حكاية لافروف مع مريم الصادق، زي حكاية محمد أحمد محجوب مع جمال عبدالناصر!

 


 

 

* كان ملف سد النهضة وملف القاعدة الروسية في السودان على طاولة التفاوض بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيرته السودانية مريم الصادق المهدي، في موسكو، حين "ألمحت السيدة مريم إلى أن إنشاء القاعدة سيعتمد، إلى حد كبير، على الحل الإيجابي لعدد من القضايا الأخرى، التي تعتمد فيها الخرطوم على تفهّم موسكو لها وتقوم بدعمها..

* لم يدر بخلد السيدة الوزيرة أنها كانت تزرع بذوراً في وادٍ غير ذي زرع.. وأن رحلتها لملاقاة رصيفها الروسي كانت رحلة فاشلة قبل القيام بها!

* كتب موقع (سبوتنيك) الروسي بعد يوم من لقاء وزيري خارجية البلدين:-"وقَّعت إثيوبيا وروسيا، اليوم الاثنين، اتفاقية تعاون عسكري بعد مناقشة مجالات عدة للشراكة لمدة ثلاثة أيام، حسبما ذكرت وسائل إعلام إثيوبية.... وقالت مارثا ليويج، وزيرة الدولة للشؤون المالية في قوة الدفاع الوطني الإثيوبية، إن الاتفاقية الموقعة سيكون لها أهمية قصوى في تحويل العلاقات طويلة الأمد بين البلدين إلى مستوى أعلى."

* أيها الناس، يبدو أن سذاجة السيدة الوزيرة لم تمكنها من قراءة العلاقات الإثيوبية الروسية جيداً قبل سفرها لكسب دعم موسكو ضد إثيوبيا.. ولم تُعِّد نفسها إعداداً نفسياً لتوقع مثل تلك الصفعة الدبلوماسية الني نالتها بعد يوم أو يومين من لقائها الوزير الروسي..

* ربما حسبت الوزيرة أنها تلعب لعبتها الدبلوماسية المبتدئة تلك مع لافروف، أيقونة الدبلوماسية الروسية المعاصرة، ولم تكن تدري أن الدبلومسية ليست لعب عيال.. وأنْ التأتأة ( I don't know how to put it!) في غياب الجُمَل (المُرَتَبة) مسبقاً، طريق للفشل الدبلوماسي..

* لا ريب في أن لافروف أعطى الضوء الأخضر لمن يهمهم الأمر من الإثيوبيين والروس ل(إطلاق) ذلك الإعلان على الهواء مباشرة، فكان ما كان من إحراج!

* هذه الواقعة تجبرني للحديث عن واقعة شبيهة لها تمت في لقاء جرى بين وزير خارجيتنا الأسبق، محمد أحمد محجوب، وبين الرئيس جمال عبدالناصر، إبان التوتر بين السودان ومصر حول مثلث حلايب وشلاتين في خمسينيات القرن المنصرم..

* وأقتطق أدناه جزءاً من حكاية المحجوب مع عبدالناصر دون أدنى تدخل، وتقول الحكاية:-
" إلتقى وزير الخارجية محمد أحمد محجوب بالرئيس جمال عبد الناصر منتصف نهار يوم 19 فبراير عام 1958. كان عبد الناصر ودوداً ومهذباً مع المحجوب، وظل يخاطبه خلال الاجتماع بـ "الأخ محجوب." عرض الرئيس عبد الناصر على السيد المحجوب مقترح ألّا تُجرى انتخابات سودانية أو استفتاء مصري في حلايب، وأن تناقش الدولتان مسألة حلايب بعد الانتخابات والاستفتاء. غير أن المحجوب رفض ذلك الحلَّ الوسط وأوضح للرئيس عبد الناصر تبعيّة حلايب للسودان دون شرطٍ أو قيد. تواصل اجتماع المحجوب مع الرئيس جمال عبد الناصر حتى نهاية ذلك اليوم، ولكنّ الطرفين فشلا في حلّ النزاع من خلال التفاوض.

