حكايات الحلة _ الحكاية الرابعة: المنتحرون
هلال زاهر الساداتي
15 August, 2012
15 August, 2012
اود ان اشير قبل ان اسرد الحكاية التالية ان اذكر ان القارىء الفطن نور الدائم عبد الوهاب قد نبهنى الى انه قد قرأ لى قبل ذلك حكاية المسحراتى مما فهمت من الملاحظة انها قديمة ، وفعلا هى كذلك ،ولعل الاخ نور الدائم واخرين قد فاتهم الاطلاع على الحكاية الاولى ، فقد نوهت بان الحكايات نشرت قبل ذلك فى عدد من الصحف وانى بصدد جمعها ونشرها فى كتاب ، وانوه ايضا باننى قد اضفت الى بعضها جملا وعبارات جديدة لاتخل بالحكاية وهناك بعض الحكايات لم ينشر من قبل .
صروف الدهر غير متوقعة ،وقد ينزل على المرء امر جلل كصاعقة من السماء ، فلا يجدى ازاءها حذر او ملجأ ،ويستسلم المصاب لمصيبته بعد ان تغلبه الحيلة ، وتصير الدنيا برحابتها فى عينيه اسود من لون السكن ، فلا يجد مخرجا من تلك المحنة القاهرة سوى ترك هذه الدنيا الظالم اهلها فى نظره ، وربما يصحو المنتحر من غيبوبته المأساوية ، ويراجع قراره النهائى فيتردد هنيهة ، وربما يقلع عن الفعل او ينتحر ويمضى الى غير رجعة من دنيا العذاب والشقاء !
احد هؤلاء المنتحرين كان شابا فى مطلع الشباب من عائلة مستورة الحال ، وقد اكمل المرحلة المتوسطة فى دراسته فى الزمن الذى كان فيه التعليم مقصورا على هذه المرحلة والمرحلة الثانوية ، كما كان التوظيف الحكومى قاصرا على خريجى هاتين المرحلتين . عمل الشاب موظفا فى احدى المصالح الحكومية ، ولكنه انغمس فى شرب الخمر وادمنها ولم ينصلح حاله ، فكان مصيره ان فصل من عمله وتشرد .
وفى ذات يوم قرر الانتحار . اشترى زجاجة من الجاز ( كيروسين ) وذهب الى مؤخرة منزلهم وسكب الجاز على ملابسه واشعل النار ،ولما احس بحر النار وسعيها فى جسده أخذ فى الصياح : ( يابا الحقنى ـ يا بوى الحقنى ) ولحقه جميع من فى الدار واطفأوا النار المشتعلة واسرعوا به الى المستشفى حيث مكث عاما كاملا يعالج من جروحه حتى شفى .
وفى حالة اخرى كانت النار هى وسيلة الانتحار ،ولعل الانتحار يعدى وبنفس الوسيلة ! وكانت ضحية الفعل المدمر هذه المرة فتاة فى زهرة العمر ، ولها نصيب وافر من الحسن كوردة يانعة بهية تفوح عطرا واريجا . تلك الفتاة البارعة الحسن اجبرها اهلها على الزواج مىن رجل من اقربائهم بالرغم منها فهى لا تطيقه ولا تريده وتبغض رؤيته ،وتم الزواج القسرى ، وتم الفراق الابدى بعد شهر واحد من الزواج القسرى ، فقد اشعلت النار فى جسدها الغض واحترقت ، وفاضت روحها الى بارئها، وذبلت وتلاشت تلك الزهرة اليانعة فى غير اوانها .
وروعت الحلة بضحية اخرى للنار ،وكانت الضحية امراة صغيرة السن متزوجة من رجل قاسى مدمن للخمر والبنقو ، وكان يسيء معاملتها ، وسار على هذا المنوال بالرغم من تدخل الاهل والاصدقاء ، فكان يكف عن هذا السلوك فترة وجيزة ، ثم يعود الى سيرته الاولى من الاساءة والاذية الى زوجته المسكينة . وفى مرة بعد ثورة منه وضربه لها اسرعت الى المطبخ وسكبت الجاز فى ملابسها ، وجرت وهى مشتعلة اليه لتمسك به ، فجرى فى هلع وفتح باب المنزل هاربا منها، وهى تطارده وهو يصرخ وهى تصرخ حتى وقعت على الارض وقد اكلتها النار .
واما الشاب الاخر فقد كان وحيد ابويه،وكان والده ضابط جيش متقاعد ، وكان الولد مرفها ومدللا من الام والتى كانت تستجيب لكل ما يطلب ولم تقل له لا أبدا مهما كانت طلباته ، وكان الولد يلجأ لمزيد من الضغط فيهدد دائما بانه سيرمى نفسه فى البحر اذا لم يحققوا طلبه وكان هذا يعنى بان يلقى بنفسه فى الماء ليغرق . وفى ذات مرة طفح الكيل بالام ، وردت عليه بان يرمى نفسه فى البحر غير ماسوف عليه وكان منزلهم بالقرب من النهر ، وجرى الشاب الى باب المنزل وهو يقول باعلى صوته : ( طيب شوفوا لو تلقونى تانى ـ اهو انا ماشى ارمى نفسى فى البحر ) وصرخت الام فى هلع : (ووب ـ ووب على ) ونادت على زوجها ( الحق الولد ! الولد ماشى يكتل روحه) وخرج الوالد من الحجرة حاملا فى يده مسدسا وجرى يطارد الولد ، واستمرت المطاردة حتى اقتربا من البحر ، وصرخ الوالد فى الولد : ( والله يا ابن الكلب لو ما رجعت حاضربك يا كلب بالرصاص ) وهناتوقف الشاب وانصاع لكلام والده . واعادت هذه الحادثة الى ذاكرتى مثلنا القائل ( الحداث ما سواى ) ، وربما كان الشاب جادا فى نيته باغراق نفسه فى الماء ولكن آثر الغرق على الموت بالرصاص اوبالسم او الحرق او الشنق بالحبل ، وأكيد انه لم يعرف قول الشاعر :
من لم بمت بالسيف مات بغيره تنوعت الاسباب والموت واحد ـ
وان كان بعض المنتحرين يؤثر ان يختار وسيلة منيته بيده ، حرقا ،غرقا او سما !
Hilal Elsadati [helalzaher@hotmail.com]