حريق سوق كورتي: خفايا وأسرار 2-2 … بقلم: د. أحمد إبراهيم أبوشوك

 


 

 



وجدت الحلقة الأولى من هذا المقال صدًى واسعاً في أوساط الطلبة الذين شهدوا حريق سوق كورتي في الحادي عشر من يناير 1982م، واستجابةً حُسنةً للاعتذار الذي دونه رهطٌ منهم في حينه، وكان ليَّ شرف نشره على صفحات صحيفة الأحداث التي تصدر في الخرطوم بأثر رجعي، وبعد ثمانية وعشرين عاماً على مرور الحدث. وكانت تلك الاستجابة رفيعةً في مستواها، ونبيلةً في عفوها، الذي بذله ضحايا ذلك الحريق الشؤم، ولسان حالهم يقول: "الاشترك عفونا عنه، والاعتذر قبلنا اعتذاره". وفي هذه الحلقة الثانية أحاول أن أوثق لشهادات بعض شهود العيان التي نُشرت منجمةً في فضاءات اسفيرية مختلفة، ثم أرسم صورةً ذهنيةً حيَّةً لرد فعل أبناء كورتي بالعاصمة القومية، عندما بلغهم نبأ حريق سوق مدينتهم التي ينسبون إليها فخراً وإعزازاً (الكوارته)، والكيفية التي نُقل بها اعتذار طلبة مدرسة كورتي الثانوية، الذين ندموا "ندامة الكُسعي" على ذنبهم، إلى أهالي كورتي الفضلاء الذين تلاشت مرارات الحريق من مفكِّراتهم التاريخية بفضل نفوسهم السمحة، وقلوبهم العامرة بالعفو، واختفت معالم سواد الحريق الداكنة من سطوح متاجرهم، وعروشها ومداخلها التي جددوها من أموالهم الطهورة، ومكرمات ذوي أرحامهم من أهل الحضر.

