حمدوك و خيارات التحول الديمقراطي

 


 

 

أن الشعب السوداني من خلال مسيراته المتعددة أكد على قاعدة أساسية هي " الدولة المدنية الديمقراطية" و أصبحت هي القاعدة التي يجب أن ينطلق منها كل فعل سياسي لكي يجعلها واقعا سياسيا اجتماعيا في البلاد. و هذا الفعل السياسي يواجه تحديات كثيرة، بسبب اختلافات المرجعيات السياسية، و كل قوى تريد أن تؤسس هذه الدولة على الشروط التي تقدمها، الأمر الذي يخلق صراعا جانبيا يعطل عملية التحول الديمقراطي، و في نفس الوقت الثقافة المضادة للديمقراطية القائمة على ثقافة التخوين و الاتهام، التي تبين محدودية الأفق السياسي.
أن واحدة من اعقد مشاكل الديمقراطية في السودان ضعف الثقافة الديمقراطية، و سيادة الثقافة الشمولية التي خلفها النظام السابق، و أيضا ضعف الأحزاب التي تعتبر من أهم مصادر إنتاج الثقافة السياسية، أي ألتي يقع عليها عبء إنتاج الثقافة الديمقراطية التي تشكل بديلا للثقافة السائدة، و المراقب السياسي يلاحظ أن هناك سيادة للشعارات الديمقراطية في الساحة، و في نفس الوقت يلاحظ أيضا أن الممارسة تخالف تلك الشعارات، إذا كان ذلك من قبل الأحزاب و حتى من قبل الوسائل المساعدة " الإعلام و الصحافة" التي من المفترض أن تلعب دور الاستنارة في هذه الفترة التاريخية للتحول الديمقراطي، و أن تفتح الباب لكل تيارات الفكر في المجتمع أن تقدم أطروحاتها لبناء السودان الديمقراطي. خاصة أن الحوار سوف ينقل المجتمع من ممارسة العنف التي خلفها النظام، لثقافة القبول بالأخر الذي يمتلك جزء من الحقيقة الغائبة، لآن الهدف المطلوب تحقيقه هو تأسيس و تجذير الثقافة الديمقراطية في المجتمع، و الحوار الذي ترفضه بعض القوى السياسية يعد أهم ركيزة للديمقراطية.
عندما خرج الشارع ضد نظام الإنقاذ قال شعارا واحد " تسقط بس" التفت حوله كل الجماهير منتمية و غير منتمية و سقط النظام، و أردفته الجماهير بشعار " حرية سلام و عدالة" لكن ضعف الثقافة الديمقراطية في المجتمع، فشلت القوى السياسية التي كانت قابضة على زمام الفترة الانتقالية أن تحول هذا الشعار لواقع تدعمه المؤسسات الديمقراطية المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية. و هذا الذي عبر عنه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في مبادرته المسمى "الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال: الطريق إلى الأمام" بين فيها أن البلاد في حالة لمشروع سياسي يلتف حوله الجميع، و يشكل المرجعية السياسية للجميع في فترة الانتقال، و المعروف أن المشروع يجعل الكل يتنازل خلال هذه الفترة عن المصالح الحزبية و الشخصية الضيقة لمصلحة الوطن، لأنه سوف يرتبط بعمية البناء و النهضة، و أيضا أشار إلي حالة الخلاف بين جميع المكونات المدنية و العسكرية، و جاء في المبادرة أن الخروج من الأزمة يجب العمل من أجل توسيع قاعدة المشاركة الاجتماعية و السياسية بهدف منع التوترات التي تصرف الناس عن عملية البناء. لكن للأسف أن المبادرة أجهضت من قبل بعض القوى للنظرة الاحتكارية الضيقة للعمل السياسي و رفضهم توسيع قاعدة المشاركة.
