حسن الترابي في الثمانين: تأملات ومراجعات … بقلم: عبدالوهاب الأفندي
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]
في الأسبوع الذي أعقب نشر مقالنا السالف بمناسبة ثمانينية الشيخ حسن الترابي، تابعت مداخلة الشيخ في مؤتمر الإسلاميين والديمقراطية الذي رتبه مركز الدراسات في قناة الجزية ثم المقابلة مع على الظفيري في برنامج "في العمق". وكانت الملاحظة الأولى هي أن الثمانين التي حملها الشيخ لم تنقص كثيراً من حيويته وتوقد ذهنه، حيث نجح إلى حد كبير في إرسال الرسائل التي أراد تبليغها –مهما كان مجال الاختلاف حولها- كما اجتهد (وهو أمر لا يقل أهمية) في تجنب ما كان لا يريد قوله. وقد ذكرني هذا بمناسبة أخرى راقبته فيها وهو يجري مقابلة مع صحفي أمريكي كان يريد أن ينتزع منه إدانة لعنف الجماعات الإسلامية في مصر وغيرها. ودامت المحاولة أكثر من نصف ساعة دون نجاح يذكر، حيث كان الشيخ ينتقل إلى العموميات حيناً، ثم يعرج على خصوصيات الحالة المصرية أحياناً أخرى، ولم يستطع الصحفي أن يظفرمنه بشيء.ً
وهذا يشير أولاً إلى نقطة مهمة، وهي أن الترابي، خلافاً لما يشاع عن "براغماتيته"، لا يجامل كثيراً في إبانة مواقفه الفكرية. فقد كان بوسعه، وهو يتحدث إلى صحفي أمريكي، أن يسجل نقاطاً بالتعبير عن إدانة عنف الجماعات السلفية، خاصة أنه على خلاف عميق مع هذه الجماعات التي يكفره بعضها. ولكنه لم يجنح إلى هذا الحل السهل، وأصر على التمسك بموقف صعب ومعقد. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الترابي لم يكن يبالي أن يضحي بالسمعة الحسنة مقابل تحقيق أهداف بعيدةالي المدى، كما حدث عندما تمسك بالمصالحة مع النميري في ظروف صعبة، وهذه سياسة ذات مخاطر عالية.
وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى، وهي إشكالية الفكر عند الترابي ثم إشكالية الخطاب الفكري. فهو يجيد الانتقال بين مستويات الخطاب الفكري المختلفة: حيث لديه خطاب ذو طبيعة جماهيرية، وآخر موجه لعلماء الدين، وثالث للخاصة، ورابع للمفكرين، وخامس للغرب، وهكذا. ولكن عمليات الانتقال هذه قد تستخدم في أحيان كثيرة للتعمية أكثر منها للتبيين. فهكذا نجد الشيخ يتنقل عندما طلب منه تحديد أخطاء التجربة السودانية بين التفسير الاجتماعي ("فتنة السلطة")، والديني-التاريخي (الخلافة الراشدة لم تدم سوى ثلاث عقود)، وأخيراً الاعتراف بأخطاء غير محددة، مما يعني في نهاية الأمر تغييب المسؤولية. فهي إما حتمية اجتماعية أو قدر سماوي لا مفك منه، أو هي، إذا فرض التنزل إلى الواقع، فاللوم يلقى على خصوم اليوم، أتباع الأمس، ممن "سقطوا في الفتنة".
ويذكرني هذا بتساؤل وجهته له قبل سنوات طويلة حول "المثالية" التي اشتمل عليها كتابه "الإيمان: أثره في حياة الإنسان"، وهو أحد "دفاتر السجن" التي صنفها في السبعينات. وكنت قد شرعت في عام 1986 في إعداد رسالة الدكتوراه التي كان موضوعها "التطور الفكري والسياسي لحركة الإخون المسلمين في السودان، 1949-1986". وفي تلك الأيام كانت المصادر شحيحة عن حركة كانت حتى وقت قريب محظورة، وبالتالي تفتقد الوثائق المنشورة. والمفارقة أن هذا كان ينسحب على بقية الأحزاب السياسية، والساحة الفكرية عموماً، باستثناءات قليلة، حيث لم أجد رغم تنقيبي في أضابير محفوظات الوثائق الرسمية والجامعية كتابات ذات حجم ووزن تعبر عن برامج الأحزاب أو عن رؤى فكرية موثقة، إلا فيما ندر. واضطررت لأعتمد على مراجعة أرشيف الصحف، ثم المقابلات، إضافة إلى بعض الأعمال الرائدة النادرة، مثل كتاب حسن مكي عن نشأة حركة الإخوان وتطورها حتى عام 1969.
فيما يتعلق بالحركة نفسها، كانت الملاحظة هي أن الشيخ الترابي كان الوحيد بين قياداتها الذي كانت له أعمال منشورة على قلتها، وكون معظمها نصوص محاضرات سجلت ونسخت. ورغم وجود مساهمات نادرة لشخصيات مثل جعفر شيخ إدريس ومدثر عبدالرحيم وابراهيم أحمد عمر، إلا أنها إما كانت قديمة وغير متوفرة (إدريس) أو ذات طابع أكاديمي (عبدالرحيم) أو في مسألة فرعية مثل فلسفة التنمية (عمر). وعليه كانت لم يكن بمقدور أي دراسة عن فكر الحركة أن تتجاوز الترابي وفكره، وتحديداً "الثورة الفكرية" التي أحدثها في مقولات الحركة بعيداً عن "السلفية" التقليدية للحركات الإسلامية، وباتجاه التحديث والبراغماتية. وقد لقيت هذه التغييرات مقاومة عنيفة من قبل التيار "السلفي" ممثلاً وقتها في جعفر شيخ ادريس ومحمد صالح عمر ومالك بدري، والتيار الإخواني التقليدي بقيادة صادق عبدالله عبدالماجد ومحمود برات والحبر يوسف نور الدائم، وهو التيار الذي قاد انشقاق عام 1980.
لهذا السبب كان عنوان الكتاب الذي نشر كنسخة مختصرة من الأطروحة "ثورة الترابي"، وهو بدوره مختصر لعنوان الفصل التاسع، وهو "ثورة الترابي الفكرية". وقد أثار هذا انتقادات من بعض قيادات في الحركة، رأت أن الكتاب ضخم دور الترابي. وهو انتقاد غير دقيق لسببين، أولهما أن هذا الانتقاد اقتصر على النظر للعنوان، ولم ينظر لمضمون الكتاب الذي لم يقتصر على مساهمات الترابي، ولا حتى على مساهمات الحركة الإسلامية السودانية، بل اشتمل على فصل تناول حركة الإحياء الإسلامية الحديثة بمجملها منذ القرن التاسع عشر، وفصل آخر حول تاريخ السودان الحديث، أعطى كل ذي حق حقه. بل كانت هناك مقاطع عما وصفناه بثورة حقيقية أحدثها نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد.
فالحديث عن "ثورة الترابي"، مثل الحديث عن "ثورة النميري"، كان إذن حديثاً وصفياً، وليس تقييماً. وهذا أمر أملته متطلبات ومعايير الدراسات العليا في الجامعات الغربية، حيث لا يسمح بمقولات لا تؤيدها الوثائق وتسندها حجج موضوعية. وقد زاد الأمر تعقيداً أن المشرف على رسالة الدكتوراه كان على خبرة ودراية عميقين بشؤون السودان، وكان على خلاف معي حول معظم القضايا، ولهذا كان لا يترك أي جملة تمر بدون تعليق أو اعتراض. ويذكرني هذا بالمشرف على رسالة الماجستير التي أعددتها في جامعة ويلز تحت عنوان: "نظرة كارل ماركس إلى الفسلفة"، وكان ماركسياً متطرفاً ينتمي إلى التيار التروتسكي. وكانت بيننا مناكفات مستمرة حول كل جانب من البحث. وأذكر مرة أنه كتب معلقاً على فقرات تتناول تحليل لشخصية ماركس يقول: "أقترح أن يوضع هذا التحليل للشخصية –وقد يسميه البعض اغتيالاً للشخصية- في نهاية الفصل." ولكن لا بد أن أضيف هنا أن القيم التي تسود المؤسسات التعليمية هنا أن مثل هذا الخلاف لم يكن يؤثر في الاحترام المتبادل، أو ينتقل إلى فرض وجهات النظر. ويسعدني أن أقول أنني ما أزال أتمتع بصداقة المشرفين حتى بعد تقاعدهما عن التدريس.