في حوالى الساعة الخامسة عصر ذلك اليوم أوضح السيد المحجوب للرئيس عبد الناصر أنه حاول الاتصال هاتفياً ببعثة السودان للأمم المتحدة في نيويورك، لكن يبدو أن الأمن المصري يقف في طريق تلك المكالمة. ابتسم الرئيس عبد الناصر وسأل المحجوب إن كان لدى السودان الإمكانيات للتنصّت على المكالمات الهاتفية، وعرض عليه تدريب سودانيين في مصر للقيام بتلك المهمة. شكره المحجوب وأخبره أن السودان يملك تلك الإمكانيات ويقوم فعلاً، مثل مصر، بالتنصّت على المكالمات التي يعتقد أنها تهدّد أمنه.

أخذ الرئيس عبدالناصر السيد المحجوب إلى مكتب مجاور وسلمه سماعة الهاتف وهم بالخروج. غير أن المحجوب طلب منه البقاء قائلاً "سيخبرك رجال الأمن المصري بمضمون المكالمة لاحقاً فلماذا لا تسمعها أنت بنفسك مباشرةً مني الآن؟" بعد قليلٍ من التردّد بقي الرئيس عبد الناصر في نفس المكتب مع السيد المحجوب.

رفع المحجوب سماعة الهاتف وعندما تمّ توصيله بالمندوب الدائم للسودان في الأمم المتحدة في نيو يورك ذكر المحجوب في تلك المكالمة كلمةً واحدةً فقط باللغة الانجليزية وهي: Release وترجمتها "إطلق." ثم أعاد المحجوب السماعة إلى مكانها وسط دهشة الرئيس عبد الناصر. بعدها بقليلٍ غادر المحجوب قصر القبة إلى سفارة السودان بالقاهرة ثم إلى منزل السفير، ومنها صباح اليوم التالي إلى الخرطوم.

وهكذا انتهت زيارة المحجوب إلى القاهرة بالفشل التام في حسم نزاع حلايب ودياً وسلمياً. ووضح فشل الزيارة في عدم اشتمالها على دعوة العشاء التقليدية من مصر ورئيسها ووزير خارجيتها للسيد وزير خارجية السودان الذي كان في زيارة رسمية للقاهرة، والذي كان يُفترض أن ينزل في ضيافة الحكومة المصرية في قصر الطاهرة.

غير أن ذلك الاجتماع كان من الاجتماعات المصرية السودانية القليلة التي اتسمتْ بالندّية الكاملة بين طرفي الاجتماع، والاحترام التام للجانب السوداني من الجانب المصري.

في 20 فبراير عام 1958 رفع السودان شكوى رسمية لمجلس الأمن الدولي في نيويورك. كانت كلمة "إطلق" التي اشتملتها مكالمة السيد المحجوب الهاتفية لسفير السودان في نيويورك كلمة سرٍّ اتفق المحجوب مع سفيره أنها تعني تسليم شكوى السودان ضد مصر بخصوص حلايب إلى مجلس الأمن الدولي إذا فشلت مفاوضاته مع الرئيس عبد الناصر. كان المحجوب يعرف أن مكالماته في القاهرة سيتمُّ التّنصّتَ عليها لذا احتاط لذلك الأمر.

اجتمع مجلس الأمن في 21 فبراير عام 1958، ووقتها تراجعت مصر، بناءاً على بيانٍ تلاه مندوبها السيد عمر لطفي، عن قرارها بعقد الاستفتاء، وسمحتْ في نفس الوقت للسودان بإجراء انتخاباته في حلايب. كما أعلنت مصر سحب فرقتها العسكرية من المنطقة. عليه فقد قرّر مجلس الأمن حفظ شكوى السودان والاجتماع لاحقاً بناءاً على طلب أيٍ من الطرفين....."

إنتهى المقتطف من الحكاية..

* كم كنت عظيماً يا سوداننا العملاق، أيام كان فيك عمالقة!!

osmanabuasad@gmail.com

 

آراء