بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الرابع والعشرين من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin )1861 – 1941م). ويتناول هذا الفصل طرفا مما أنجزه هنري ويلكم في (جبل موية) في مجال التنقيب عن الآثار، وموضوعات متفرقة أخرى شملت الصعاب التي لاقاها الرجل مع "الأهالي" وسلوكهم وعاداتهم، وإقامته لهم بعض المشاريع الاقتصادية الصغيرة مثل "بنك ادخار" لأول مرة بالسودان. ويجدر بالذكر أن كتابا (باللغة الألمانية) كان قد صدر عام 1994م عن أعمال هنري ويلكم في جبل موية للكاتب رودولف قيرهارتس Rudolf Gerharz بعنوان Jebel Moya in Neuer Interpretation .كما توجد بموسوعة الويكيبيديا معلومات (باللغة الإنجليزية) موثقة بالصور والمراجع المنشورة عن (جبل موية) وأعمال هنري ويلكم بها https://en.wikipedia.org/wiki/Jebel_Moya وهنالك تقرير حديث (2019م) عن عمل البعثة الآثارية المشتركة بين معهد الآثار بجامعة لندن وقسم الآثار بجامعة الخرطوم والهيئة العامة للآثار والمتاحف. ويمكن أيضا مشاهدة عدد من الفيديوهات عن أعمل ويلكم في المنطقة عام 1912م مَبْذولة على الشابكة العنكبوتية. المترجم ******* ****** ****** جرى خلال عقد من الزمان – بصورة بالغة الهدوء - عمل اجتماعي وعلمي بالغ الروعة والإنسانية في منطقة صحراوية بالسودان. وإذا لم يكن قد أتيح للعامة معرفة حتى القليل عما فكر فيه وقام به شخصيا السيد هنري اس. ويلكم من عمل شديد الضخامة منذ عام 1910م، فقد يعزى ذلك، أولا، لتواضع الرجل نفسه، وثانيا، لتصميمه الأكيد على عدم إطلاق التصريحات العامة، حتى وإن كانت متحفظة أو غير ملزمة، إلى أن يحين الوقت المناسب، ويغدو متأكدا تماما من موقفه، ومن كمال وسلامة المعلومات التي حصل عليها لدرجة كافية تدعوه ليخلص إلى استنتاجات محددة ونتائج نهائية حيال الكُوَّة التي فتحها بحثه عن الآثار بهذا المنطقة النائية (المقصود هو منطقة جبل موية. المترجم). وما تطرقي هنا لموضوع بحث السيد ويلكم في جبل موية ومحاولتي لإلقاء بعض الأضواء الكاشفة عليه إلا بسبب مثابرتي وإصراري، وبالقطع ليس بسبب تغيير موقف السيد ويلكم الرافض للحديث عن عمله البحثي. فهو ما زال يصر على أنه بحثه – على الرغم من ضخامته وشموليته – لم ينضج بعد حتى يمكن الكلام أو الكتابة عنه. وواضح أني لا أتفق مع السيد ويلكم في رأيه هذا. ورغم أني فشلت في جعله يغير من موقفه الأصلي الرافض للحديث عن عمله، إلا أنني أحرزت نذرا قليلا من النجاح في زحزحته عن موقفه المتحفظ عندما قال لي بأنه سيحيد قليلا – للمرة الأخيرة – عن صومه عن الكلام حول أعماله في (جبل موية) من أجلي، وسيتحدث عن بعض أعماله في مجال الرعاية الاجتماعية والرفاه عند الأهالي من سكان تلك المنطقة. وطلبت مساعدة الحاكم العام في أن أبلغ تلك المنطقة في رفقة السيد ويلكم، وأستغرق وصولنا لها زمنا ليس بالقصير، وكان ذلك في بواكير