كنت قد كتبت يوم الثلاثاء الماضي عن المؤتمر الصحفي الذي عقده نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه، ودعا فيه إلى الحوار مع القوى السياسية، وأكد فيه أن "النظام الذي يخشي الحريات لا بقاء له"، وتحدث فيه عن ملامح "الجمهورية الثانية"، وقلت " نتفق مع نائب الرئيس ولكنا نريد تفسيراً"، وكان العمود مروراً سريعاً على حديث الأستاذ طه في نفس يوم المؤتمر، لكن في اليوم التالي استوقتني عدد من تعليقات كتاب المؤتمر الوطني، والمحسوبين عليه، والتي سار معظمها في اتجاه توزيع باقات الاعجاب بالمؤتمر، وبرسائل طه، وما ورد فيه من أفكار، ثم جاءتني رسالةً من الأستاذ كرم الله يعقب على ماكتبت بقوله "لا نتفق مع نائب الرئيس، ولكل ذلك قررت الدخول في حوار افتراضي مع نائب الرئيس حول قضية الحريات ، والحوار السياسي مع القوى المعارضة، بعد أن قرأت حيثيات المؤتمر الصحفي أكثر من مرة، وما رود فيه باعتبار أن الأستاذ طه "قليل الكلام، وليست له ميول في الظهور أمام كاميرات التلفزة، وعدسات المصورين، وأجهزة تسجيل الصحافيين، ويظل يقبض "خلف الكواليس" بكثير من خيوط القضايا بطريقته الخاصة، والتي يبدو أنها طريقة اكتسبها من بقائه في مؤسسات الدولة لأكثر من 30 عاماً، ليحقق الرقم القياسي بين القادة السياسيين السودانيين في "وظيفة الميري" على مستوى قيادي، والجلوس فوق قمة الهرم ، فقد صعد طه فوق هذه القمة بعد سنوات قليلة من تخرجه من كلية القانون بجامعة الخرطوم، وربما لهذا السبب يظهر تفكير "الحركة الاسلامية الطالبية" بمناهجها "البراغماتية، وطرائق تفكيرها في التعامل مع الآخر، وابتداع كثير من الوسائل لتحقيق غاياتها، بغض النظر عن نوع هذه الواسائل؛ تزوير انتخابات، أو ممارسة العنف اللفظي والجسدي مع الخصوم، أو "الأعداء".وكذلك تفسير معنى الحرية، والمشاركة وفق ما يقتضي "الظرف".
و طه لم يمارس العمل كموظف في مؤسسات الدولة، ودواوينها من الدرجات الدنيا، اذ أنه بعد سنوات قليلة من تخرجه دخل إلى مجلس الشعب بعد المصالحة بين نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، والأخوان المسلمون، لينهي "تعاونه " مع مايو كرائد لمجلس الشعب، وهو مؤسسة مايوية، احتكرت الرأي في داخلها، وتعمل على تجميل وجه السلطة العسكرية والديكتاتورية، بدعوى وجود حوار، أو انتخابات تفصل على قدر مقاس الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، ومن يود دخولهم إلى "مجالس التشريع" الصورية، لكن نجم الأستاذ طه كمعارض، ومنافح من أجل الحرية بزغ في الفترة من 1986 – 1989، وهي فترة الديمقراطية الثالثة كزعيم للمعارضة، وبعد انقلاب يونيو عاد طه مع الانقلابيين خلف الكواليس، ثم وزيراً لأكبر وزارة أنشأتها الانقاذ بحجم طه، وحملت اسم التخطيط الاجتماعي، ليعمل بعد ذلك وزيراً للخارجية ثم نائباً أولاً بعد رحيل الفريق الزبير محمد صالح ؛ حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل في عام 2005، وترك المنصب لزعيم الحركة الشعبية الراحل الدكتور جون قرنق، ثم سلفه الفريق أول سلفاكير ميارديت، ويكتفي الرجل بعد أن ساهم في صنع السلام بمنصب نائب الرئيس، ولا يزال.
ولست هنا بصدد تحليل لشخصية نائب الرئيس، بقدرما قصدت بهذه المقدمة ، وتحتوي على معلومات معروفة لدى معظم القراء؛ أن أضع الأستاذ طه في سياق تطوره السياسي، والملابسات التي ساهمت في طريقة تفكيره، بما في ذلك الممارسات التي ألقت بظلالها على منهج تفكيره، وروؤيته للأمور السياسية، وهو في الغالب ، منهج "براغماتي" ؛ وجاء في اليوكوبيديا أن البراغماتية تعارض الرأي القائل بأن المبادئ الإنسانية والفكر وحدهما يمثلان الحقيقة بدقة، معارضة مدرستي الشكلية والعقلانية من مدارس الفلسفة. ووفقا للبراغماتية فان النظريات والمعلومات لا يصبح لها أهمية إلا من خلال الصراع ما بين الكائنات الذكية مع البيئة المحيطة بها. و يعتبر مؤسسها هو تشارلز ساندر بيرس " 1839 ـ 1914 " م،(أول من ابتكر كلمة البراغماتية في الفلسفة المعاصرة) هوصاحب فكرة وضع (العمل) مبدأ مطلقًا ؛ في مثل قوله : "إن تصورنا لموضوع ماهو إلا تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر ".
ولذلك حين يدعو الأستاذ علي عثمان محمد طه إلى الحوار، فهو في الغالب يهدف إلى الوصول إلى ما يحافظ على بقاء "نظام الانقاذ"، بمثلما حصل بعد توقيع اتفاق السلام الشامل، والغرض من الاتفاق لم يكن هو بالطبع " اقتناعاً" بحقوق السودانيين الجنوبيين في محاصصة السلطة، وقسمة الثروة، وتحقيق السلام الشامل، والعدل لكل السودانيين، وبسط الحريات، وتحقيق التحول الديمقراطي، ليتم بعد ذلك استفتاء تقرير المصير في مناخات تجعل من "الوحدة خياراً جاذباً"، وحتى التوقيع على الاتفاقية كان نتاج لموزانات سياسية داخلية، واقليمية ودولية، وضغوط من هنا وهناك، وخضوع لما يعرضه المجتمع الدولي، من "عصا أو جذرة"، وبعد التوصل لحقيقة أن الانقاذ لا بد لها من التوقيع على اتفاق السلام الشامل، ذهب الانقاذيون في ذات المنحى، مع ضرورة الحفاظ على الانقاذ" 53% من السلطة، وبقاء المؤسسات الأمنية، ومناهج الحكم القديمة ذاتها؛ مع قليل من "مرونة" أو "انحناء عند العواصف".
وربما يعتبر البعض أن اسنتتاجتنا هذه " هي " استنتاجات تنطلق من مواقف سياسية معارضة" على طريقة وعين السخط تبدي المساوئا"؛ إلا أن قرائن الأحوال، وما تمخض ذلك بعد ست سنوات، بما في ذلك نتيجة "الانتخابات "الأخيرة، وما تبعها من " قمع لمظاهرات، " واعتقالات، وتعليق صدور صحف، يؤكد ما ذهبت إليه، وهو أن كل مشروع سياسي، أو موقف جديد لدى الانقاذ يهدف في نهاية المطاف إلى استمرار النظام بذات التركيبة، والعقلية، و"المشروع الحضاري"، وهو ما أطلقت عليه "النسخة الرابعة من الانقاذ". وقد كتبت بعد الانتخابات مباشرةً "للملك الفرنسي لويس السادس عشر مقولة محفوظة، وهي (أنا الدولة ، والدولة أنا)، أما الروائي غابريال غارسيا ماركيز فقد لخص الأمر في رواية خريف البطريرك التي يقول فيها (؛ ديكتاتور كلّي الوجود، يعلن حالة حرب على كل منافسيه، من الأطفال إلى الكرسي البابوي في روما... حيث يقول في ذروة خريفه، عاش أنا... يموت ضحاياه: أطفال و معارضون، رجال دين و متمرّدون، هنود و هندوسيون، عرب و مضطهدون آخرون. عاش أنا).
ويبدو أن الحالة البطريركية الكاريبية تنطبق علينا فها هي الأرواح المستنسخة، تنشطر فوق مسرحنا العبثي ؛ كنتاج طبيعي للقبضة القوية على مقاليد السلطة لأكثر من عشرين عاماً.
وها هي النسخة الجديدة للمؤتمر الوطني تقترب من الظهور بعد بضعة أيام، و لم يتبق للمؤتمر الوطني سوى أن يعلن نتيجة الانتخابات بفوز مرشحه عمر البشير، بنسبة أكثر من 70% ومن ثم تشكيل حكومته ، وهي ذات الحكومة، مع تغيير نسبي في بعض الوجوه".
وفي هذا السياق يمكن الاشارة إلى ما ذكره الأستاذ علي عثمان محمد طه خلال مؤتمره الصحفي الأخير، وهو موضوع حوارنا؛ حيث قال " بلا شك لدينا ثوابت من خلال تراكم التجربة السياسية في البلاد يمكن ان يبنى عليها كثير من القواسم المشتركة التي تعين على تنظيم الحياة السياسية، وقيادة الحوار السياسي الذي أطلقه البشير ونؤكده الآن". وطالب بضرورة التفكير وفق هذا الأفق الجديد، ، وذكر طه "أن الحوار السياسي الذي أعلنه البشير وتعد الدولة لإنطلاق آلياته سواء على المستوى الحزبي، أو الرسمي في الدولة؛ ليس مناورات سياسية لكسب الوقت، أو تسجيل نقاط سياسية تكتيكية؛ وإنما حوار سياسي نريده مسؤولاً وجاداً، وذا أفق وبصر استراتيجي يتجاوز القضايا الصغيرة هنا وهناك لينظر في كيفية حماية السودان وبنائه وحمله الى مصاف الرقي. وقال إن هذا الحوار لن يكون نشاطاً تهويمياً نظرياً بل لابد له من مرتكزات ونقاط ينطلق منها.
لقد دعا طه لإدارة حوار وطني واسع حول كيفية شكل الدولة من حيث الدستور الانتقالي، وأضاف "نحن ملتزمون بالنظام الرئاسي والحكم الفيدرالي، ولكن هذا لا يعني عدم الاستماع لوجهات النظر التي يمكن ان تعين على تطوير التجربة وتقديم البدائل ... وهنا مربط الفرس؛ تطوير التجربة، لا التفكير في تجربة جديدة، وهناك من التجارب النظام البرلماني، ومن جوهر حديث طه فإن مثل هذه التجربة ليست من المطلوبات في الحوار السياسي، كما أن طه شدد على ما يعرف في فقه الانقاذ "بالثوابت"، وكلمة "ثوابت تنسف كل تحرك نحو الحوار، لأن هدف الحوار هو "التغيير"، وليس " الثبات"، وثوابت الانقاذ معروفة، وهي "المشروع الحضاري بشريعته الاسلامية وفق مفهوم "الانقاذ"، والنظام الرئاسي، وقد شدد طه كذلك على بقاء المؤسسات التي تمخضت عنها الانتخابات، وهي الرئاسة، والبرلمان، قائلاً " إن الغرض من الحكومة ذات القاعدة العريضة توسيع المشاركة"، وأكد عدم الاتجاه لقيام إنتخابات جديدة، أو تفكيك المؤسسات القائمة حالياً، وأشار الى أن هذا الأمر حسمه الدستور، وأكد ان الحوار السياسي حول( كيفية توسيع المشاركة)، وتحديد مستوياتها سيكون مطروحاً سواء في مجلس الوزراء أو غيره.
وهو ما يجعل من مشاركة الآخرين في الحوار؛ نوعاً من "العلاقات العامة"، والمشاركة في المؤسسات نوعاً من "التوظيف"، ولو بدرجة وزير!. وبالطبع فإن "الانقاذ" مستعدة تماماً لتعيين عشرات الوزراء، وقدرهم من المستشارين، والمساعدين، بلا أعباء، مقابل أن يتحولوا إلى " ديكورات" داخل بهو القصر المنيف!. فكم من الوزراء مروا من هنا؟. وكم من جيوش المستشارين عبرت بباب القصر؟؟!. و"الانقاذ " باقية"، والأزمة تراوح مكانها..!.
فإذا كان هدف الحوار هو تطوير التجربة، فهذا يعني أن الهدف النهائي من رفع شعار الحوار مع الآخر، هو إعادة انتاج الأزمة من جديد؛ باجراء تغييرات شكلية، تبقي على جوهر مشروع "الانقاذ"، وهو الاستبداد، وما يتخمض عنه ، أو ربما تكون الدعوة في حد ذاتها نوعاً من التكتيك، والمناورة، و"الانحناء للعواصف التي فعلت فعلها في جوهر الأنظمة العربية القريبة، من تونس إلى مصر، والبقية في الطريق.
Faiz Alsilaik [faizalsilaik@yahoo.com]
\\\\\\\\\\\\\\\\