الغريب في الأمر: أن القوى السياسية، و حتى أغلبية النخب السياسية و المثقفين، يعلمون أن البيان الذي وقعه حمدوك مع البرهان لم يكتبه حمدوك، و لم يكتبه العسكر، بل كتب من قبل عناصر تنتمي للقوى السياسية، و من ضمنهم رؤساء أحزاب في " قحت المجلس المركز" و يعلمون أن هؤلاء هم الذين سلموا حمدوك البيان السياسي، و هناك من سلمه للعسكر، و كان الهدف من ذلك أحداث أختراق في الأزمة التي خلقها الانقلاب، و جعلها حمدوك فرصة يجب أن يغتنمها لإخحداث أختراقا للأزمة السياسية و الانتقال لمربع جديد يسترجع فيه القرار للمدنيين، حمدوك استطاع أن يفكر خارج الصندوق رغم الحصار المضروب عليه، لكي يثبت أن رجاحة العقل ضرورة في مثل هذه التحولات السياسية المليئة بالتحديات.
قالت مريم الصادق وزيرة الخارجية السابقة و القيادية في حزب الأمة " لقناة الجزيرة مباشر" أنها حضرت اجتماعا في منزل رئيس حزب الأمة اللواء برمة ناصر، و أنها سمعت أن عدد من رؤساء الأحزاب كان مشاركا في صياغة " البيان السياسي" لكنها قالت هؤلاء كانوا يمثلون أنفسهم " كيف رئيس حزب يشارك في عمل سياسي يكون يمثل نفسه" المهم أن حمدوك وافق على التوقيع كما قال لثلاث أٍسباب. الأول أن يحقن سلسال الدم في البلاد الذي يجري. و الثاني أن لا تضيع المكاسب الاقتصادية التي تحققت مع المجتمع الدولي و منظماته. الثالث أن يعيد عجلة التحول الديمقراطي لمسارها الطبيعي لكي تتحقق الدولة المدنية الديمقراطية. نجد أن المجتمع الدولي أيد الخطوة و اعتبرها خطوة في طريق الحل، و أيض أيد الاتفاق رئيس بعثة الأمم المتحدة " يونيتامس" فولكر بيرتس الذي قال لقناة " الحدث العربية" أن الاتفاق قد جنب السودان إراقة الدماء و الحرب كما يحدث في سوريا و اليمن و ليبيا، و في نفس الوقت؛ أعاد عملية التحول الديمقراطي لمسارها الطبيعي لكنها خطوة تحتاج لخطوات أخرى" و حمدوك بالفعل بعد توقيعه على البيان السياسي قد أحدث أختراقا في جسم الانقلاب العسكري. و يحتاج إلي افعال أخرى لكي يجعل الخطوة تسير في الطريق الصحيح دون معارضة من المكون العسكري.
لكن تصبح الأسئلة: هل حمدوك يستطيع الاستفادة من هذا الاختراق في تعزيز مسار الديمقراطية لكي يصبح واقعا سياسيا؟ و هل النخبة السياسية قادرة أن تتحول من الفعل السالب الذي يقف عند الإدانة و الشجب " ثقافة العجز" إلي الفعل الإجابي الداعم لعملية الاستفادة للاختراق؟ و هل النخب لديها خيارات أخرى؟ و لماذا لا تقدمها؟
أن الاجابة على السؤال في ظل حالة الاحتقان الحاصلة الآن داخل النخب السياسية التي من المفترض أن تقود العملية السياسية يصبح صعبا، لآن الاختراق يحتاج أن تتكاتف النخب السياسية التي لها القدرةعلى تقديم المبادرات و طرح الأسئلة المطلوبة أن تدعم رئيس الوزراء في عملية التحول الديمقراطي، و تقدم كل ما تقدر عليه من البرامج و المبادرات و تجعلها اختبارا حقيقيا إذا كان الاختراق يستطيع أن يحدث تحولا مطلوبا أم أن هناك صعوبات حقيقية تواجهه، لكن الاكتفاء فقط بالإدانة و التخوين هو سلوك سلبي، يؤكد أن النخب التي تميل إليه لا تمتلك القدرة على الابتكار و صناعة المشروعات. و في نفس الوقت كان عليها أن تجعل حالة اليقظة الموجودة في الشارع الآن داعمة لهذا الاختراق، و متابعة لعملية التحول الديمقراطي، و رافضة تماما أي تدخل في مسار هذا العمل. لكن السؤال أيضا هل النخب السياسية قادرة أن تفكر خارج الصندوق الذي تحاول بعض القوى أن ترقمهم بعدم التفكير خارجه لمصالح حزبية ضيقة؟
أن حمدوك تقدم خطوة أخرى إضافة للمبادرة التي كان قد قدمها قبل الانقلاب، و اجهضتها قيادات المجلس المركزي. لكنه الآن يحاول خارج دائرة الضغوط. و مطلوب من النخبة السياسية و المثقفين أن يساعدوه على العبور و ليس الوقوف على السياج. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء