حلت جهاز الأمن

 


 

 

الانتفاضة...وفقدان الذاكرة الأمنيه

 

اعداد: خالد البلوله ازيرق

 

dolib33@hotmail.com

 لم تكد البلاد تفيق من نشوة ازالة العهد المايوي بيومين، حتى صحبت بعد أقل من "48" ساعه على قرار حل جهاز أمن الدوله من قبل المجلس العسكري الذي سيطر على السلطه في السادس من ابريل 1986م بعد اعتلائه للسلطه. ليجد اعضاء جهاز الأمن ومنسوبيه انهم تحت حصار الجيش الذي احاط بكل المبانى المخصصه لعمل جهاز الأمن، تنفيذا لقرار المجلس العسكري الخاص بـ"تصفية جهاز أمن الدولة واعتقال كل ضباطه".وهو القرار الذي صارت بعده خزنة اسرار السودان مفتوحة على مصراعيها لمن يريد، حيث لم تجر أية عملية تسليم وتسلم، قبل أخذ ضباط الجهاز الى سجن كوبر، ليصبح مقر الجهاز مسرحاً لإختراق هائل من الأحزاب السياسية من جهة التى تبحث عن المعلومات في الملفات، ومن جهة تحاول أخرى جاهدة طمس وإخفاء معلومات مسجلة عنها، وحتى أجهزة الإستخبارات الأجنبية تمكنت من الولوج الى مقر الجهاز بعد اعتقال ضباطه وتخيروا منه حاجتهم من المعلومات، ولم يقم المجلس العسكري بالتحفظ على خزائن المعلومات والسجلات وتأمينها من التسرب.حيث رسم العميد عبد العزير والعقيد هاشم ابو رنات صورة لما حدث لمقر ومبانى جهاز الأمن في مؤلفهما "اسرار جهاز الاسرار" بأن عملاء يتبعون لجهاز الأمن كانوا مزروعين في دول أخرى انقطع الاتصال بهم فجأة، وعملاء كانوا في وسط الغابة مزروعين في الجيش الشعبي لتحرير السودان، وعلاقات مع بعض المعارضين لأنظمة أخرى صاروا كلهم في عراء لا ساتر فيه إلا الصدفة المحضة، وفي الخرطوم بدأت تنتشر الإشاعات والإشاعات المضادة، تتهم أشخاصاً بعضهم رموز في المجتمع بأنهم كانوا ضباطاً في جهاز امن الدولة، و وقعت بعض الصحف في كمين هذه الإشاعات وصارت بقصد أو بغيره تروج لها.وقد شكل قرار حل جهاز الأمن صدمة كبري لكثيرين خبروا العمل الأمنى، وقوبل بكثير من الإنتقاد حتى بدأ يتبرأ منه كل من ساهم فيه، ويري أمنيون أنه بحل جهاز الأمن إنهارت منظومة الأمن القومي في السودان مباشرة بعد صدور قرار "تصفية جهاز امن الدولة" حيث استبيحت ثروة المعلومات الاستخبارية لدى الجهاز، وقد تعرضت الملفات الشخصية للسودانيين بجهاز الأمن للعبث بها، وكان عددها (6805) ملفاً وقت التسليم وتحوي معلومات عن (18.675) شخصا من السياسيين ومختلف الفئات التي لها نشاط سلبي أو إيجابي متعلق بالأمن، وبدأت بعض الأحزاب تستخدم هذه المعلومات في الابتزاز وتصفية الحسابات السياسية. وكان د.الجزولي دفع الله رئيس مجلس وزراء الحكومة الانتقالية التي تكونت عقب انتفاضة 6 أبريل 1985م، قد ارجع قرار حل الجهاز للمجلس العسكري وقال "إن قرار حل جهاز الأمن أصدره المجلس العسكري قبل تكوين مجلس وزراء الحكومة الانتقالية، ولعل المبررات التي سيقت لذلك هي السمعة السيئة التي ارتبطت بجهاز الأمن والممارسات السلبية التي أصحبت أداءه، والتي رشحت في تلك الفترة بصورة غير مألوفة، ويضيف كان بالإمكان تلبية هذه المطالب الجماهيرية دون اللجوء لحل جهاز الأمن". فيما ذهب آخرون الى ان قرار حل جهاز أمن الدولة قرار سياسي أملته الظروف الآنية وقتها، حيث كانت الإرهاصات تدور حول أن جهاز أمن الدولة يمتلك قوة ضاربة قوامها "5000" من الجنود وأنهم يرتبون لانقلاب مضاد للانتفاضة كما قامت العديد من المظاهرات تطالب بحل جهاز الأمن.وكانت مظاهرات طافت أرجاء العاصمة القومية مطالبة بحل جهاز الأمن وكانت أعنف تلك المظاهرات تظاهرة اقتحمت سجن كوبر وحررت جميع السجناء، وتم إخلاء سبيل المعتقلين السياسيين من خلال الدفع الجماهيري للمظاهرة، وفيما كان الإعداد يجري لمظاهرة أخرى لاقتحام مباني جهاز الأمن، تدارس المجلس العسكري احتمالات ما يمكن أن يترتب على ذلك الاقتحام من أضرار تتمثل في ضياع واحتراق الوثائق، مما دفع المجلس العسكري أن يقرر إعلان حل جهاز الأمن والتحفظ على منقولاته ووثائقه. فيما يقول عسكريون إن المجلس العسكري لم يحل الجهاز في البداية، والقرار الذي اتخذه هو تصفية الجهاز، أى تنقية الجهاز من الشوائب وابعاد العناصر الفاسدة مع الاحتفاظ بالكفاءات والخبرات، ويري البعض أن حل جهاز الأمن ترتبت عليه آثار عديدة فالبلاد فقدت ذاكرتها الأمنية، وحكومة الديموقراطية الثالثة جاءت بدون ذاكرة وعاشت معاناة بسبب عدم وجود جهاز يمدها بالمعلومات الاستخباراتية والتقارير الاستراتيجية، الأمر الذي سهل على الآخرين اختراق الوطن أمنياً، وادى الى خلق نوع من عدم الاستقرار السياسي والأمني في تلك الفترة. ويشير العميد أمن "م" حسن بيومي في كتابه (جهاز أمن الدولة أمام محكمة التاريخ) أن القيادة العسكرية التي تسلمت السلطة بعد سقوط النظام المايوي واجهت ضغوطاً كثيرة من أفرع القوات المسلحة الأخرى ومن القوى السياسية الممثلة في التجمع الوطني النقابي والتي كانت تطرح خيارين، ذهاب المجلس وتسليم السلطة أو حل جهاز أمن الدولة، ويورد بيومي في كتابه أن المجلس العسكري اختار أن يحل جهاز أمن الدولة لأنهم تخوفوا أن يحدث لهم ما حدث لأعضاء المجلس العسكري إبان حكومة عبود حيث انتهى بهم المقام في السجن، لذلك فضلوا السلامة وانصاعوا لخيار حل جهاز أمن الدولة، ويشير بيومي أن العديد من أعضاء المجلس كانوا في جانب عدم موافقتهم على قرار حل الجهاز إلا أنهم ظلوا متحفظين ولم يكشفوا عن حقيقة الضغوط التي تعرضوا لها ولزموا الصمت.ويشير مراقبون الى ان ما حدث لجهاز الأمن يعد سابقة في التاريخ الأمنى، فقد واجهت البلاد بسببه مؤامرات خطيرة واستهدافات خارجية، خاصة من أثيوبيا في عهد منقستو والدعم لحركة التمرد وقتها من الدول المجاورة، حيث كانت معلومات الجهاز متاحاً لكل هذه الدول، ومعلوماته التى كان يمتلكها كلها صارت في ايدي من يطلبها، حيث إن (6) من القناصل الاثيوبيين الذين كانوا مجندين في قسم المخابرات المضادة، والذي كان يقوده العميد أحمد الجعلي، تم اعتقالهم وعرفتهم المخابرات الاثيوبية، وأدركت أنهم العملاء الذين كانوا يوصلون المعلومات لجهاز الأمن السوداني. فانهارت بهذا القرار المنظومة الأمنية الوطنية بأيدي السودانيين أنفسهم، مما أدى لكشف كثير من المعلومات والعناصر التى كانت تعاون مع الجهاز مما سهل من ضربها وغلقاء القبض عليها خاصة في دول الجوار الافريقي. وكان السيد الصادق المهدى رئيس الورزاء قال بعد تسلمه الحكومة بعد انتخابات 1986م، في احتفال بالاكاديمية العسكرية العليا "ان رئيس حكومة الانتفاضة الدكتور الجزولي دفع الله، قال له حين سلمه السلطة "اني اعتذر لكم يا سيادة الرئيس مرتين، مرة عن حل جهاز أمن الدولة، والاخرى عن عدم تسليمك جهازا بديلا"، كما قال الصادق المهدي في حديث صحفي أن من اسباب سقوط حكومته في يونيو 1989م ارجعه الى "انه لم يكن لديه قرنا استشعار" أى لم يكن لديه جهاز أمن كفء.  ويذهب معاصرون لتلك التطورات التى قادت لحل جهاز الأمن من قبل المجلس العسكري، الى أن من اكبر القضايا التى دعت لترويج لحل جهاز الأمن في تلك الفترة إتهام الجهاز بإشراف على ترحيل "الفلاشا" الإثيوبيين الى إسرائيل مطلع الثمانينان، ولكن العميد أمن حسن بيومي قال في كتابه "معضلات الأمن والسياسة في السودان" ان قضية تهريب الفلاشا من اثيوبيا عبر السودان الى عواصم اخرى ليستقروا في اسرائيل هي خطة حبكتها جهات اجنبية، جانب منها تشويه سمعة جهاز امن الدولة السابق الذي جرى حله في ابريل 1985 تمهيدا لتهيئة الاجواء الداخلية لضربه وتشريده، وكشف ان قرار ترحيل الفلاشا جاء بالموافقة من الرئيس السابق جعفر نميري بالترحيل الى خارج البلاد وليس الى اسرائيل.      

 

آراء