الانتقاد للعنوان كان غير دقيق كذلك لسبب آخر، وهو أن المضمون استند على الوثائق والوقائع، من ناحية مساهمة الترابي الموثقة من جهة، وتأثيره في تغيير مسار الحركة من جهة أخرى. هذا التأثير يعترف به خصوم الترابي قبل أنصاره، حيث طفق الشيخ جعفر شيخ ادريس يردد أن الترابي "اختطف" الحركة وحرف مسارها.
السؤال أعلاه الذي وجهته للشيخ الترابي حول "المثالية" جاء في أول لقاء لي به بعد أن بدأت في إعداد الرسالة، وذلك في العاصمة الباكستانية إسلام أباد في صيف عام 1997، حيث كنا نحضر مؤتمراً حول الوحدة الإسلامية. في تلك المرحلة، كنت قد اطلعت على ما يكفي من الوثائق المنشورة ما سمح بتكوين فكرة أولية حول تطور الحركة، والإشكالات السياسية التي كانت تواجهها. وقد انتهزت سانحة اللقاء في إسلام أباد لعقد عدة لقاءات مع الشيخ استوضحه فيها بعد النقاط، وذلك في متابعة لمقابلة "أرابيا" في سبتمبر 1982، والتي تناولت تفاصيل مسيرته السياسية والفكرية.
وكجملة اعتراضية هنا لعله من المفيد أن نذكر أن لقب "الشيخ" الذي أخذ يطلق على الترابي في الثمانينات كان في الأصل اسماً حركياً أطلقه عليه الناشطون في العمل السري في مطلع السبعينات حينما كان في المعتقل أو رهن الحبس المنزلي. ذلك أن اسم "الشيخ" هو اسم شائع عند السودانيين، بينما كان استخدام لقب "الشيخ" لزعيم حركة إسلامية حديثة بعيداً عن الأذهان لدرجة أن الإشارة للترابي باسم "الشيخ" لم تكن يثير مجرد الشبهة أن المقصود هو الزعيم! وكان من السهل أن يقال، "لقد التقيت الشيخ بالأمس وسمعت منه كذا"، أو "هل يمكنك إيصال هذه الرسالة إلى الشيخ"، في مكان عام، دون أن يخطر للسامع العابر أن المقصود قد يكون الترابي. ألا سقى الله تلك الأيام!
كانت أهم النقاط التي استوضحتها "الشيخ" في لقاء إسلام أباد تتعلق بالمثالية الطوباوية، والتجريد المفرط، في كتاباته، خاصة كتاب "الإيمان"، وبالتالي البعد عن الواقع. فهو يتحدث عن القيم السامية التي يغرسها الإيمان في نفس الفرد، ويستنتج من ذلك أن سلوك المؤمن يكون مثالياً في كل مقام، فهو زاهد في السلطة، محب للعدل حريص عليه، يؤثر الآخرين على نفسه، إلخ. ولكن واقع الحال، خاصة في ديار الإسلام، يشير إلى عكس ذلك. فالسؤال المطروح في السودان وغيره من بلاد المسلمين هو: لماذا قصر المسلمون وما زالوا في الالتزام بالمبادئ العليا المنصوص عليها؟
تلخصت الإجابة التي تطوع بها الشيخ في أن المطلوب هو تحديد المبادئ أولاً، ثم يتم قياس الواقع عليها والسعي إلى تقريبه منها. وكما أوضحت في القسم المنشور من البحث، فإنني لم أجد تلك الإجابة مقنعة، لأن التهويم في دنيا المثاليات، خاصة حين يخلق الانطباع بعلاقة شبه حتمية بينها والواقع، قد تكون أشبه بالانصرافية. وقد تأكد هذا التشكك بما حدث بعد ذلك، وخاصة في مداخلات الشيخ الأخيرة، وخطابه عموماً منذ المفاصلة، حيث أصبحت هناك ضرورة الآن لحديث أكثر إقناعاً عن ملابسات انحراف الواقع عن المثال. وتحديداً، لا بد من تحليل أكثر واقعية ودقة لطبيعة المثال من جهة، ولأشكال الانحراف عنه من جهة أخرى، مع تحديد واضح للمسؤوليات.