” حلمنتيش ” ثقافةٌ منخفضة السَقف

 


 

 




(1)

لم أجد تخريجاً لـ " حلمنتيش " ،
فسألنا المعجم الوسيط فتخير لنا أقرب الأقربين :
الحَلَمُ : القُـرَاد الضّخم ، أو الصغير
الحَلَمةُ : القُـرَادة الضَخمة أو الصغيرة
والحَلَمةُ : دودة تقع في الجلد فتأكله ، فإذا دُبِغَ تَخَرَّقْ وتشقَّقْ .

(2)

سنضطر أن نُغلظ على هذا المُسمى الذي شهدنا مولده أوائل السبعينات من القرن الماضي ، وتكاثُر المُتحلّقون حوله . وتندرنا يومها على الإسفاف .
هذا المولود الذي يسمونه " الشعر الحلمنتيشي "،مرآة صادقة للمشاعر السالبة التي اجتاحت أول حيوات بعض الشباب في الجامعة على عهد جديد بالدراسة الجامعية المُختلطة . نظروا لأمرهم على أن شباباً في مُقتبل العُمر التقوا بالإناث ! . تضخيم "الجندر" والتقليل من شأن رفقة الدرس وصحبة أهل العلم . للحياة الجديدة صدمة التجربة الأولى ، واختبار أن يكون العقل الواعي هو الرسول لتصبح أنتَ مُتقدماً تتخطى العتبات الغلاظ وتنجح تجربة أن يدرس الطالب برفقة زميلته أو أخته ،بعيداً عن رغائب الجسد وأزمات البلوغ

(3)

الجميع في حاجة ليُصححوا التعليم الجامعي والدنيا الجديدة ، محاولة من الجميع اللحاق بالأمم الإنسانية التي عرفت حقوق المرأة وسعت بخطى ثابتة لإزالة مقولات مثل : ( البيت للمرأة والعمل للرجل ) ، والتي أعلت حق المرأة ليسابق الطريق ليكن مثل حق الرجل . لها ما عليه في العلم من حقوق وواجبات .
لكنا شهدنا في " هيئة حلمنتيش العليا " : الوجه الفاشل من تلك العلاقة ، فصارت ملتبثة ، ملغومة بالنزوات العارضة والتصريح الفجّ ، والضحك البائس بأسنان صفراء .فأخرجت زلات العقول الباطنة وهي تمشي بالرغائب التي يستحي منها كل فرد سوي . قال قائلهم :
) جات ماشا في المكتبة .. طقْ.. طَرَقْ ، طقْ .. طَرق) .
أيُعقل هذا النبر الإيقاعي وأنت تسمع ضحكات السابلة ، ولهفة الذين رءوا الجامعة  " بوشة حَريم " !! ، نعم هذا هو تراثهم الثقافي وإبداعهم المأمول أن يسهم في بناء المجتمع ، بل ليعود بالمجتمع إلى رياض التُقى والصلاح !!!. أي تقى وأي صلاح !؟

(4)

هذا العطش الذي سقته شرايين الكبت الجنسي ، جاء يتوثب متوسلاً طرائق الفكاهة في اشتباك النقائض وطرافة التضاد . تجمعت الرغائب الدفينة ، تسربت من الأجساد إلى العقول فخْفّت موازينها . كان يتعين ترويضها ليصبح سلوكاً قويماً في معاملة الأخت أو الزميلة معاملة التحضُر وإكرام المؤسسة التعليمية التي تجمع ويكون الإنسان فيها مُكرماً ، وهي من موجبات السلوك الذي تأمر به الأعراف والأديان جميعاً والأخلاق التي أكثر الذين يصرخون بها : هم الذين تنزّ أعيُنهم بالغرائز ، مثلهم مثل أهل السلطان !. فكيف بالذين يقولون عن أنفسهم أنهم أهل الهداية والرَشد ، الذين يتوسم الطيبون من أهلنا القدوة فيهم ، ولكن خاب الظن فالأنفس المشوهة هي التي افرزت غرائب المسلك وسقطات النفس .كنا نرى بأعيُننا " هيئة حلمنتيش العليا " أو أفرعها المنتشرة في بِرك الثقافة الضحلة  التي تضج بحشرات المستنقعات ، والقائمين عليها وهم يحتفون بالسقوف المنخفضة من النثير العامي الضحل . قتل الفراغ البئيس هو همّ الذين أفرحهم مكر الغرائز ومدّها بقرون الاستشعار وهي تتوثب للنهوض . تتحدث عن " فتنة تقريب الحجر من البيضة " !؟ .
قد يقول قائل يدفع عنهم تُهم السقوط : هو فن الإضحاك ! ؟

إنه بالفعل  مغطس الإسفاف دون شك ، والسابحون كُثر . وليس من زمان نُداري فيه تلك السوءة .حتى جاء يوم في تاريخ الأمة ، ليصعد الذين "وجدوا من تلفزيون السلطة الآمرة مكاناً  " في " حلمنتيش " ليتربصوا تلك الملذات المختبئة من وراء  عقائدهم الدفينة بالتُقى  لردم الغرائز في مُقبل أيامهم بمثنى وثلاث ورُباع من مال السُحت الحكومي  . كيف لا ، وقد أفسح لهم السلطان بالقول الصراح وعزّة المال الذي هو معروف أصله ، ومبتور نسبه !.