شهادات شهود العيان
يروي الأخ محمد علي المكي (السريع)، المقيم حالياً بالمملكة العربية السعودية بعض حيثيات ذلك الحريق، ويقول: "سُبْحَانَ الْلَّهِ! وَالْلَّهُ أَذْكُرُهَا وأتَذَكَّرُهَا وَكَأَنَّهَا حدثْتَ الْيَوْمَ، كَانَ يَوْمَاً مِنَ أَيَّامٍ جَهَنَّمَ الْحَمْرَاءِ، وَكَانَ خَطَّأً فَادِحَاً اقَتَّرِفَهُ بَعْضُ الْطَّلَبَةِ، الَّذِيْنَ لَمْ يُحْسِنُوْا الْتَّصَرُّفِ. وَكَنْتُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ عَارَضَ الْحَرِيْقِ، وَأَيِّدْ الْتَّظَاهُرِ السلَمِيِّ، وَالَتعْبِيرِ بِالْهُتَافَاتْ المناهض لحكم العسكر. وَلَقَدْ ظُلَمَ تُجَّارُ كُوّرْتِيْ بِذَنْبٍ لَمْ يقتَرفُوهُ، وَبِسَبَبِ شَرِذِمّةً مِنْ الْطُّلابِ الَّذِيْنَ لَمْ يَحْسبُوْا الْعَوَاقِبِ، وَبَعْدَ الْحَادِثِ بَدَاُوْا يَنْدَمُونَ وَيَتحَسرُونَ، بِحُجةٍ أنَّهُمْ لَمْ يَكُوُنُوُا يَتَوَقَّعُونَ مَا حَدَثَ." ثم يصف الأخ محمد علي وقع الحريق المؤلم على مدير مدرسة كورتي الثانوية بنين  آنذاك، بقوله: "وبَكِى الْأُسْتَاذُ الْفَاضِلُ مُحَمد الحَسَنُ أحْمَدُونُ، وَأَعْتَبرهَا وَصْمَة عَارِ لَّهُ مِنْ طَلَابِهِ، الَّذِيْنَ خَانُوُهُ وَطَعُنَوهُ مِنْ الْخَلَفِ، وَهُوَ لَا يَدْرِيَ، وَلَوْ كَانَ يَدْرِيَ لَتَغَيرَ الْحَالِ، وَلَكِنّ قِدَرِ الَلّهَ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ." ثم ينتقل الأخ محمد علي إلى رد فعل أهالي كورتي المظلومين، مدوناً شهادته العادلة، بقوله: "وَلَوْلَا عِنَايَةٌ الْلَّهِ، وَتُدْخلُ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لَحَدَثَتْ كَارِثَةٌ؛ لِأَنَّ أهْلِ كُوّرْتِيْ كَانُوْا يُنَونُ إبَادَة الْطُّلاب عَنْ بِكْرَةِ أَبِيْهِمْ، وَلَكِنْ عِنَايَة الْلَّهْ لَطَفْتَ بِنَا، وَلَوْلَا تَدْخُلُ الْعُقَلَاءِ لكنا فِيْ عِدَادِ الْمَوْتَى. ولم يكن رد الفعل الذي وصفه الأخ محمد علي قاصراً على أهالي كورتي الفضلاء، بل تعداهم إلى سائر أعيان المنطقة، فيذكر منهم موقف والده المرحوم علي المكي الشيخ، الذي كان لا يهاب في قول الحق لومة لائم، وذلك عندما رد على ابنه محمد بقوله: "لِمَاذَا لَمْ يُقَتِلُوْكُمْ أهَالِيْ وَتُجَّارِ كُوّرْتِيْ؟"، فهذه العبارة البليغة والممعنة في اليقظ المكتوم كانت تشكل مزاج كل الآباء الذين استشاطوا غضباً لفعلة أبنائهم الشنيعة على امتداد المنطقة دون استثناء.
ويؤكد الأستاذ حمزة يوسف إبراهيم (السعودية/فقيرنكتي) ما جاء في رواية صديقه الأخ محمد علي المكي، وذلك بقوله: "فإن حريق سوق كورتي لا يخرج عن دائرة طيش الشباب إلى سواه، وللأسف أن معظم الطلبة في تلك الفترة-وأنا منهم-لم تكن لهم النظرة العقلانية الفاحصة ... ومن هنا أضم صوتي لصوت الدكتور أبي شوك، ونكرر أسفنا، واعتذارنا لأهلنا في كورتي." وعلى شاكلة الاعتذار ذاته جاءت رسالة الأخ علي فضل المولي (السعودية/أوسلي)، والتي تقرأ: "إلى كل أهالي كورتى شيباً، وشباباً، ونساءً، وأطفالاً، أقدم اعتذاري نيابة عن كل المعتقلين، وإن كان الأمر كله لا يخرج من طيش الشباب. ومن هنا أقف أمامكم بكامل قواي العقلية راجياً منكم جميعاً السماح، واعتذر لكل مَنْ مسهم منى أذى، أو ضرر، وأريد أن افتح معكم صفحة بيضاء لا تشوبها شائبة".
هكذا تواترت الشهادات، وتعاظم الاعتذار وبلغ مداه في قول الدكتور يس محمد يس (ولاية كاليفورنيا/الأراك): "نعم كنتُ من شهود العيان على ذاك اليوم الذي لا أجد له تفسيراً حتى هذه اللحظة سوى طيش الشباب، وربما رغبة طلاب الصفين الأول والثاني في تعطيل الدراسة، ولكن لا أجد مبرراً للمشاركين من طلاب الصف الثالث. حقيقة لم أحظ بحضور الاجتماع الذي عُقد عشية الحريق، ولم أشهد التحرك من بدايته، ولكن الذي شهدته هو التحول المفاجئ للشعارات عند دخول سوق كورتي، وبداية التكسير، والتخريب، وفجأة إشعال النيران في المحلات التجارية. وأذكر جيداً دهشة أهل المحال التجارية وأياديهم المغلولة، وهم يرون جيل المستقبل يلحق الدمار بممتلكات أهل كورتي، الذين كانوا عوناً للطلاب في كل شيء، بل لم يكن لهم حول ولا قوة لتغير ما يجري، ولا دخل لهم فيما كان سبباً للمظاهرة من أصلها، لقد كنتُ من المتفرجين السلبيين، وربما الخائفين من العقاب النفسي، دعك من العقاب القانوني، وأذكر، بل لازلت أرى ألسنه لهب النيران في دكان خضر مُحَرَّق وغيره، وكم حزنتُ في ذاك اليوم، وعدت أدراجي مشياً على الأقدام من كورتي إلى الأراك، وأخيراً عرفتُ أن بعضاً من الطلاب قد أُلقي القبض عليهم... وعندما عدنا للمدرسة كنا نتوجس خوفاً من رد فعل أهل كورتي، ولكنهم قالوا لنا أذهبوا فأنتم الطلقاء! وكم كنت أنكس رأسي خجلاً أمام زملاء الدراسة من أبناء مدينة كورتي عندما أدخل الصف... وكم كنتُ أحتقر نفسي عندما يقابلني أهل كورتي بالود، وعلى الأقل بالحياد العقلاني، وأنا من بين الذين لم يغيروا المنكر لا بيدهم، ولا بلسانهم، بل اكتفوا بأضعف الإيمان."

