“حرية سلام وعدالة”- ملامح رؤية لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي اجتماعي للدولة السودانية الحديثة! (3)

 


 

 

(3 من .. )

اطروحة
تواجد قدر من اليقين بما هو آتي في المستقبل في الحياة في المحيط الإجتماعي المباشر، وفي ما بعد الحياة، يعتبر من الرغبات الأساسية عند الإنسان. ويعبر الإنسان عن هذه الرغبة، تطلع وفعل الإنسان الدائم في الحياة، لإحقاق وللحصول علي موثوقية وعلي الإحساس بالثقة في المجتمع الذي يعيش فيه، وفي نشاطه الدؤوب لتقليل المخاطر في وعلي حياته، وجعل المجهول أو ما يصعب التنبؤ به محدوداً في حياته. لذلك تعتبر رغبة إحقاق والحصول علي اليقين والموثوقية في الحياة، من المكونات النفسية الأساسية، التي تحدد مقدار التحيز والدفع الي الفعل من اجل تحقيق شروط حياة آمنة وميسرة، في ظل شروط واطر قانونية وسياسية واقتصادية إجتماعية مستدامة!!

في الجزء الأول من هذه الورقة، والمنشور في هذا الموقع بتاريخ 14.03.2023 تم الانطلاق من العلاقة المباشرة بين الأوضاع السياسية والاقتصادية والإجتماعية المتأزمة، ووقوف الدولة السودانية علي حافة الانزلاق الي حالة "الدولة الفاشلة" وبين فشل الصفوة السياسية بتوجهاتها السياسية المختلفة – الإسلاموي والمحافظ التقليدي والثوري التقدمي منها – علي التوافق علي رؤية ترتكز علي القيم والمبادئ الكونية للإنسان كجوهر لدستور ديموقراطي واقتصادي إجتماعي دائم للدولة السودانية بعد نيلها للاستقلال السياسي.
وفي الجزء الثاني، والمنشور ايضاً في هذا الموقع بتاريخ 19.03.2023 تم باقتضاب شديد، توضيح للقناعات السياسية والإجتماعية، التي بنيت قوي الثورة والتغيير الديموقراطي عليها نضالها التاريخي، من اجل تأسيس دولة سودانية مدنية ديموقراطية تعددية ونظام اقتصادي إجتماعي. وعلي هذا السياق تم مواصلة رصد لما جاء في الجزء الأول من مفاهيم وملامح لرؤية لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي لدولة سودانية مدنية ديموقراطية تعددية حديثة.
وفي هذا الجزء الثالث يتم ارتباطاً بهدف الفعل السياسي لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي، عرض لبعض المبادئ الأساسية للسياسة الديموقراطية التعددية والاقتصادية الاجتماعية.

الفعل السياسي لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي
تاريخ نضال قوي الثورة والتغيير الديموقراطي مرتبط بفكرة الدولة المدنية الديموقراطية التعددية والنظام الاقتصادي الإجتماعي، والتي تهدف إلى خلق مجتمع الأحرار والمتساوين. وارتبط بهذه الفكرة مفهوم تحقيق الديموقراطية التعددية بضرورة تأسيس نظام للدولة وللاقتصاد وللمجتمع، والذي فيهم يتم الضمان لكل البشر في: حق المواطنة، والحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والحق في حياة من غير استغلال واضطهاد وعنف، أي العيش في أمان إجتماعي وإنساني. في هذا السياق يجب أن تظل الديموقراطية التعددية والنظام الاقتصادي الإجتماعي لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي رؤية لمجتمع حر عادل ومتضامن ومتكافل، وتحقيقها واجب وعمل مستمر. في ذلك يجب أن تظل مبادئ فعلها السياسي: أولوية السياسية علي الاقتصاد، والاستدامة في النظام الاقتصادي الإجتماعي، والسياسة الاجتماعية.