(5)

ها هو" المحبوب عبد السلام " القيادي الأسبق و "الإسلامي المرجعية" يكتُب ، عن النـَظم "الحلمنتيشي" كأنه انجاز شِعري أو غزو أدبي ، أو فلاح ما بعده فلاح !؟ . يحكي عن تسارع المنتمين للحركة الإسلامية لمنابر " حلمنتيش " ، يجلسون ويعتصرون الأذهان ، كأنهم يصعدون تلال الأدب وقمم الثقافة !.
أنعمَ على هؤلاء التلفاز السوداني  بسهرات مدفوعة الأجر ، قيل : تسلية للمشاهدين والمشاهدات !!. ويتقيأ القوم كل المَخازي " الحلمنتيشية " . حضروا وجلسوا وتقرفصوا في انعطافة العُمر في سن الشيخوخة ليجترّوا مَخازي شبابهم الذي كنا نظن بأنه اندفن معهم في طيش الجامعة ، ولكن لحداة الطيش من معركة تنتظر هزيمتهم الساحقة في مجال الأدب والفن ، وانهار المشروع منذ ايامه الأولى ، وعَظُمت هزائمه .
تحدث " المحبوب " عن الفن والموسيقى والشِعر ..!!!! :
أي فن وأي موسيقى وأي تشكيل هذا الذي يتحدث عنه ؟ .!!!
كل هؤلاء ركبوا عجلة الزمن وجاءوا إلينا من وراء القرون ،
فاسكُتي يا جراح واسكُني يا شجون ...

(6)

المراجع التي أثارت حفيظتنا :
اقتباسات من كتاب " المحبوب عبد السلام ":
( الحركة الإسلامية السودانية دائرة الضوء .. خيوط الظلام )
وكاتبه يكتُب  عن شباب الدعوة الإسلامية ورؤاهم الثقافية :
(أ)
كتب في صفحة (31 ):
" كذلك أحيت أيام السجن ولياليه أصوات الإبداع الشِعري والأدبي والمَسرحي في مناصر الحركة ، وبعد أن شهدت أوائل العقد السبعين ظاهرة الشِعر " الحلمنتيشي " بين طلاب الجامعة ، وقد انتمى عددٌ منهم إلى الحركة الإسلامية ، ..."
(ب)
وكتب في صفحة ( 31 ): في زيلها ( فوت نوت ) :
17: " اشتهر من شعراء حلمنتيش محمد الجاك الصراف ، د. أحمد الأمين ، محمد النجومي .
(ج)
وكتب في صفحة ( 32) :
"وفي ليلة السابع عشر من رمضان من العام الميلادي 1983م قدم الدكتور حسن عبد الله الترابي محاضرة ( حوار الدين والفن ) بمسجد جامعة الخرطوم ، وكانت بمثابة إعلان يتجاوز الإباحة إلى ضرورة الفن وجهاً للعبادة ، وسبيلاً لإعمار الحياة ، يوشِك أن يكون ضرورة في حياتنا المعاصرة ، وأن حِوار الفن والدين يجيء في ذكرى بدر إذ تقابل الحقُ والباطل ، وحيثُ ينبغي أن يتناصر اليوم الحق تجاوباً مع حاجة المؤمن المعاصر .
لكن تأسيس الفرق والمجموعات الموسيقية والمسرحية تأخر سنوات رغم دخول أعداد من الحركة إلى معهد الموسيقى والمسرح وتخرجهم فيه ، بأسباب من شواغل السياسة . أما الفن التشكيلي فقد ظل غائباً عن همّ الحركة ونشاطها ، ولم تشغل معَارضُه أي جزء في برنامج الحركة ، ورغم وجود أعداد مُقدرة من الموهوبين الهُواة والخطاطين والمُصممين الذين يحررون صُحف الحركة اليومية ومعارضها الرسمية ، ورغم وجود تشكيليين رواد في عضوية الحركة منذ الخمسينات.

(7)
لاحظ معي ( أعداداً مُقدرة ) : إنها الوصفة الحربائية لفاقد القدرة على الضبط والإحصاء !.
أي ثقافة يتمتع بها أعضاء التنظيم ، شيبه وشبابه؟! ، فالإبداع والخلق كلمات مُحرمة في قاموسهم ، والطاعة هي ما يتفاضلون في تنفيذها !. في فكرهم الخلق  كفر صراح ، فليس في أحلامهم أن الإنسان له قدرة على الخلق .أما النص القرآني {...وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }المائدة110 ،
يمرون على مثل الآية القرآنية  مرور الكرام ، ففاقد الشيء أبداً لا يعطيه . ما أصعدهم سُدة الحكم بتقافز هي : ( الفكرة ، التنظيم ، القوة ، التمكين ) . إنها مفاتيح الوصول السريع للسلطة ، ثم يأتي السقوط الأعظم الذي نرى الآن عروشه  تهتز من أساسها تنتظر نفخة الريح ...

عبد الله الشقليني
15/3/2010




عبد الله الشقليني

abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء