حكاية الحركة الإسلامية مع حكومة «الإنقاذ»
د. الطيب زين العابدين
12 February, 2012
12 February, 2012
بمناسبة الحراك الواسع في أوساط الإسلاميين لمراجعة العلاقة بين الحركة وحكومة الإنقاذ وحزب المؤتمر الوطني، ينبغي التعرض لنشأة هذه العلاقة وتطورها الذي أدى إلى إخفاء الحركة عن الوجود رغم أنها هي التي دبرت وصنعت الانقلاب العسكري بعناصرها النظامية والمدنية، وأعطته السند الجماهيري الذي يحتاجه، والكوادر المؤهلة التي تسلمت المسؤولية التنفيذية في الدولة، وقيادة مؤسسات الخدمة المدنية والقضائية التي أمكنت الحكومة من تنفيذ سياساتها، بل وخف لمساندة جيشها المتعب آلاف الشباب الذين انخرطوا في الدفاع الشعبي ذوداً عن وحدة الوطن في أحراش الجنوب، وجلبت للحكومة أموالاً كثيرة كانت في أشد الحاجة إليها من أصدقاء الحركة في خارج السودان. أليس غريباً أن الحركة التي فعلت كل ذلك تكون هي التنظيم السياسي الوحيد الذي يختفي عن الساحة السياسية السودانية وبتدبير من قيادتها الحاكمة؟ ويتولى تمثيلها في سلطة الدولة العليا نفر قليل لم ينتخبهم أحد، اختارهم شيخ الحركة في البداية لقربهم منه ثم انحازوا إلى جانب السلطة بعد المفاصلة. والآن تتحدث قيادة الحزب الحاكم عن محاسبة الإسلاميين الذين كتبوا مذكرة تطلب تصحيح الأوضاع في الدولة والحزب! يا سبحان الله مَنْ يحاسب مَنْ؟ فقد كتب هؤلاء الشباب بصفتهم أعضاءً في الحركة الإسلامية ولا سلطان لقيادة المؤتمر الوطني على الحركة الإسلامية، كما أن تلك القيادة ليس لها أي موقع في أجهزة الحركة المجمدة منذ المفاصلة. وهذا الوضع الغريب الشاذ يحتاج إلى شرح وتفسير حتى يلم هؤلاء الشباب بتطورات الأحداث التي أدت إلى هذه الحالة المؤسفة.
ما كانت الحركة الإسلامية ترغب في اللجوء إلى انقلاب عسكري لتستلم عن طريقه السلطة، فقد استفادت من المناخ الديمقراطي رغم قصر مدته، واستطاعت أن تنمو وتتمدد في القطاعات الحديثة وفي المدن، مما جعلها القوة البرلمانية الثالثة بجدارة في انتخابات 1986م، ولكن طلابها في المرحلة الثانوية الذين التحقوا بالجيش رغبوا في ضم آخرين لهم، فأُذن لهم بحجة أن كل الأحزاب، خاصة الآيديولوجية المنافسة لها، تفعل ذلك وقد نحتاج يوماً ما لحمايتهم. وبعد مذكرة كبار الضباط في فبراير 89م التي أبعدت الجبهة الإسلامية من المشاركة في الحكومة، بدأ التفكير في التغيير العسكري، وكان الخيار الأول أن يحدث من خلال ثورة شعبية ضد «حكومة القصر»، وبالفعل خرج آلاف من شباب الحركة الإسلامية يهتفون ضد الحكومة في شوارع الخرطوم طيلة شهر رمضان في تلك السنة، ولكن الاستجابة الشعبية لهم كانت ضعيفة. وقدم اقتراح الانقلاب العسكري الصرف إلى الهيئة التنفيذية للجبهة الإسلامية «27 عضوا» بحجة أن الحكومة ضعيفة وحالة الجيش يرثى لها وحركة التمرد