من السابقين إلى منهج البحث أيضا. فقد استخدم جمال ذات المنهج الذي استخدمه إدوارد سعيد فيما بعد. وكان جمال في كتابيه (مطالعات في الشؤون الإفريقية) 1968 و(وجدان إفريقيا)1972 اتخذ الأدب الإفريقي شعراً ورواية، مدخلاً لنقد الخطاب الكولونيالي ولقراءة الاتجاهات الفكرية في إفريقيا السوداء لمرحلة ما بعد الاستعمار.
يقول جمال عن هذا النهج: "أسعى لأرى الوجدان الإفريقي عبر كتابات شبابه"، وهو يتأسى في ذلك بالمؤرخ الايطالي نيكولا شايرومنتي، والذي يقول عنه: "جلس لعمالقة الرواية الحديثة ستندال، وتولستوي، ومارلو، وباسترناك، يدرس آراءهم في معنى التاريخ، وقدم لنا يفسر لم اتخذ كتاب الرواية مرجعاً، ولم يتخذ المؤرخون وهو عن صناعتهم يكتب، قال: كل عمل روائي كبير فيه رأي محدد، نظرة معينة للمجتمع، للتاريخ، للعالم، يغمره بعضهم في الأحداث والبناء الفني، ويفصح عنه البعض، لا يغمره. نجد الرأي والنظرة في بعض الروايات مشغولة بحذق بين طيات ما يقع وكيف يقع، ونجدها بعض الأحايين مشعلقة بغير عناية مكاناً ما آخر الرواية أو مبعثرة هنا، وهنالك" – وجدان أفريقيا، المقدمة.
وهذا هو ذات المنهج الذي استخدمه ادوارد سعيد في دراسة الخطاب الكولونيالي وأدب ما بعد الاستعمار في كتابه (الثقافة والامبريالية) 1993، الذي شكل منطلقاً لما عرف بنقد خطاب ما بعد الاستعمار Post-Colonial Criticism فقد وظف سعيد في هذا الكتاب الرواية أساساً لبحثه، حيث يقول سعيد:
"تناولت بشكل خاص الرواية التي أعتقد أنها كانت هامة للغاية في صياغة وجهات النظر والإحالات والتجارب الامبريالية، لقد تم التركيز في النقد المعاصر على السرد الروائي ولكن الدور الذي تلعبه الرواية في تاريخ العالم الامبريالي لم يعط الانتباه الكافي، لذلك يلاحظ القارئ منذ البداية أن الرواية تشكل منطلقاً حاسماً لوجهة نظري، فأنا أنظر إلى القصص تتضمن مغزى ما يود المستكشفون والروائيون قوله عن مناطق العالم التي كانت غريبة عليهم، كما تمثل القصص في ذات الوقت وسيلة تستخدمها الشعوب المستعمرة للتعبير عن هويتها الخاصة وتاريخها الخاص". – الثقافة والإمبريالية، المقدمة.
وهكذا فقد مارسَّ جمال نقد ما بعد الاستعمار قبل أن يظهر المصطلح إلى حيز الوجود. وكان جمال، قد كتب عن شنوا اشيبي ونقوقي وكمارا لي وغيرهم، وهم لا يزالون في بداياتهم الأدبية وتنبأ بالمستقبل الأدبي العظيم الذي ينتظرهم وقد صدقت نبوءته. قال عن الكاتبين، الكاميروني، كمارا لي والنيجيري اشنوا اشيبي:
"كثيرون هم الذين رأوا القارة بعين جديدة، لكني أرجو أن تهب ساعة من وقتك لهذه القصة التي قرأتها أنا في صمت مرة وقرأتها بصوت عال مرة ثانية أتملى حسن بيانها الرائع (طفولة زنجي) تثير فيك الرضا الذي أثارته "الأيام" على بعد ما بين القصتين والكاتبين، تجمعهما روعة العمل الفني المخلص".
ويصف جمال النجاح الكبير الذي قوبلت به الرواية في هذا السياق: "كتب جيمز كيركب، الشاعر الانجليزي العَلْم، يقدم طفولة زنجي، فقال: إنها قصة واضحة، دافئة، تأخذ بيدك وعقلك وقلبك تواً لجوهر الأمر، تجمع بين الوضوح البهي الذي يميز الفرنسية فكراً ولغة، والحرارة التي لا يستطيعها إلا القلب الإفريقي"، ولا عجب أن تقذف هذه القصة بكمارا لي، إلى المكانة الأولى بين روائيي إفريقيا الذين يكتبون بالفرنسية، مكانة لا تنافسها إلا مكانة شنوا اشيبي الذي يكتب الآن بالانجليزية في نيجيريا، نفدت قصتاه الآن ولم تنشر أولاهما إلا عام 1958 وأعيد طبعهما عام 1962". – مطالعات ص 64.
