جنوب كردفان فوق صفيح ساخن

 


 

 



أعلنت المفوضية القومية للانتخابات في يوم الأحد الماضي «15 مايو» نتيجة انتخابات جنوب كردفان لمنصب الوالي والمجلس التشريعي المحلي، وقد تأجلت الانتخابات في الولاية منذ أبريل 2010م، لأن الحركة الشعبية انسحبت منها معترضة على نتيجة التعداد السكاني الذي قالت إنه أنقص عدد سكان الولاية كثيراً، واتضح أنها محقة في دعواها، فقد زاد عدد السكان بمليون شخص تقريباً في التعداد الثاني الذي أجرت على أساسه الانتخابات الحالية. وجاءت النتيجة بفوز مرشح المؤتمر الوطني أحمد هارون بفارق «6.500» صوت من مرشح الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو، وحصل المؤتمر الوطني على «22» دائرة جغرافية مقابل «10» دوائر للحركة الشعبية، وتقاسم الحزبان المقاعد النسبية للمرأة والأحزاب «سبعة لكل منهما في قائمة المرأة وأربعة لكل منهما في قائمة الأحزاب». واعتبرت هذه النتيجة كسباً مقدراً للمؤتمر الوطني. ولكن هل استحق المؤتمر الوطني هذه النتيجة بكثرة المصوتين له في أنحاء الولاية أم بعدم توازن حجم الفوز لكل طرف في الدوائر الجغرافية المختلفة؟ وبالإضافة لوجود مرشح ثانٍ محسوب على الحركة في منصب الوالي هو تلفون كوكو المعتقل لدى الجيش الشعبي في جوبا. وقد خاضت الحركة الانتخابات بصورة قوية في كل مراحلها منذ بداية التسجيل إلى أن ظهرت النتائج في مراكز الفرز المختلفة، وتغيبت فقط عند المرحلة الأخيرة، وهي رصد ومطابقة النتائج التي وردت من مراكز الفرز المختلفة، وقد شهدتها كل الأحزاب الأخرى المنافسة مع المراقبين المحليين والدوليين في قاعة منظمة الهجرة الدولية بكادوقلي بقصد المزيد من الشفافية. بل أن الحركة تعجلت وأعلنت فوزها في الانتخابات قبل الإعلان الرسمي لنتيجتها، مما يعني قبولها بمراحل العملية الانتخابية واطمئنانها إليها. ولكن صعب على الحركة وقع الهزيمة، بعد أن اتضحت معالمها في اللحظات الأخيرة، فأعلنت أن الانتخابات مزورة ولن تعترف بها أو تشترك في حكومة تشكل على أساسها، وستقاومها بكل الوسائل السلمية والديمقراطية، ولكن شهادات المراقبين المحليين والدوليين جاءت بغير ما تقول به الحركة من تزوير.
فقد أشاد المنتدى المدني القومي الذي نشر أكثر من «600» مراقب في مراكز الانتخابات بالولاية، ويترأسه الدكتور حسن عبد العاطي الذي عُرف بعدم استلطافه الشديد لحكومة الإنقاذ، فقد فصلته من جامعة الخرطوم في بداية حكمها الشمولي، أشاد المنتدى في مؤتمره الصحفي «12/5» بالأداء الذي اتسمت به العملية الانتخابية، وأنها تمت في هدوء وتحلت بالمسؤولية رغم بعض الخروقات التي لا تقدح في نتيجة الانتخابات ونزاهتها بصفة عامة، وقال إن أداء المفوضية اتسم بالشفافية. ولم يكن مركز كارتر بأقل وضوحاً من المنتدى المدني، فقد وصف العملية الانتخابية بأنها كانت سلمية ولها مصداقية رغم بعض المخالفات الإجرائية، وأن التصويت والفرز ومطابقة النتائج تمت بصورة غير حزبية وشفافة تحت تدقيق مكثف من الأحزاب المتنافسة. وفي تقديري الشخصي أن المؤتمر الوطني لو أُتيحت له فرصة التزوير لما قنع بهذا الفرق الضئيل بينه وبين الحركة، وانتخابات أبريل خير شاهد على ذلك! وإن فات على الحركة أن تفوز بنتيجة الانتخابات فلا ينبغي أن يفوتها تحمل نتيجتها بروح ديمقراطية سمحة، فليس من مصلحتها ولا مصلحة الولاية بل ولا مصلحة السودان أن تدخل جنوب كردفان في نزاع أو اشتباك جديد يعيد سيرة الحرب المدمرة مرة ثانية لأهل المنطقة الذين عانوا كثيراً في العقدين الماضيين، وستكون الحركة هي المسؤول عن إشعال فتيل الحرب هذه المرة دون وجه حق. ولكن هل حقيقة خسرت الحركة أصوات الناخبين في الولاية؟ إن الرصد الدقيق للأعداد يقول بغير ذلك.
