جوته: في مفهوم كلمة “الإسلام” والتناص مع القرآن

 


 

 

مدخل:
"الحكيم الحقيقي أندر من الشاعر الحقيقي، وإذا اجتمعت الملكتان: ملكة الحكمة وملكة الشعر في إنسان، فإننا نحصل على الشاعر العظيم. والشعراء الذين على هذه الشاكلة لا ينتمون إلى بلدانهم وحسب بل إلى العالم أجمع..، وقد كان جوته واحداً من أحكم الرجال وكان شاعرا غنائيا عظيما..، دانتي وشكسبير وجوته، أعظم الشعراء في لغاتهم".
ت. س. إليوت، من مقاله: (جوته حكيماً)1955.
*
ومن علامات حكمة جوته إيمانه بوحدة الأديان. الأديان كما يراها في أصلها وفي جوهرها وفي غايتها واحدة، وإنما الاختلاف في لغة التعبير عن هذا الجوهر وتلك الغاية بين دين وآخر.
وهذا الأصل الواحد والجوهر الواحد للدين يطلق عليه جوته ـ"الظاهرة الأولية" للدين. فهو يرى أن الأديان كلها على اختلافها ليست هي إلا تحقيق لهذه الظاهرة الأولية. فلننظر إذن إلى الأديان المختلفة نظرتنا إلى أنواع النبات المختلفة. أي أن نحاول أن ندرك في كل منها الظاهرة الأولية للدين وليست تعنينا بعد الصور المختلفة التي تظهر بها في كل دين من الأديان، والأسماء التي يطلقها عليها أصحاب كل دين". بدوي ص32
وغاية الدين وجوهره هو ان يخلق فينا الشعور بالسلام الداخلي. ومتى ما "وجدتَ النعيم في هذا الشعور، فأطلق عليه ما تشاء من أسماء. سمه السعادة، القلب، الحب، أو سمه الله! فليس لثمة هذا من اسم. فالشعور هو كل شيء. وما الاسم إلا ضوضاء، وبخار قاتم يحجب بالظلمة نور السماء"..
وهذا الشعور بالسلام الداخلي يقودنا إلى "التسليم". ففي "أعماق أرواحنا الطاهرة تجيش رغبة قوية أن نسلم أنفسنا، مختارين طائعين، يحدونا الحمد والشكر، لموجود غير منظور أعلى وأطهر. وهذه هي التقوى". وهي "الحب، رغبة المتعدد أن يفنى في الواحد، ونزوع النسبي أن يغرق في المطلق. وهي الشوق إلى الاتحاد بعد الابتعاد، والاتصال بعد الانفصال". بدوي ص 32-33.
وحتى العقيدة الواحدة تتخذ، في نظر جوته، صوراً مختلفة باختلاف طباع الأفراد وطرائق تفكيرهم. إذ ليس الإيمان "سوى وعاء مقدس يضع فيه كل واحد منا حسب طاقته، ما يستطيع أن يضحي به من مشاعره وعقله وقدرته على التصور". مومزن ص 187.
وكان جوته قد بسط أفكاره ونظراته عن الدين والتدين في كتاب سيرته الذاتية المعنون: (شعر وحقيقة). ويلخص جوته موقفه من الأديان في حديث له في موضع آخر بقوله: "ليست الدعوة الدينية من شأني، ولكن كنت أبحث دائما وبكل إخلاص عن الوحدة الدينية". بدوي ص 35.
ويعبر جوته عن هذه "الوحدة الدينية" بكلمة "الإسلام" بمعنى التسليم بمشيئة الله، وإن اختلفت العقائد. يقول في رباعية بكتاب (الحِكَم) من (الديوان الشرقي):

من حماقة الإنسان في دنياه
أن يتعصب كل منا لما يراه
وإذا كان الإسلام معناه التسليم لله
فعلى الإسلام نحيا ونموت أجمعين.