كذلك يصف جمال القبول الذي حظيت به رواية (وتداعت الأشياء) لدى نقاد الأدب الإنجليز بقوله: "قال انقس ولسن، وهو من تعرف دوره في الرواية الانجليزية المعاصرة: أنا أتطلع لقراءة قصته القادمة، قالها بعد أن قرأ (وتداعت الأشياء) وليتني عرفت الذي قال حين صدرت قصة شنوا اشيبي الأخيرة (واستحال أن نطمئن) ولم تكن إلا تممة لسابقاتها فالأشخاص هم هم إلا الأقلين، وهم يحيون الحياة الأوربية، كالمحراث تقلب الأرض وجهاً لقفا، وتحيل الحياة الوادعة العاجزة إلى أخرى ذات اقتدار وقلق ورفاه وضيق". - مطالعات ص 64.
هناك مسألة أخرى التفت إليها جمال محمد أحمد باكرا وبوعى تام. وهي حقيقة الامتزاج والتداخل بين الثقافات العالمية والأجناس والأعراق بحيث يتعذر الحديث عن نقاء عرقي أو ثقافي. وهو ما وصفه سعيد في (الثقافة والإمبريالية) بالهجنة hybrid أو الخلاسية الثقافية والعرقية والتي يطرحها ترياقاً للتعايش السلمي والاعتراف المتبادل بين الثقافات والشعوب.
ذات مرة سأل الصحفي المصري مفيد فوزي جمالاً: ما هو أسخف سؤال مر بك؟
فأجابه جمال: "هذا السؤال السمج هل السودان عربي أم إفريقي؟ وكنت أقول لعل عبقرية السودان تكمن في محتوى السؤال".
ونحن نرى أن مصدر السخف الذي يراه جمال في السؤال، يكمن في أن سائله يذهل عن "عبقرية" المكان وخصوصيته، وذلك لكون السائل يفترض الإجابة بأحد الخيارين: إما هذا، وإما ذاك! ولا يترك مجالا للنظرة الديالكتيكية التي تجمع بين الخيارين.
ويقول الطيب صالح في ذلك عن جمال: "كان بين مثقفي الإنجليز كأنه واحد منهم، وبين مثقفي إفريقيا كأنه واحد منهم. وكان عاشقاً للعروبة، جمع جمال كل هذه الصفات التي تبدو متناقضة بلا أدنى جهد أو مشقة فقد كانت شخصيته خالية تماماً من التوتر والعنف".
وانطلاقاً من ذلك كان جمال يكتب في صمت العلماء في التعريف بهذا التشابك وربط الوجدان السوداني بالوجدان الإفريقي، كتب (مطالعات في الشؤون الإفريقية) عن الأدب الإفريقي الحديث في تعبيره عن تطلعات وأشواق الإفريقي وقد صدر عن دار الهلال بمصر سنة 1968م.
وكتب (وجدان إفريقيا)1972 وهو كتاب في الأدب الإفريقي والأديان في إفريقيا وكيفية تعايش الإسلام والمسيحية مع الديانات والمعتقدات الإفريقية المحلية. وكتب (في المسرحية الإفريقية) و(سالي فو حمو) وهو مجموعة نصوص مختارة في الأدب الشعبي والحكايات والأحاجي الإفريقية، وكتب (عرب وأفارقة)1977 في العلائق السياسية بين الدول العربية شمال الصحراء وبقية دول إفريقيا. وترجم عن بازل ديفيدسون (إفريقيا تحت أضواء جديدة) وغيرها من المؤلفات والترجمات.
ولد جمال محمد أحمد بقرية سرة شرق بمنطقة وادي حلفا بأرض النوبة أقصى شمال السودان، تخرج من كلية غردون بالخرطوم سنة 1936 وعين فور تخرجه مدرساً بمعهد بخت الرضا للتربية والتعليم حيث شارك في وضع المناهج الدراسية التي أعدها المعهد للتعليم العام بالسودان، وفي ذات السنة تولى سكرتارية مؤتمر الخريجين للحركة الوطنية لمناهضة الاستعمار الانجليزي.
ابتعث إلى انجلترا سنة 1943 لإكمال تعليمه الجامعي بكلية اكستر وبعد عودته عمل مدرساً للتاريخ واللغة الانجليزية بالمدارس الثانوية حيث تتلمذ على يديه الطيب صالح بمدرسة وادي سيدنا بأم درمان، وفي ذات السنة ساهم في تأسيس دار النشر التربوي وإصدار مجلة الصبيان. عين سنة 1949 مراقباً لشؤون الطلبة (عميد طلاب) بكلية الخرطوم الجامعية(جامعة الخرطوم).
وفي عهد حكم نميري عين سفيراً بلندن ثم سفيراً متجولاً فوزير دولة ثم وزير خارجية ثم مديراً لمعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها، ثم رئيساً للمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون. اختير عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة وظل به حتى وفاته. ترأس اتحاد الكتاب السودانيين عقب انتفاضة ابريل 1985 وظل يشغل المنصب حتى وفاته في 1986.

abusara21@gmail.com
///////////////////////////

 

 

آراء