لقد خسر عبد العزيز الحلو مقعد الوالي بـ «6500» صوت أمام منافسه أحمد هارون، في حين حصد زميله المنشق عن الحركة تلفون كوكو «9130» صوتاً مما يعني أنه لولا اقتسام أصوات الحركة بين مرشحين لكسبت السباق في مقعد الولاية بأكثر من «2500» صوت. ومن الغريب أن قيادة الحركة لم تسعَ لرأب الصدع في حينه، بل زادت الشقة باستمرارها في اعتقال تلفون كوكو حتى الوقت الحاضر! أما الفرق الكبير في الدوائر الجغرافية «22 للمؤتمر و 10 للحركة» فسببه أن الحركة فازت في مناطق تأييدها بالمنطقة الشرقية والجنوبية «أم دورين، هيبان الشمالية والوسطى والجنوبية، برام الشمالية والجنوبية، سلارا، هبيلا» بفارق كبير في الأصوات قد لا يقل عن الأصوات التي نالها المؤتمر الوطني في دوائره الـ «22». أما في القوائم النسبية فقد تفوقت الحركة الشعبية على المؤتمر بحوالي سبعة آلاف في قائمة المرأة وبتسعة آلاف في القائمة الحزبية «غياب تلفون كوكو في القوائم النسبية جاء لمصلحة الحركة الشعبية»، مما يعني في الحساب الإجمالي أن عدد المصوتين للحركة الشعبية في جنوب كردفان كان أكبر من أولئك الذين صوتوا للمؤتمر الوطني ولو بعدد قليل. والحقيقة أن التصويت للقائمة النسبية يعكس تأييد الناخبين للحزب أكثر من التصويت للمرشح الفرد الذي تدخل فيه عوامل كثيرة. وهذه الأعداد تعني أن المؤتمر الوطني كسب الانتخابات لا لتفوق أصواته على الحركة، ولكن نتيجة لكثافة أصوات الحركة في مناطق محدودة هي شرق وجنوب كادوقلي، ولترشيح تلفون كوكو منافساً لعبد العزيز الحلو وسط مؤيدي الحركة. وقد خاض المؤتمر الوطني معركته الانتخابية في جنوب كردفان بكافة أسلحته الثقيلة من أموال ضخمة، ودعاية مكثفة ومشروعات تنموية بدأت قبيل الانتخابات، ومخاطبات سياسية من أعلى قيادات الجهاز التنفيذي، ووعود خلب بكل ما يشتهيه أهل الولاية من تعليم وصحة وطرق وتنمية وولاية جديدة «لن يتم الالتزام بها!»، ومع كل ذلك لم يستطع المؤتمر أن يتجاوز كسب الحركة الشعبية بين الناخبين.
وينبغي للحكومة في أعقاب هذه المعركة الانتخابية الشرسة، أن تقرأ بوعي وعقل مفتوح خريطة المشكلات الحالية في السودان عامة وفي جنوب كردفان على وجه الخصوص، لأنها تنذر بشر مستطير، فالولاية التي فرح المؤتمر الوطني بكسبها في الانتخابات، هي في الحقيقة منقسمة على نفسها تماماً سياسياً وعرقياً وجغرافياً وعسكرياً «لكل طرف قواته في المنطقة»، ولا يمكن للمؤتمر الوطني أن يحكم هذه الولاية منفرداً مهما فعل، فهي تحادد ثلاث ولايات جنوبية «أعالي النيل والوحدة وشمال بحر الغزال»، كما أنها تضم قنبلة أبيي في جنوبها التي بدأت تتفجر في الأيام الماضية. ولا خيار للمؤتمر الوطني سوى أن يقتسم السلطة التنفيذية مناصفةً بينه وبين الحركة الشعبية، «وهذا يعني أن تصدر قرارات الوالي في القضايا المهمة بالاتفاق مع نائبه من الحركة الشعبية»، وأن يتبنى الطرفان برنامجاً تنموياً مشتركاً للولاية خلال السنوات الأربعة القادمة، وأن يتفقا حول نتائج المشورة الشعبية التي ستقدم للحكومة المركزية عبر المجلس التشريعي، بعد أن تكتمل إجراءات تجميع الرأي حولها. وعلى الحكومة المركزية أن تأخذ مطالب المشورة الشعبية بجدية كاملة وتضع برنامجاً واقعياً لتنفيذها. وأظن أنه من مصلحة الحركة الشعبية أن تستجيب لدعوة المشاركة في السلطة، فقد تحقق عن طريقها لأهل الولاية أكثر مما تحققه لو أنها فازت في الانتخابات وحكمت منفردة، فهي في هذه الحالة تضيف قوة المؤتمر الوطني إلى قوتها

 

آراء