أصبحت تزحف شمالاً نحو الكرمك وقيسان وقد تهدد الخرطوم، وأن هناك ثلاث محاولات انقلابية تعد لها جهات معادية للجبهة الإسلامية التي ستكون أول ضحاياها «حزب البعث، المايويون، الجبهة القومية وهي شتيت من أبناء المناطق المهمشة»، وأن الغرب لن يدع الإسلاميين يصلون إلى السلطة بطريق ديمقراطي «إسقاط الترابي في دائرة الصحافة نموذجاً»، ثم إن الاستعداد للانقلاب جاهز أكثر من أي انقلاب سابق ومضمون نجاحه. وكانت أكثر الحجج تأثيراً على المجتمعين حجة المحاولات الانقلابية وعلى رأسها محاولة حزب البعث التي أوشكت على ساعة الصفر. وكان التفاهم على مستوى القيادة أن الحكومة العسكرية لا تبقى لأكثر من ثلاث سنوات تعود بعدها الحياة المدنية والتعددية السياسية إلى حالتها الأولى، وحينها ستكون الحركة الإسلامية قد تمددت في مفاصل الدولة والمجتمع مما يمكنها من الفوز الانتخابي في معظم أنحاء السودان. ووافقت الهيئة التنفيذية دون أن تعلم الكثير عن تفاصيل التنفيذ أو شخصيات الحكم.
وبعد نجاح الانقلاب واستلام السلطة وقعت الكارثة الأولى، وهي حل مجلس شورى الحركة الإسلامية، ثم تبعه حل كل أجهزة الحركة. وكانت الحجة الأساسية التي قال بها الشيخ المبدع تبريراً لحل مجلس الشورى: إن الذين يتولون السلطة الدستورية الآن من عسكريين ومدنيين هم «إخوانكم» ويعملون لتحقيق أهدافكم، فكيف تجتمعون لوحدكم وتتخذون قرارات ملزمة لهم دون أن تشركوهم في الأمر؟ ودون أن تستفيدوا من معلوماتهم في أجهزة الدولة التي ينبغي أن تبنى عليها القرارات. ورغم قوة الحجة إلا أن قرار المجلس كان إعادة صياغة الحركة من قواعدها إلى قيادتها وفقاً لمتغيرات السلطة على أساس انتخابي. وقبل الأمين العام مقترح حل مجلس الشورى وجمد بقية القرار لعدة سنوات، وأصبح مجلس الشورى مجلساً معيناً يزدحم بالمسؤولين والوزراء الذين يعينهم شيخ الحركة! وفقدت الشورى أهم مقوماتها وهي الانتخاب وحرية المداولات دون خشية من أحد. وأثرت تقاليد السلطة العسكرية التراتيبية على الحركة المدنية الشورية بدلاً من العكس، فأصبحنا نسمع في أجهزة الحركة: «بالتنوير» من المسؤولين عن الأوضاع بدلاً من التداول لاتخاذ القرار المطلوب، وأن مشكلة قيادة الحركة تأتي من المدنيين وليس العسكريين المطيعين، وأن القيادة مشغولة بتصريف أمور الدولة الضاغطة وليس لديها وقت للتواصل مع القواعد. وقيل لقدماء الأعضاء إن دورهم قد انتهى وجاء دور جيل جديد! وأصبح الحديث عن الحصار على السودان والمؤامرات الأجنبية ضد الحكومة الإسلامية والمواجهة العسكرية مع حركة التمرد مبرراً للقيادة أن تنفرد باتخاذ كل القرارات في غيبة تامة للقواعد ولكثير من القياديين خارج الحلقة الضيقة. وذهبت الاحتجاجات والمذكرات العديدة التي رفعت لشيخ الحركة أو للقيادة الدستورية أدراج الرياح.