ويؤكد جوته هذا المعنى بالتعليقات والأبحاث المصاحبة للديوان الشرقي في حديثه عن كتاب (الأمثال) من (الديوان الشرقي) حيث يقول:
"تعبر هذه الأمثال عن الأحكام والتصاريف الرائعة التي تفضي إلى الحكمة الإلهية التي تستعصي على الإدراك والتفسير، لأنها تلقن وتؤكد معنى الإسلام الصحيح، أعني التسليم المطلق بمشيئة الله، والإيقان بأنه لا يمكن لأحد أن يفلت من المصير المكتوب له". بدوي ص 249
ونحن نرى أن هذا المعنى العام لكلمة "الإسلام" يؤيده القرآن. فهناك الكثير من النصوص القرآنية التي تؤكد هذا الفهم الذي ذهب إليه جوته. ونكتفي هنا بايراد بعض الآيات الدالة على ذلك. في الآيات التالية يصف القرآن الكريم إبراهيم ويعقوب واسحاق واسماعيل وذريتهم أنهم مسلمين جميعا. يقول تعالى:
(وإذ يرفع إبراهيمُ القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم* ربنا اجعلنا مسلِمَين لك ومن ذريتنا أُمةً مسلمةً لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم* ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم* ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة من الصالحين* إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمتُ لرب العالمين* ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنِيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون* أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوبَ الموتُ إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله أبائك إبراهيم واسماعيل واسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون). 127 -133
ويقول تعالى في سورة النمل: (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت ربِّ إني ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سليمان لله رب العالمين). الآية - 44.
وكذلك يصف القرآن الكريم أتباع المسيح عيسى بن مريم أنهم مسلمين. يقول تعالى:
(فلما أحس عيسى منهم الكفر، قال من أنصاري إلى الله، قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون). آل عمران – الآية 52.
هذا المعنى العام للإسلام كان حاضرا على الدوام في ذهن جوته حينما يعبر عن تعاطفه العميق مع الدين الإسلامي بالمعنى الخاص. فعند قرب صدور (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) نشر جوته سنة 1816 إعلانا بجريدة (الصباح) لإعطاء فكرة عن الديوان جاء فيه:
"الشاعر هنا يصور نفسه على هيئة رحالة. وها هو ذا قد بلغ الشرق. وهو يريد أن يتملى بعوائد الشرق وأحواله. وما به من موضوعات خاصة تميزه. وما شاعت فيه من أفكار دينية وأراء..، وأنه لا يكره أن يقال عنه مسلم..، ومن هذه الأحوال نسج الشاعر موضوعات قصائده". بدوي ص 57
عبارة: "لا يكره أن يقال عنه مسلم" فيها استباق، كما نرى، للرد على من سوف يظن أن الشاعر بتعاطفه في الديوان مع الديانة الإسلامية ونبيها وكتابها وتمجيده للغة العربية والشعر العربي، قد أصبح مسلماً. فأراد جوته أن يبادر من يرى ذلك بالقول انه لا يخشى من هذا الوصف. وذلك تأكيداً لثقة الشاعر في نفسه وتعبيرا على اعتداده بمواقفه المتسامحة مع الأديان والملل الأخرى.
هذا وجه للعبارة، والوجه الآخر فيما نرى يمكن في فهم جوته العام لكلمة "إسلام". فهو يفهم "الإسلام" كما رأينا بأنه التسليم لله والإذعان لإرادته ومشيئته. وبهذا المعنى عنده أن كل اتباع الديانات الكتابية الثلاثة بل واتباع جميع الأديان من لدن آدم، مسلمون!