وفد المؤازرة وبكاء جابر ومساعي حاكم الإقليم
من زاوية أخرى كتب الأخ الصديق الأستاذ عبد الحميد أحمد عمر (العمدة) عن موقف أهالي كورتي بالعاصمة القومية ومدينتهم المنكوبة، قائلاً: "لم أكن يومها موجوداً بموقع الحدث؛ لأني كنتُ ضمن آخر دفعة تخرجت من المدرسة قبل الحريق، لذا فقد كنتُ حينها في مرحلة بين الثانوية والجامعة، مقيماً مع عمي المهندس عبد الله عمر كمبال (خليفة)، بمنزله الحكومي بحي الملازمين بأم درمان، حيث لم يكن ممكناً في ذلك الزمان أن يصل ذلك الخبر إلى أم درمان في يومه، وأذكر أنه في ظهيرة اليوم الثاني، أو الثالث للحدث (تقريباً)، أتى عمي إلى حيث كنتُ أجلس لينقل إليَّ ذلك الخبر المحزن، الذي كان مفاده أن الطلبة قد أحرقوا السوق بأكمله. لم أكد أصدق أن الأمر يمكن أن يكون كما وُصف، وتصورت أنه لن يعدو أن يكون تخريباً محدوداً، قام به أولئك الأخوة من الطلاب..."
ويمضى الأخ عبد الحميد، ويقول: "وإثر ذلك الخبر المفجع تداعى سائر أهل كورتي بالعاصمة والأقاليم، وقرروا السفر إلى كورتي، ليشدوا من أزر ذويهم، ويواسوهم في ما أصابهم. وفي اليوم المحدد تحرك بنا مبكراً أحد بصات ترحيلات السلام، يقوده السائق المعروف عوض عبد الحي من أمام جامع عمر عبد السلام بحي المظاهر بأم درمان، وقد امتلأ باطنه، ولم نجد نحن الشباب حينها بداً من الركوب على سطح البص. وعلى قدر الحدث كان الوفد كبيراً، قاده كبار رجالات الكوارته، ومثلت فيه كل بيوتاتهم بشيبها وشبابها. ووصلنا عصراً إلى مسرح الحدث، ودخل البص مباشرة إلى ساحة السوق المنكوب، وطاف جمعنا على ركام المحال المحروقة، فرأينا من الخراب ما لم يخطر على بال بشر، وتكشف لنا حجم الكارثة، وعندها عرفنا لماذا بكى المرحوم جابر محمد نصر، السائق المعروف، عندما قابلنا في الطريق يقود بصاً آخر متجها إلى أم درمان، وإذ لم يستطع حبس دموعه التي بللت خديه، وهو يحاول أن يصف لنا ذلك المشهد المأساوي، الذي رآه عند مروره بكورتي. ثم توجه الجمع إلى دارنا (أي منزل المرحوم العمدة أحمد عمر كمبال)، حيث تجمع الأهل لاستقبال الوفد القادم. وبعد الانتهاء من مراسم الاستقبال، وواجبات الضيافة، التأم الجميع في اجتماع صاخب، تعالت فيه الأصوات تنديداً بما حدث، وانصب التركيز على عدم السماح بفتح المدرسة مرة أخرى، وأكد أحد المجتمعين بأنهم لن يطيقوا سماع رنة جرس واحدة بعد الذي حدث. وفي ذلك الاجتماع الغاضب لم يكن هناك بداً من أن ينحاز المجتمعون إلى قرار إغلاق المدرسة نهائياً. ولا ريب أن هذا الموقف الرافض لإعادة فتح المدرسة قد أقلق حاكم الإقليم الشمالي في ذلك الوقت، البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله، الذي بدأ التحرك لمعالجة الموقف بلقاء مع ممثلين لأهل كورتي بأم درمان، ثم أردف ذلك اللقاء بزيارة لمدنية كورتي لمواساة أهلها، وحثهم على فتح المدرسة مراعاة لمستقبل الطلاب. وقد وفق في ذلك المسعى، لأنه وجد نخبة خيرة من أهالي كانت تؤمن بصون تاريخ كورتي الممتد والزاخر بالعطاء في مجال التعليم، وتقدر مستقبل الطلاب، وتود أن تجبر خاطر الحاكم الذي رفض تناول وجبة الضيافة التي أُعدت له قبل الموافقة بإعادة فتح المدرسة. وبذلك هدأت النفوس ولانت العرائك، وساد صوت العقل، وانفرجت الأزمة بموافقة الجميع على إعادة فتح المدرسة. وبعد أن فتحت المدرسة أبوابها، وأدى الطلاب امتحاناتهم التي كانت على الأبواب، حلت الإجازة الصيفية فكانت عاملاً آخر ساعد على تهدئة النفوس، وإزالة الكثير مما علق بالدواخل. وفي تلك الأثناء جرت عملية إعادة البناء، والترميم للسوق، والتي اكتملت في فترة وجيزة. وما أن بدأ السوق يستعيد نشاطه حتى بدأت فظاعة الحدث في التلاشي من الأذهان شيئاً فشيئاً، ولم يبق منها إلا تذاكر نحته المرحوم محمد الحسن الخضر كمبال (أبو جزمة) على عتبة متجرة قبل أن تجف عجينتها الأسمنتية: "حريق السوق 11/1/1982م".

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
بالرغم من فظاعة الحدث إلا أن قامات أهل كورتي كانت أكبر من الانتقام والتشفي، فما أجمل عفوهم عندما كان عفواً عند المقدرة، وما أعظم صفحهم عندما كان صفحاً متجاوزاً لمرارات الذنب المغتفر، هكذا جاءت كلمات الخليفة أحمد عثمان النقيب، لتغسل أدران حريق كورتي، بقوله: "الاشترك عفونا عنه والاعتذر قبلنا اعتذاره". فمبادرة الأخ الصديق عبد الحميد أحمد عمر كمبال، الذي حمل خطاب اعتذارنا إلى الخليفة النقيب وإمام مسجد كورتي العتيق في يوم الجمعة الموافق 28 مايو 2010م، أكسبت ذلك الصفح قيمة إنسانية عالية الجودة؛ لأن الأخ عبد الحميد لم يكن وسيطاً محايداً، بل هو ابن أكثر التجار الذين تتضرروا من ذلك الحادث المشئوم. فله الشكر أجزله والثناء أوفاه؛ لأنه ناب عنا بعرضه لذلك الخطاب على أعيان كورتي بأثر رجعي، فضمن لنا صفح الخليفة النقيب وبطانته، وقبل ذلك حصلنا على عفو شامل من الأخ الأستاذ جعفر محمد الحسن أبو جزمة المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية. وبين عفو أهل الدار وابنهم المغترب في بلاد العم سام يقف شامخاً عفو الوالد العمدة أحمد عمر كمبال، رحمه الله رحمة واسعة، ووسع مرقده في الدار الآخرة، لأنه تحمَّل تداعيات الحريق في صبر وجلد متلازمين، ودافع عن حقوق الطلاب الذين اشتركوا، والذين لم يشتركوا في الحريق، مستنداً على قلة خبرتهم وجهالة فطنتهم، وملتمساً العذر لهم فيما اقترفوه من ذنب، وفي الوقت ذاته مثمناً صبر أهالي كورتي الطيبين الأخيار، وكياسة كبارهم في تجاوز المحنة والعفو عند المقدرة.