وحين جاءت المفاصلة في عام 1999م كانت الحركة الإسلامية من الضعف بمكان، فلم يكن لها دور يذكر في معالجة الأمر، وكانت السلطة وما تحتها من نفوذ هي معيار المنافسة بين القصر والمنشية، فكسب القصر الجولة دون كبير عناء، وانحاز إلى صاحب القصر حيران الشيخ الأقربين بحجة أن السلطة هي أكبر انجاز للحركة فكيف يضيعونها. وعندما استتب الأمر لمجموعة القصر رأت أن ترضي أشواق الإسلاميين بإنشاء كيان لهم دون أن يكون له أدنى دور في الحياة العامة، لأن المؤتمر الوطني سيكون هو الحزب الحاكم الذي يحتكر العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفئوي والثقافي، وسمي التنظيم بـ «الكيان الخاص» ثم بعد ذلك بالحركة الإسلامية، التي تعقد مؤتمراً عاماً كل سنتين أو أربع، ولها أمين عام ينتخب في المؤتمر كل أربع سنوات، ولها مجلس شورى قومي، ومجالس شورى في الولايات، وأمانة تنفيذية في كل ولاية. وحتى يطمئن أهل السلطة إلى أن هذه الحركة لن ترفع رأسها عليهم في يوم من الأيام جعل على رأس كل جهاز من أجهزتها مسؤول تنفيذي كبير في الدولة يأخذ مخصصاته من الحكومة وليس لديه وقت للاهتمام بجهاز الحركة الموكل إليه، وأسندت حراسة اجتماعات الحركة الفارغة المضمون إلى جهاز الأمن الشعبي المرتبط عضوياً ومالياً بالدولة، ونصَّت لائحة الحركة على أن كل عضو فيها هو بالضرورة عضو في المؤتمر الوطني. وقد يكون هذا هو المدخل لمحاسبة الإسلاميين الذين تجرأوا بكتابة مذكرة تنتقد الأوضاع الخربة في الدولة والحزب! ومع كل هذه الضوابط المقيدة لنشاط الحركة اليتيمة زيد عليها أنها حركة غير مسجلة لدى أي جهاز من أجهزة الدولة، وليست معلنة للملأ، وليس لها أي نشاط من أي نوع باسمها، ومع ذلك يحضر مؤتمرها العام رئيس الجمهورية ونائبه الأول وطائفة من الوزراء والمسؤولين والضيوف! فالقصد هو إرضاء الأشواق القديمة التي يكفيها هذا القدر من الوجود الشكلي.
وصرح بعض الصادقين من قيادات الحزب الحاكم أمثال ابراهيم أحمد عمر وأمين حسن عمر وغيرهم، أنه ليس هناك داعٍ لتنظيم آخر للحركة الإسلامية، فتنظيم الحركة الجديد هو المؤتمر الوطني، وشيخ الحركة المبايع هو رئيس الدولة. وكان الله يحب المحسنين! ولكن بعض أساطين المكر يظنون أن غياب الحركة قد يغري بعض المشاغبين أو شيخها القديم بإنشاء حركة إسلامية خارج السيطرة، لذلك من الأسلم إبقاؤها قيد الحبس المنزلي بكل تلك الشروط المكبلة التي تجعلهم يأمنون جانبها من كل الوجوه. وآن للحركة الإسلامية التي جاءت هذه السلطة على ظهرها، وحكمت باسمها لأكثر من عشرين عاماً، وفعلت بالبلاد والعباد ما فعلت، أن تسترد كيانها المغتصب وحقها المهضوم، وأن تبرز مرة ثانية للوجود تنظيماً مسجلاً ومعلناً ومستقلاً. وهذه الململة السائدة حالياً في أوساط الإسلاميين علامة صحة وعافية، وعليهم أن يقطعوا الشوط حتى نهايته، فلن يخسروا سوى الأغلال التي كبلوا بها والسمعة السيئة التي لحقت بهم من جراء فعائل الدولة الغاشمة!!
aalabdin1940@yahoo.com