أيام عام 1914م. وكنت مقتنعا بما سمعته من مصادر موثوقة بأن الرجل ليس بعيدا البتة عن زمرة الرجال الذين يمكن أن نصفهم بحق بأنهم قاموا بـ "أعمال عظيمة". وآمل أن أثبت أن الرجل فيلسوف، ومحسن يكثر من أعمال الخير. ورغم كل لاقاه السيد ويلكم من تخذيل وتثبيط وخيبة أمل، فقد واصل في عمله الذي يؤمل أن يغني علمي الآثار والأنثروبولوجيا بالكثير من المواد الجديدة، وفي ذات الوقت أن يحل واحدة من أعسر المشاكل العويصة والحادة التي تواجه البلاد وسكانها الآن، ألا وهي: ما هي أفضل السبل لتمدين وتحديث أعراق "الأهالي" بالسودان، وفي ذات الوقت استخلاص وإظهار أفضل وأنبل ما عندهم من صفات وخصال؟ وكان السيد ويلكم في شبابه الباكر مولعا بآثار ما قبل التاريخ، إضافة لنشاطاته المتنوعة الأخرى. وكان كثيرا ما يقوم في غضون أيام رحلاته الموسعة في مختلف أرجاء العالم بالبحث عن بقايا الإنسان البدائي الأول. وأفلح السيد ويلكم في خلال رحلته الاستكشافية الأولى التي قام بها للسودان بُعيد استعادته علي يد كتشنر في القيام باستكشاف بعض البقايا الحجرية المثيرة للاهتمام. غير أنه لم يستطع مواصلة أبحاثه تلك حتى عام 1910م، حين نجح في استكشاف مساحات كبيرة من الأراضي السودانية، وأكتشف بعض المواقع الضاربة في القدم. وأعجب السيد ويلكم بصورة خاصة بالبقايا الحجرية التي عثر عليها في تلال صخرية في منطقة تسمى (جبل موية) بمديرية سنار، الواقعة بين النيلين الأبيض والأزرق، على شمال غرب الحبشة. أما سكان هذه المنطقة فقد كانوا من المعروفين بالشغب ومخالفة القانون، بالمقارنة مع بقية الأهالي بالسودان. ويعدهم البعض من عتاة المجرمين، كابرا عن كابر. وكل الرجال والنساء والأطفال في هذه المنطقة من الكسالى والسكارى شديدي القذارة، الذين لا يرتدون غير أَسْمال بالية غدت فاحمة السواد من تراكم الوسخ والشحوم عليها (أمثال هذا التنميط الكاسح لـ "الأهالي" شائع عند الكتاب الغربيين، خاصة الأجيال القديمة منهم، إذ أنهم يحاولون جذب القارئ الغربي بالإكثار من المبالغة والتهويل والتعميم والإساءة للمجتمعات التي تختلف عنهم. المترجم) وأثارت أعمال السيد ويلكم الاستكشافية، خاصة حول الكهوف التي كانت تستخدم قديما للسكن مخاوف وشكوك كبار اللصوص والنهابين بالمنطقة الذين مردوا على إخفاء مسروقاتهم فيها، وكانوا يخشون من انكشاف جرائمهم والأمكنة التي يخبؤون فيها ما نهبوه. ولتلك الغاية ضللوا السيد ويلكم وحاولوا إقناعه بأنه ليست هنالك بالمنطقة أي كهوف كانت تستخدم كبيوت في الماضي، أو حتى آثار بقايا حجرية. غير أن الرجل لم يصغ لهم وأصر على القيام بحملته الاستكشافية، فعثر بالفعل على العديد من الكهوف وكثير من الآثار القديمة لمستوطنات صناعية ضاربة في القدم موجودة في حوض أعلى الجبل ومحاطة بأسوار طبيعية تشبه القلعة. وكانت تلك الكهوف تستخدم في فترات ما قبل التاريخ، ليس فقط كمساكن، بل كمخابئ لحصاد سرقات النهابين. وأثارت تلك المنطقة الغنية بالآثار شهية السيد ويلكم فتقدم من فوره لحكومة السودان طالبا رخصةً للتنقيب عن الآثار بها. وأستأجر ستة من البحارة الذين أتوا معه في باخرته (التي كان يسافر بها عبر النيل) ليساعدوه في عمليات الحفر والتنقيب. ولما لم تكن في حوزته أدوات جيدة لتنفيذ تلك المهمة، فقد أضطر لاستخدام ما كان متاحا له من الأدوات الخشبية التي يصنعها الأهالي مثل الفؤوس وغيرها. واستنجد السيد ويلكم بعُمد المنطقة كي يساعدوه في تشغيل عمال للحفر، وأبدى له كل أولئك العُمد الرغبة في المساعدة ووعدوه بجلب المئات من العمال. غير أنهم كانوا يقومون من وراء ظهره بمحاولات عديدة لإفشال مشروعه، بل وهددوا كل من تسول له نفسه العمل في فريق ويلكم البحثي، وعمدوا إلى إيقاف عمل ذلك الفريق عن طريق منع امدادت الطعام عنه. وعلى أية حال، لم تكن عند رجال تلك المنطقة البائسة القذرة أي رغبة حقيقية في العمل - فهم كانوا قد أدمنوا حياة الكسل والتَبَطُّل، ولم يجربوا من قبل القيام بأعمال يدوية من أي نوع سوى زراعة أصغر مساحة ممكنة من أراضيهم الشاسعة للحصول فقط على ما يكفيهم من طعام، ولا تشكل لهم فكرة "النقود مقابل العمل" أي حافز للعمل. بل قد يقول بعضهم: "نحن لسنا أبقارا، فلم نعمل؟" وعرض السيد ويلكم لرجال المنطقة ضعف الأجر اليومي المعتاد للعامل اليدوي، مع حوافز مغرية أخرى. وأثارت فكرة "الحوافز" تلك خيال أولئك الرجال، فللأهالي ولع بالمُقامَرَة. وبعد كثير من التردد والصعوبات، خاطر اثنا عشر من الرجال والصبية بالعمل في فريق السيد ويلكم، متحدين للعمد وتهديداتهم المغلظة، وذلك بعد أن حصلوا على ضمانات ووعود بالحماية. وتم تدريب تلك الدستة (الدزينة) من العمال ليدربوا آخرين. وتم بصورة موسعة الإعلان للكافة عن الأجور والحوافز التي سيكسبها هؤلاء العمال من أجل جذب الآخرين للعمل. ونجح الإعلان بالفعل في إثارة الغيرة (والطمع) عند العاطلين عن العمل، فزاد الطلب على التعيين في فريق العمل حتى بلغ العمال في نهاية الموسم الأول أكثر من خمسمائة عامل. وكانت للسيد ويلكم خبرة واسعة في التعامل مع مختلف أعراق الأهالي وسعة حيلة ولباقة غير عادية. وبفضل تلك المهارات الشخصية أفلح في التصدي لكل المؤامرات الخبيثة والعوائق التي وضعها أمامه بعض الأهالي في كل خطوة يخطوها في مشروعه. وكان هؤلاء الأهالي البدائيين المتشككين يؤمنون بأنه من غير المحتمل أن يظل هذا الرجل الأبيض "الخارق deus ex machina " مستعدا وقادرا على دفع كل تلك المبالغ من المال في مشروعه الاستكشافي، ولا بد له أن يختفي بسرعة، لا محالة فجأة، تماما كما ظهر فجأة في أوساطهم. وطالبه عماله بأن يدفع لهم أجورهم على الأقل يوما بيوم (عوضا عن أجر أسبوعي عرضه عليهم). وظلوا ينظرون على الدوام إلى مخدمهم بعين الريبة والشك. ولا شك أن ذلك يعزى لما كان العُمَد يحشون بهم أدمغتهم من خرافات وأساطير ونبوءات شيطانية. وكان هدف السيد ويلكم الدائم منذ البداية هو كسب ود وثقة "أطفال البراري الضالين" هؤلاء، وإقناعهم بأنه أتى من أجل تحسين أحوالهم، ولا يبتغي من وراء ذلك منفعة شخصية له. غير أن كل أصناف التحيزات والآراء (الظالمة) المسبقة أحاطت به من كل جانب، فصار كل فعل يفعله أو قول يتفوه به عرضة للتفسيرات الخاطئة. وكان بعض العاملين في فريقه من قدامى الدراويش المتعصبين الذين حاربوا في صفوف جيش المهدي وخليفته، وكانوا لا يزالون على عدائهم القديم لنظام الحكم الجديد. وكان بعضهم قد أتى من قرى كانت – حتى وقت قريب – تثير الكثير من الشغب والتمرد على الحكومة. وكان غالب الأهالي من المسلمين المفرطي التعصب، ولكنهم كانوا جهلاء أيضا بتعاليم دينهم المحمدي. فقد كانوا يخالفون كل المفاهيم الأساسية لدينهم. لذا كان الأتقياء من المحمديين المتمسكين بصحيح دينهم يطلقون على سكان المنطقة "عبدة الشيطان". وكانت أي محاولة للتبشير (المسيحي) وسط هؤلاء المضللين الخارجين عن القانون وتَنْصِيرهم ستفضي لا محالة إلى انتشار موجة كارثية غاضبة، إذ أنهم كانوا سيتحدون لطرد ذلك "المعلم الزائف". وكان السيد ويلكم على معرفة جيدة بتعاليم محمد، فكان يذَكَّرَ من معه من الأهالي بما ورد في القرآن، ويحضهم على تعلم صحيح دينهم، واِتِّباع أقوال نبيهم، وذكرهم أيضا بأن المسلم الحقيقي يجب أن يكون رجلا صالحا. وفي ذات الوقت كان يكلمهم عن فوائد الحضارة والمدنية المسيحية، ويقول لهم بأن رب المسلمين هو نفسه رب المسيحيين، وأن الأنبياء والرسل عند المسيحيين هم نفس الأنبياء والرسل عند المسلمين. وكان يداوم على تذكيرهم أيضا بأن الحكم البريطاني يهدف لإشاعة حرية الأديان والعدالة "النظيفة"، وأن عليهم "أن يعبدوا الله وأن يخلصوا للحكومة". وظلت المشاكل المتنوعة تتراكم بصورة يومية. فقد أكتشف السيد ويلكم بأن لا سبيل لتقويم سلوك هؤلاء الرجال والصبية، فهم سواسية في العناد وعدم القابلية للإصلاح. وكانوا لا يتورعون عن تجربة كل الحيل التي يمكن تخيلها ليسرقوا ويغشوا ويخدعوا. ولم تكن هنالك من وسيلة، كبيرة أو صغيرة، لم يجربوها لتفادي أداء أبسط الأعمال. وقول الحق ليس من طبيعتهم، ولا يعني الإخلاص والاستقامة لهم شيئا. وكثيرا ما يسفر مزاجهم الوحشي وقسوتهم الطبيعية عن نفسها في أبسط المواقف. وكانت الجرائم منتشرة في أوساطهم، وهنالك عدوات ومعارك مستمرة بين مختلف قبائلهم وقراهم، بل وعائلاتهم، وهي عدوات ومعارك تعود جذورها لأجيال متعاقبة منذ زمن طويل. وقد تنفجر مثل تلك العداوات لأتفه الأسباب. فربما تسبب كلمة عابرة أو نبز عارض في ضربة قاصمة بهراوة سميكة، أو طعنة برمح أو مدية حادة. وكانت الصدامات العنيفة بين الأهالي تقع بصورة ليست يومية فقط، بل كل ساعة تقريبا. وربما كانت تلك الصراعات تتطور إلى معارك ضارية تشمل جميع أهالي المنطقة. وكان على كل رجل أو صبي في المنطقة أن يمتشق هراوة أو سكينا أو رمحا للدفاع عن نفسه