حريق سوق كورتي: الدُروس والعِبًْرَ
تعبِّر المظاهرات الطلابية دائماً عن وعي سياسي باكر للطلاب، عندما تناهض نظم الحكم الشمولية بشأن إرساء قيم الديمقراطية الحقة، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في صناعة القرارات التي تهم شؤون البلاد والعباد؛ إلا أن مثل هذه المظاهرات إذا انحرفت عن هدفها الرئيس وصبت سخائم غضبها في تخريب مؤسسات القطاع العام الخدمية وممتلكات القطاع الخاص تفقد سندها الشعبي، ومصداقيتها في أوساط السواد الأعظم من الأهلين، الذين أعيتهم حيلة الجهر بصوتهم المعارض في وجه النظام الحاكم الذي لم يشتركوا في انتخابه ولم يتواضعوا على نصرته. كانت مظاهرات طلاب مدرسة كورتي الثانوية في الحادي عشر من يناير 1982م تمثل قيمة من قيم ذلك الوعي الطلابي السياسي الباكر؛ لأنها كانت تنادي بإسقاط نظام الحكم المايوي ومحاكمة زبانيته، وترفع شعار التضامن مع طلاب الجامعات والمدارس الثانوية الأخرى الذين تظاهروا من قبل، وواجهوا عنف أجهزة السلطة الحاكمة الأمنية التي تصدت لهم في صلف واستعلاء. وبهذا الأهداف السامية استطاعت المظاهرة أن تكسب تأييد المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية بمدينة كورتي، وتجد تعاطفاً ممشوقاً من أهل المدنية الذين استقبلوا الطلاب مهللين خارج أسوار منازلهم المضيافة، وبهذه الكيفية تمَّ التواصل بين الطلاب والمواطنين حول تحقيق الهدف المنشود. ولكن قبل أن يكون ذلك التواصل حديث المدينة الفاضلة الذي ينقله أهل الحضر والبادية، ويحتفون به درساً من الدروس الناجحة في المجاهرة بمعصية النظام الحاكم، انحرفت المظاهرة عن هدفها المرسوم، ومال نفرٌ من طلابها إلى حرق سوق كورتي عن بكرة أبيه دون أدني مبرر مشروع، ولذلك أفرغوا المظاهرة من غايتها المنشودة مضموناً ومعنًى، وهنا تتجسد العبرة عندما تكون المآلات والنتائج مناقضة للأهداف والمسوغات. وعند هذا المنعطف عمَّ شر المظاهرة، وانحسر خيرها؛ لأن بعض المتضررين من أهال كورتي مالوا إلى الانتقام من الطلاب، وقرروا حرق المدرسة بما فيها ومَنْ فيها، ولولا عناية الله سبحانه وتعالى، وموقف بعض الحكماء من أهالي كورتي، لأُغلقت المدرسة إلى الأبد، وأمسى مستقل الطلاب كدقيق فوق شوكٍ نثروه، ثم قالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه.
وهنا يكمن الدرس الثاني عندما أصبح صوت العقل يعلو على صوت العاطفة، وبرزت في الأفق أسماء شخصيات لامعة: العمدة أحمد عمر كمبال، والبروفيسور عبد الله أحمد عبد الله، والأستاذ محمد الحسن أحمدون، ونفر من قائمة الآباء الذين ورد ذكرهم في شهادة الأستاذ محيي الدين مالك محيي الدين (السعودية/ الغُريبة)، وبذلك تنازل فضلاء كورتي عن حقهم المشروع، ووافقوا على إعادة فتح مدرسة كورتي الثانوية للبنين تقدراً لتاريخ مدينتهم العريقة في مجال التعليم وصون حقوق الطلاب، والتماساً العذر لأبنائهم الطلاب، باعتبارهم جهلاء لا يحسنون صُنعاً، ويجب أن لا يعاقب الأبرياء منهم بجريرة غيرهم.
ويتجلى الدرس الثالث في اعتذار طلاب مدرسة كورتي الثانوية إلى أهالي كورتي بأثر رجعي، فالاعتذار يمثل الاعتراف بالذنب والطمع في العفو، والعفو هو سيد الأحكام، والتزاوج بين الاثنين مبلغ الحكمة وبيت القصيد. أثاب الله أهالي كورتي الفضلاء بقدر قيمة الضيم الذي مسهم، ورحم الله من قضى نحبه منهم، وألبس مَنْ يَنتظر ثوب الصحة والعافية، لأنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدلوا تبدلاً.  

نقلاً عن صحيفة الأحداث  
Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]

 

آراء