مبدأ أولوية السياسة علي الاقتصاد
في تحقيق الديموقراطية التعددية والتضامن والتكافل الإجتماعي في نظام اقتصادي إجتماعي بهدف خلق مجتمع من مواطنين ومواطنات أحرار ومتساويين في الحقوق والواجبات، علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي وضع الاقتصاد تحت أولوية السياسة الديموقراطية، ورفض وضع السياسة تحت الإملاءات الاقتصادية. تثبيت واستدامة هذا المبدأ في المجتمع ستوجب فهم عريض للسياسة. والمعني هنا بالفهم العريض للسياسية: هو عدم حصرها في الفعل السياسي علي الدولة، بل ايضاً ضم الافعال والمخرجات السياسية لمنظمات ولتحالفات المجتمع المدني، وشبكات العمل المشترك، وأيضاً الفعل السياسي الحر للناس. تحت هذا الفهم والعمل علي اساسه تستطيع قوي الثورة والتغيير الديموقراطي خلق الشروط السياسي والاجتماعية لمنع تحول السياسية إلى مجرد سلعة، والقانون والأمن والتعليم والصحة والثقافة والبيئة الطبيعية الي سلعه للتداول.
عبر تحقيق هذه الاهداف السياسية الاجتماعية واستدامتها، تبرهن الديموقراطية قادرتها علي تمكين المواطنين علي الحصول علي السلع العامة والأمن والعدالة القانونية والإجتماعية. وعبر نهجها لهذه السياسية الاجتماعية تبرهن قوي الثورة والتغيير الديموقراطي ايضاً تأهيلها وقدرتها علي تحمل المسؤولية السياسية في عملية تأمين الحاضر والمستقبل للمواطن، وتجعل تواجد فرصة عادلة في الحياة لكل مواطناً ومواطنة أمراً ممكناً. لذلك، ومن اجل تأمين الحصول علي السلع العامة، والتي تمثل الاحتياجات الاساسية للحياة، يجب إن لا يترك انتاجها وتوزيعها للسوق، خصوصاً في الظروف الاقتصادية المتأزمة، وارتفاع معدل العطالة، وضعف مستوي الدخل عند الغالبية العظمي من الشعب السوداني، وفي وضع يتزايد فيه ضمور المصادر الطبيعية –تصحر وجفاف- في البلاد.
مبدأ وسياسة وضع السوق تحت اولوية السياسية الديموقراطية لا يعني القاء إلغاء السوق. السوق أثبت منذ تاريخ البشرية علي أنه وسيلة ضرورية، وانه يمثل الوسيلة الأكثر فعالية من أي أشكال تنسيقية اقتصادية أخرى. لكن ترك السوق من غير رغيب وضوابط معلومة للمشاركين في مجتمع يسود فيه اقتصاد علي "أساس التقسيم في العمل"، له اثار إجتماعية وبيئية سلبية. من الثوابت الاقتصادية - النظرية والتجريبية - لا يستطيع السوق تلقائياً القيام بصنع وتوزيع السلع العامة بالمقاييس المطلوبة - لا إجتماعيا ولا لفائدة التطور الاقتصادي الكلي. من أجل أن يعطي السوق فعاليته الاقتصادية الإيجابية للفرد والمجتمع، يحتاج إلى أسس وقواعد واضحة ومعلنة، والي دولة قادرة على تقرير وتنفيذ عقوبات، والي قوانين فعالة، وعملية تسعير عادلة، وكذلك الي تنافس كافي بين المنتجين والبائعين.

مبدأ الاستدامة في نظام اقتصادي إجتماعي
نسبة لتحديات القرن الحادي والعشرين المتعددة، والتي تمثل فيهم التداعيات السياسية والاجتماعية للعولمة ولأزمة المناخ الأكثر أهمية، اتفق العلم والسياسة علي أن الاستدامة في العملية الانتاجية وفي السياسية الاقتصادية الاجتماعية هي المبدأ الوحيد والأساسي والمسؤول لأي فعل سياسي واقتصادي في الحاضر وفي المستقبل. ويعني هناء مبدأ الاستدامة: بداية التفكير من المستقبل؛ مقاومة مفهوم أولوية المدي القريب وهيمنة الاقتصاد بمفهوم تعظيم الربح؛ تشكيل السياسة من فكرة المجتمع والتعددية الديموقراطية ومتانة البيئة والاندماج الإجتماعي والمشاركة الثقافية. في العملية الانتاجية يرتبط تحقيق مبدأ الاستدامة بتوافق مجتمعي سياسي عريض حول كيفية اشباع الرغبات والمتطلبات الحياتية للأجيال الحالية، من غير سلب الأجيال القادمة المصادر الطبيعية، التي تمكنهم من الحياة علي كوكب الأرض.
في هذا السياق يأتي للفهم السياسي المتكامل المرتكز علي الربط بين المسؤولية الاجتماعية والاقتصادية، والمسؤولية تجاه البيئة، أهمية كبيرة في الحفاظ علي شروط الحياة علي كوكب الأرض، وفي تقدم الدولة في القرن الواحد والعشرين. عبر الربط بين هذه المحاور الثلاثة يمكن تحقيق نمو نوعي، وتحسين جودة الحياة، وتوسيع فرص الحياة والحرية الفردية عبر تجويد الاستفادة من التكنلوجيا والتقدم العلمي وإمكانيات الإبداع الإنساني الغير محدود، والتعامل بمسؤولية مع الموارد الطبيعية المحدودة.

مبدأ السياسة الاقتصادية الاجتماعية
الديموقراطية التعددية الحرة وفكرة النظام الاقتصادي الإجتماعي تنطلق من صورة للإنسان، مبنية علي القيم الإنسانية الكونية المتمثلة في الكرامة المتساوية والاحترام المتساوي والمتبادل، وتتعارض بذلك مع المفهوم الذي يقلل المجتمع في نشاطه الاقتصادي. وذلك لأن البشر لا تتواجد فقط في تنافس مع بعض، بل يحتاجون أيضاً لبعضهم البعض، وإن معني الحياة عند البشر لا ينبع من امتلاك السلع التي تسوق. في ذلك الفهم يتسق ايضاً اطروحة: البشر أكبر من أن يكونوا مستهلكين ومنتجين فقط. انطلاقاً من هذه المفاهيم لا يصح ممارسة وقبول لأي سياسة تهدف الي تسليع كل مجالات الحياة.
في هذا السياق يجب علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي ايضاً تبني مفهوم إن جودة الحياة هي أكثر من اللهث وراء الرفاهية المادية. البشر يريدون مجتمع حيوي، يعيشون فيه في سلام وتكافل، وتتوفر فيه فرص وعدالة متساوية – كذلك بين الجنسين. الإنسان في فعله يبحث عن اعتراف ادبي وأيضاً مادي لفعله ولشخصه كفرد من المجتمع ومن الاسرة، ويصبو الي الحصول علي الإحساس بقيمة وجوده وفعله، وإن هناك حوجه له، وليس فقط في مجال العمل. الإنسان يعيش في ومن العلاقات في الأسرة، مع شريك حياته مع أطفاله وأصدقائه. للعيش في هذه العلاقات وتنميتها، يحتاج الإنسان لوقت كافي. من اجل ذلك يجب علي المجتمع إعطاء الإنسان وقت فراق كافي ليتصرف فيه بنفسه. ويكون الإنسان غني عندما يعيش في مجتمع يعطيه هذه الامكانيات وهذه الحرية.
في الجانب الاخر للحق والعيش في حرية فردية، ومن ما لاشك فيه، أن الفردية والفرصة في تحقيق الذات، كشروط لتنوع طرق الحياة تمثل قيم عالية، لكنها يمكن أن تتسبب في فقد في الارتباطات الاجتماعية المختلفة، وتحدث إشكاليات جديدة للفرد وبذلك للمجتمع. وقد ينتج عن التنوع والتغيير في المجتمع حالة عدم الوضوح في جوانب الحياة المختلفة لكثيراً من المواطنين والمواطنات. لكن، وتحت مثل هذه الأوضاع، تزداد الرغبة عند الجميع في الحصول علي يقين وتوجه في الحياة.
في تلبية البحث عن اليقين والتوجه في الحياة والحصول علي القبول والانتماء والإحساس بالأمان الإجتماعي يأتي للتوجه الاقتصادي الإجتماعي للدولة دورا اساسياً كبير. وذلك عبر مكافحة الفقر، وتأمين الفرص المتساوية في بناء الحياة وتحقيق الطموحات، وتأمين الشراكة العادلة في المجتمع، والحماية الي حداً كبيراً من المخاطر الحياتية!
النظام الديموقراطي التعددي والاقتصادي الإجتماعي يكفل لكل الناس، ليس فقط الحقوق السياسية والاقتصادية وحقوق المواطنة الأساسية، بل أيضاً وبنفس القدر الحقوق الاجتماعية والثقافية، ويأمن الحقوق المتساوية للجميع في المشاركة الاجتماعية عبر ديموقراطية المجتمع، والمشاركة بموجب الدولة الاجتماعية المرتكزة علي حقوق المواطنة، ويأسس لاقتصاد السوق المنسق والمقنن، والذي فيه للديموقراطية أولوية قبل الأسواق. في مجتمع يتقبل ويمارس الديموقراطية التعددية والاقتصاد الإجتماعي تحدث فيه حيوية وابتكارات وتقدم. من اجل تأمين هذه الافعال، يجب في نفس الوقت تقوية قواعد التضامن والتكافل الإنساني.

shamis.khayal@gmail.com

 

آراء