حوار بلا إرادة إرادة للإصلاح والتغيير … بقلم: خالد التيجاني النور

 


 

 


tigani60@hotmail.com

لم يشهد السودان دعوات لا حصر لها باسم الحوار الوطني كما دعا له نظام الحكم الحالي خلال العشرين عاماً الماضية، ومع ذلك يسجل التاريخ أن البلاد لم تشهد حالة عدم استقرار سياسي وانتشار لحركات التمرد والمعارضة المسلحة كما عاشتها خلال العقدين الماضيين. والسؤال البدهي الذي يطرح في هذا المقام، لماذا ظلت دعوات الحوار المتكاثرة هذه ليست غير منتجة فحسب، بل أثمرت نتائج عكسية من مظاهرها أن الصراع السياسي الذي تطور إلى نزاع مسلح والذي كان مقتصراً على أزمة الجنوب لعقود خلت، امتد لتصيب حمى الحروب الأهلية أطراف البلاد الأربعة، وأصبحت البلاد جراءها عرضة لتدخلات دولية على نحو غير مسبوق في أوضح دليل على مدى عمق أزمة النظام السياسي السوداني التي تفاقمت خلال العهد الحالي.
والتساؤل المشروع الذي يبحث عن إجابة شافية، أين هي المشكلة؟، أليس من المفترض أن يكون الحوار سبباً في الإصلاح وتحقيق الاستقرار بفضل إنتاج نظام سياسي محل قبول ورضا الجماعة الوطنية يمتلك الفعالية والقدرة على التعاطي مع الأجندة الملحة المفضية إلى بناء دولة تتوفر لها مقومات وأسباب الحياة التي تضمن استدامة الاستقرار والتنمية والتطور بحكم استجابتها لتطلعات مواطنيها في الكرامة الإنسانية، والعدالة، والمساواة، وتساوي الفرص؟.
أليس مدعاة للاستغراب أن يكون مردود الدعوات التي لا تحصى للحوار الوطني، فشلاً ذريعاً في تحقيق النتائج المأمولة منه؟. ومن المفترض أن يكون إظهار نظام الحكم حرصه على الحوار منذ بواكير عهده بالسلطة التي شهدت عدداً كبيراً من مؤتمرات الحوار الوطني حول شتى القضايا، ثم تلك الاتفاقيات المتعددة التي وقعها مع معارضيه طوال السنوات الماضية، سبب في أن يحظى بالثناء على حسن توجهه وصنيعه، لولا أن محصلة ذلك كله لم تكن خيراً محضاً على الوطن، وبدلاً أن يحصد سلاماً مستداماً واستقراراً وحفاظاً على وحدته الوطنية، تواجه البلاد تحديات لا مثيل لها في تاريخها، انفراط عقد وحدته الترابية بعدما اصبح انفصال الجنوب واقعاً، استمرار أزمة دارفور في ظل غياب أفق حقيقي للحل واحتمالات مفتوحة على مآلات مستقبلية مجهولة، وأزمات جديدة تطل برأسها في الجنوب الجديد، فالمشورة الشعبية الغامضة في النيل الأزرق وجنوب كردفان قد تدخل البلاد إلى عش دبابير جديد، فضلاً عن وضع أبيي المأزوم، وقضايا فك الارتباط بين الشمال والجنوب العالقة، حالة استقطاب سياسي حاد، أوضاع اقتصادية واجتماعية مأزومة منذرة بالانفجار.
كل ذلك وسط افتقار لا تخطئه العين تعانيه النخبة الحاكمة لأية رؤية مبصرة بشأن مستقبل البلاد، كما لا يبدو أنها تملك أي مشروع سياسي محدد المعالم، وما يصرح به قادة الحكم لا يعدو أن يكون مجرد تأكيدات تبين الحرص على التمسك بمقاليد السلطة استناداً على ما تعتبره حقاً دستورياً وانتخابياً، ولكن وبغض النظر عن القيمة المشروعية لهذا الحق إلا أن ذلك وحده لا يكفي ليكون مشروعاً سياسياً لنظام الحكم، لأن السؤال المهم الذي ينتظر إجابة وماذا ستفعل بالسلطة؟ هل فقط تلبية لغريزة حب الملك؟، أم أنها مهمة وطنية جليلة الشأن عظيمة العواقب يجب أن تؤخذ بحقها فعلاً لا قولاً عالقاً في الهواء لا يربط بين الشعارات المرفوعة وواقع الممارسة الفعلية.
وقد أطلت مجدداً في الساحة السياسية دعوات للحوار الوطني، ونيات لتوسيع قاعدة الحكم، فما الضمان أن تكون حواراً منتجاً، وهل الأجندة المطروحة للحوار تلبي آفاق الحاجة الوطنية لحوار أكثر عمقاً وأبعد أثراً من مجرد رمي بعض الفتات من سلطة الحكم لبعض القوى السياسية المتشوقة لنيل ما يتصدق به عليها من امتيازات ومكاسب السلطة، وهل تواكب هذه الأجندة متطلبات اللحظة الوطنية الراهنة واسئلة المستقبل الصعبة خاصة وأن تقسيم البلاد بعد الانفصال أسقط حقبة النظام السياسي السوداني القديم، وما هو أهم من ذلك كله هل النظام الحاكم مقتنع فعلاً بحوار جدي مفتوح الأفق يعيد تشكيل الواقع السياسي المأزوم، ويعيد الأمل لمستقبل أفضل، ام أن الأمر لا يعدو أن يكون من باب المناورات السياسية الضيقة الأفق التي لا تأبه سوى لكسب المزيد من الوقت على سدة الحكم، والاستمرار في احتكاره تحت لافتة جديدة تظهر سعة محسوبة في توسيع قاعدة الحكم، دون التفات للأجندة الحقيقية لإعادة بناء السودان بعد سنوات التيه السياسي التي تطاولت.
ما من شك أن ثمة فارقا كبيرا بين الحوار الجدي المستند على شروط موضوعية لا بد من توفرها ليكون منتجاً لواقع جديد أفضل، وبين الحوار المزيف والذي لا يكون مقصوداً منه سوى أن يكون زينة لا يمس جوهر الأمور، وأن غرضه الحقيقي هو تكريس القبضة على مقاليد السلطة، أو ضمان استمرار السيطرة عليها لحين، ولقد كان ذلك هو ديدن الحوارات التي اقدم عليها نظام الحكم منذ أول عهده واتخذها سبيلاً للحصول على مشروعية سياسية يتجاوز بها الإحساس الدائم بعدم الشرعية وقد قفز إلى السلطة بانقلاب عسكري.
ولذلك لم يتجاوز مردود تلك التجارب من الحوارات سوى التمديد في عمر النظام، ولكنها لم تفلح أبداً في أن تنتج للبلاد سلاماً مستداماً ولا استقراراً، لقد طال عمر الحكم فعلاً ولكنه عمر ممحوق ظل محفوفاً بالأزمات ما أن يخرج من أزمة حتى يقع في أخرى، ولعل ذلك من أغرب أنظمة الحكم الذي يظل لعقدين وأكثر مشغولاً بإدارة الأزمات وليس بإدارة شؤون حكم مستقر، بالطبع يلقي الحكم باللائمة في ذلك على ما يسميه بـ«المؤامرات والاستهداف الخارجي»، وعلى الرغم من هذا الزعم الذي يكذبه الواقع، فإنه ما من نظام حكم سوداني رفع شعار استقلال القرار الوطني، ثم خضع للضغوط الخارجية واستجاب لها مثلما فعل النظام الحالي حتى أصبحت البلاد مرتعاً لعشرات الآلاف من القوات الأجنبية التي جعلت من السيادة الوطنية مجرد حبر على ورق، وللعشرات من المبعوثين الدوليين الذين يحصون عليه أنفاسه، وتجولت المفاوضات بين الأطراف السودانية حول قضايا من صميم الشأن الوطني من عاصمة إلى أخرى، حتى باتت الخرطوم هي العاصمة الوحيدة التي لا يبحث فيها الشأن السوداني حقاً.
من المهم أن يدرك نظام الحكم أن الحاجة لحوار وطني جدي يضع البلاد على أعتاب مرحلة جديدة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة أمر لا مناص منه، ولا بديل عنه، فجنس الحوارات التي لا تفضي إلا إلى طريق واحد هدفه إطالة عمر الحكم أو إكسابه شرعية مفقودة لم تعد تجدي في ظل الحالة الوطنية الراهنة، وحتى قبل أن يطل فجر الثورات الشعبية التي تجتاح العالم العربي وباتت تنتقل عدواه من بلد إلى آخر وقد سئمت الشعوب أنظمة الحكم المتكلسة، فإن السودان في حاجة لتغيير جذري ليس فقط لتفادي الثورة الشعبية المحتومة، ولكن لأن واقع البلاد المأزوم والمفتقر للاستقرار يحتاج إليها أكثر من أي وقت مضى، فإذا كان حدث عظيم في حجم انفصال الجنوب وشرذمة البلاد، دعك عن أزماتها الأخرى، لا يستدعي مراجعات جذرية لأزمتها الوطنية ففي أي شأن آخر يدعى لحوار؟.
صحيح أن نظام الحكم تبنى في الآونة الأخيرة دعوة لحوار وطني، ولكن مما يؤسف له أن أجندة هذا الحوار أقصر بكثير من قامة الهموم الوطنية والتحديات الكبرى غير المسبوقة التي تجابهها البلاد في الوقت الراهن، فالحكم استبق الحوار بجملة شروط تكشف عن أنه مستعد لفتح كوة لتوفير وظائف سياسية لمن يرتضي أن يكون رديفاً له من القوى السياسية، وليس حواراً حقيقياً لإعادة بناء السودان على أسس جديدة تقوم على تحقيق جوهر التحول الديمقراطي الحقيقي، وليس مجرد هياكله الشكلية، تحرسه مؤسسات ديمقراطية فعالة، تضمن فصلاً بين السلطات، وقائما على مشروعية شعبية حقيقية يحرسها دستور يصنعه الشعب ويحقق تطلعاته في الحكم الراشد، ولا يستجيب لمطامع ومطامح النخب.
ولكي يكون لهذا الحوار معنى حقيقي فإنه يجب أن يقوم على الندية بين مكونات الجماعة الوطنية، وليس على التبعية ووفق شروط تحدد ثوابت مسبقاً، وأن تكون الأجندة المطروحة معنية بالهم الوطني على اتساع تعقيداته، وليس بانشغالات من هم في سدة الحكم.
لقد أطاح الحكم بقيمة الحوار حين طفق قادته يعددون شروطاً لا تدلل على توفر إرادة سياسية حقيقية لمخاطبة التحديات المصيرية التي تجابهها البلاد، فما معنى الحوار حين يقال إن الهوية حسمت بعد الانفصال، وان قادته متمسكون بمواقعهم حتى نهاية العهدة الدستورية، وانه لا مجال لحكومة قومية، ولا انتقالية، ولا مجال إلا لمن يريد الالتحاق بنا، ففيم يكون الحوار إذن إذا كانت كل هذه الأمور محسومة؟.
بالطبع يستند حزب المؤتمر الوطني إلى أنه نال شرعية كاسحة في الانتخابات الماضية، وبالتالي فإنه ليس مستعداً للتنازل عنها، وليس هناك ما يضطره لذلك؟. كل هذا حسن ولكن إذا كان الحزب فعلاً مقتنعا بأنه يحظى بشعبية تفوق التسعين بالمائة من الشعب السوداني، وأن ذلك يمنحه شرعية انتخابية لا شك فيها، إذن فلماذا يريد أن يتفضل بهذا الحوار على معارضيه؟.
من المفترض حسب قواعد اللعبة الديمقراطية أن هذه «الشعبية الجارفة» تمكنه من الحكم منفرداً بارتياح دون الحاجة لائتلاف مع أية قوة سياسية أخرى حتى انقضاء عهدته الدستورية. وليس سراً أن اكثر الديمقراطية الراسخة في العالم تحكم فيها أحزاب بأغلبية بسيطة لا تصل إلى هذه «الشعبية الخرافية»، التي لا تحتاجها اصلاً لأن الشرعية الحقيقية لا تصنعها المبالغات الزائفة، فضلاً عن نسبة الذين يمارسون التصويت في الانتخابات في البلاد الديمقراطية فئة قليلة، ومع ذلك لن تجد من يشكك في شرعية من يحكم.
من المؤكد أن نظام الحكم دعا للحوار ليس من باب التفضل على معارضيه، ولكن لأنه يدرك أن هذه المشروعية محل شكوك الكثيرين وإن تعاملوا معه بحكم الأمر الواقع، كما أن هذه «الشعبية الجارفة» التي يدعيها لم تغن عنه شيئاً، إذ لا يعقل أن يتمتع نظام حكم بهذا القدر المبالغ فيه من الجماهيرية ثم تعاني البلاد كل هذه المعاناة من عدم الاستقرار والاضطراب السياسي والأزمات التي تحيط بها من كل جانب.
من المهم أن يدرك الحكم أن الاستمرار في لعبة الهروب إلى الإمام وشراء الوقت لا تنفع في بلد على مفترق طرق حقيقي، هذا إذا لم تقض على ما تبقى من وطن منقسم، ومن المهم أن يكون واضحاً في الاختيار بين حوار حقيقي يعبد الطريق إلى بناء وطن جديد قادر على الاستفادة من كل أخطاء الماضي التي أدت إلى أن تقعد به وقادت إلى انقسامه، وبين مناورة لا تهدف إلا إلى إطالة عمر الحكم على حساب مستقبل البلاد المثخنة بالجراح، وهي مناورة قصيرة النظر على أية حال في زمن باتت تتساقط فيه الانظمة في المنطقة كأوراق الخريف العجفاء.
عن صحيفة إيلاف السودانية
الأربعاء 23 فبراير 2011
 

 

آراء