التناص مع القرآن:
تقول كاتارينا مومزن إن جوته كان يقدر القرآن الكريم تقديرا ساميا وكانت معرفته بالقرآن بعد الكتاب المقدس أوثق من معرفته بأي كتاب من كتب الديانات الأخرى. وتقول لم يقتصر اهتمام جوته بالإسلام وتعاطفه معه على مرحلة معينة من حياته بل كانت ظاهرة تميزت بها كل مراحل عمره الطويل". ص177
وقد وصف جوته القرآن بقصيدة من قصائد (الديوان الشرقي) بأنه "كتاب الكتب". وقال في "التعليقات والأبحاث" الملحقة بالديوان الشرقي وصف أسلوبه: ".. وأسلوب القرآن يتفق مع مضمونه وغرضه: محكم سامٍ، يثير الدهشة، وفي مواضع عديدة يبلغ قمة السمو حقاً..". بدوي ص391-393
فلا عجب إذاً أن يقتبس جوته في قصائد (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) العديد من الآيات القرآنية ويتناصص معها. ففي كتاب (المغَنِى) من الديوان يقول في مطلع قصيدة (تمائم):

لله المشرق
ولله المغرب
الأرض شمالاً والأرض جنوبا
ترقد آمنة
ما بين يديه.

واضح أن الشاعر يشير بذلك إلى قول الله سبحانه وتعالى بسورة البقرة: "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمَّ وجه الله إن الله واسع عليم". الآية - 115.
وكان جوته كما تقول مومزن، قد اطلع على ترجمة هذه الآية بمجلة "كنوز الشرق" التي كان يصدرها المستشرق "يوسف فان همر" وكان قد اختار هذه الآية شعارا للمجلة. وفي الرباعية الثالثة من القصيدة نفسها يقول جوته:

كاد الضلال أن يصيبني
لكنك تعرف كيف تهديني
فإن أقدمت على عمل أو أنشدت شعرا
فأنر أنت لي جادة الطريق.

ولا يخفى ان الشاعر يتناصص هنا مع الآية القرآنية من سورة الفاتحة: "اهدنا الصراط المستقيم، صلاة الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين".
وعبارة الشاعر "انير لي جادة الطريق" هي ترجمة لقوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم". وفي قصيدة (خاطر حر) بكتاب المغَنِي بالديوان الشرقي، يقول جوته بالرباعية الثانية والأخيرة:

هو الذي جعل لكم النجوم
لتهتدوا بها في البر والبحر
وتتملوا آياتها الحسان
وتتطلعوا دائما إلى السماء.

واضح ان الشاعر أخذ قوله مباشرة من قوله تعالى: "وهو الذي جعل لكم النجوم لتهدوا بها في ظلمات البر والبحر، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون". – الأنعام- الآية 98.
وكان المستشرق "فون همر" قد صدر بهذه القرآنية بحثا بعنوان: (النجوم عند العرب) نشرة بمجلة (كنوز الشرق).
وفي قصيدة من قصائد (الديوان الشرقي) يستلهم قوله تعالى: "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها". البقرة – الآية 26. فيقول:

لِمَ لا اتخذ من الأمثال ما أشاء
والله نفسه
قد ضرب مثلا من البعوضة رمزا للحياة.
لِمَ لا اتخذ من الأمثال ما أشاء
والله يتجلى لي
في عيون حبيبتي.

مصادر ومراجع:
1- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، ترجمة عدنان عباس، مراجعة د. عبد الغفار مكاوي، سلسلة عالم المعرفة، رقم 194، الكويت، فبراير 1995
2- عبد الرحمن بدوي، جيته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة وتقديم، المؤسة العربية للدراسات والنشر. (صدرت الطبعة الأولى عن دار النهضة العربية، القاهرة، سنة 1967 ).
3- عبد الغفار مكاوي، جوته: النور والفراشة- مع النص الكامل للديوان الشرقي للشاعر الغربي، ترجمة وتقديم، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2006.
4- المختار من نقد ت. س. إليوت، الجزء الثاني، اختيار وترجمة وتقديم: ماهر شفيق فريد، تصدير جابر عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000

عبد المنعم عجب الفَيا
24 يناير 2023

abusara21@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء