حكايات الحلة بقلم: هلال زاهر الساداتي
7 November, 2009
أشخاص مختلفون جِِِِنيّ وعطا المنان
لا يخلو مجتمع في قرية أو مدينة وربما حي من الاحياء من شخص يفتقد في تكوينه الخلقي ميزة الذكاء , أو الفطنة أو الادراك السليم , ولا يندرج بسبب هذا النقص الطبيعي في زمرة المجانين او المصابين بأمراض نفسية أو عصبية , وأعتاد الناس علي وصف الواحد من هؤلاء بالأهبل أو (العوير) أو المتخلف ذهنياً .
كان في حلتنا إثنان من هذه الفئة , وأحدهما نناديه ب (جني) ولا نعلم له اسماً خلاف هذا الاسم او الوصف , وكان يجيئ الي منزل جيراننا بين الحين والآخر ويمكث عندهم يومين أو ثلاثة ثم يختفي مدة ويظهر بعدها , ولم يدر أحد الي أين يذهب , ولم يعرف أحد له عائلة أو أهلاً .
كانت قامته أقرب الي القِصر في جسم هزيل , ولكن تراه منتفخاً وتحسبه بديناً , ولكن يتلاشي هذا الظن عندما تعرف أنه يرتدي كل ما يمتلك من ثياب كلها بعضها علي بعض , ولم يخرج لبسه عن العرّاقي المصنوع من قماش الدمورية الغليظ , عرّاقي يليه عرّاقي يليه عرّاقي كطبقات الأرض ! فهو شماعة ملابس متحركة . وكان جني يحدّث نفسه أكثر من تحدثه الي الناس , وكان كلامه غير مترابط وغير مفهوم ومختلط , أو كما يقول المثل العامي السائر (كلام الطير في الباقير) , ولا أدري إن كانت تلك البلدة الهادئة المطمئنة تأوي طيراً يتكلم ؟! وكان جني يرد السلام علي من يقرأه ويعرف الناس بأسمائهم , وكان مسالماً لا يؤذي أحداً , فأمِن شر معاكسات الاولاد وإن لم يسلم من مداعباتهم البريئة .
كان جيراننا يستغلونه في تفريغ البالوعات من الماء المتسخ ورشه علي الشارع فقد كانت بيوت الحِلة لا تحوي آبار (سيفونات) أو سيفونات , وكان جني يكنس حيشان المنزل كما كان يكنس مدخل المنزل من الخارج ومما يليه من الشارع . وكان قنوعاً بما يعطونه له من نقود قليلة , وهو علي كل حال لم يكن يستفد من النقود في شراء أي شئ لسبب في غاية الغرابة , وهو إنه كان يجمع النقود التي يكسبها ثم يذهب الي البحر (النيل) ويخوض في الماء حتي وسطه ويقذف بالنقود في الماء , وكان يجيب من يسأله عن فعله ذاك بقوله ( أنا عايز أدي ناس البحر صدقة , أصلهم مساكين) , وهكذا كان دأب جني .
وكان الشخص الثاني هو عطا المنان وهو يمتلك جسم (كريكتيري) , اذا صح التعبير , فهو له بنيان فوقه رأس صغير مركب علي منكبين ضيقين يليهما صدر منطبق الي داخل جسمه وكرش صغيرة بارزة الي الخارج ويحملهم ساقان دقيقتان نحيفتان , ولكنه شخصية منفتحة علي الناس وتراه دوماً باسم الثغر , وهو يتمتم في كلامه ولكن حباه الله بصوت رخيم وهو عندما يغني ينطلق لسانه فصحياً نقياً , وهو يحفظ كثيراً من أغاني الحقيبة , وأما ما عدا ذلك من أخبار ومعارف الدنيا فإنه يجهلها ولا يشغل باله بها , وهو رجل بسيط وساذج بل هو السذاجة بعينها , وهو يعمل عاملاً أو جنايني في جنينة الهادي الكائنة بجانب النهر والمقابلة لدار التلفزيون القومي بأمدرمان . وعطا شخصية محبوبة من تجار سوق الموردة ومن كل من يعملون في السوق , وكان عندما يذهب الي السوق ينادونه ويتحلقون حوله ويطلبون منه ان يغنيهم بعض اغاني الحقيبة , فيستجيب لهم وهم يستزيدونه ويطربون له حقاً وهم منتشين من غنائه ويكرمونه بإعطائه بعض النقود .
ويقيم عطا مع والدته العجوز وأخته المسنة في أحد بيوت الحي المتواضعة الصغيرة. وكان بعض سكان الحي يتسلّون بالحديث معه ويضحكون من إجاباته علي بعض أسئلتهم , ومنها أنهم سألوه ذات مرة عن عمر والدته العجوز , فأجابهم بقوله (عشمانة دي صغيرة , قريب ده طهروها) , ومرة سألوه إن كان يعرف أزهري , فأجاب ( آي بعرفوا , ده واحد غليد عندو عربية طويلة بسواقها) , وقد كان الزعيم أزهري يمر كل يوم بسيارته الكاديلاك بشارع بوابة عبد القيوم في ذهابه وإيابه الي الخرطوم .
كان جني وعطا المنان مثالين للبساطة والسذاجة وعاشا سعيدين خاليا البال من هموم الدنيا وأوجاعها .
هلال زاهر الساداتي
helelzaher@hotmail.com