وكان السَّكَرُ في الغالب هو سبب كل الشجارات والمعارك والجرائم التي وقعت في المنطقة. غير أن كل تلك الفوضى الضاربة الأطناب والظروف المقلقة لم تفت في عضد السيد ويلكم، ولم تصرفه عن التركيز في عمله الأساس، وفي خلق نوع من النظام في خضم كل تلك الفوضى. وأفلح الرجل في ذلك بصورة تدعوا للإعجاب بفضل يقظته الدائمة وانضباطه الذاتي وردود أفعاله التي لا تعرف الخوف. ولم يقابل قط السيد ويلكم العنف بالعنف - دفاعا عن النفس عندما يُهاجم شخصيا - سوى في مرات نادرة جدا. وفي كل تلك الحالات النادرة فقد كان السيد ويلكم ينتزع النصر على مهاجميه فجأة، وبحيل حاذقة، ويطرح مهاجمه أرضا. وكم من مرة حاول كارهو الرجل إزالة معسكره من الوجود بشتى الطرق، غير أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل لأنها كانت مرصودة ومتوقعة، وتم كبحها في مهدها. وكان بعض الخونة من الأهالي قد قتلوا البريطاني سي. سي. اسكوت مونكريف قبل فترة قصيرة في منطقة ليست بعيدة عن المنطقة التي يعمل فيها السيد ويلكم الآن. وكانت مثل تلك الحوادث والمخاطر من ضمن مما حذر منه كبار مسؤولي الحكومة السيد ويلكم من قبل (قُتل مونكريف في أبريل من عام 1908م على أيدي بعض رجال الحلاوين بالقرب من المسلمية. المترجم). ولا شك أن ذلك الرجل البريطاني المقدام كان معتادا على قيادة رجال من كل صنف وحال، وكان مستعدا دوما لحمل رأسه بين يديه عندما يشرع – منفردا في الغالب - في عمل مشروع مع أمثال تلك الشخصيات اليائسة المتهورة. لم يتعثر أو يتردد، بل مضى في إصرار عجيب في عمله، وهزم بالتدرج شراسة كارهيه، ثم كسب احترامهم وثقتهم. وسرعان ما قوي موقفه في أوساطهم لدرجة أنهم منعهم من حمل أي نوع من الأسلحة في المعسكر. ولا شك أن ذلك الموقف كان دلالة واضحة أن السيد ويلكم كان واعيا ومدركا تماما بالطبيعة الجادة لمشروعه (البحثي)، وأنه كان مؤهلا تماما للمهمة التي فرضها على نفسه. وانتصرت في النهاية الإرادة القوية والخبيرة بطبيعة البشر. ومع مرور الأيام والشهور بدا وكأن ما كان ميؤوسا من تحقيقه بدأ في الظهور للوجود، ومن ظُن أنهم غير قابلين للإصلاح بدأوا - على غير توقع - في إظهار خصال معقولة وطبيعة خيرة. وكرس السيد ويلكم جزءا كبيرا من قته من أجل رفاه العاملين معه. وفي صبر وتعاطف ظل يسعى للتأثير عليهم كي يمارسوا أقصى حالات ضبط النفس، وللعيش حياة نظيفة. ومضى لأبعد من ذلك، فحاول أن يبث في أنفسهم الرغبة في كسب احترام الآخرين من بني جلدتهم. وكثيرا ما كان يذكرهم بأضرار تناول المسكرات، وما يسببه الاجرام من مآسي في أوساطهم. ولجأ إلى مس وتر "الشعور بالعار"، وحثهم على أن يكونوا "رجالا" بمعنى الكلمة، وأن يرتفعوا بمستواهم عن مستوى "الحيوانات الوحشية". واستغرق إحداث التغيير الذي كان ينشده السيد ويلكم وقتا بالطبع، ولكنه حدث بالفعل، ولو بصورة جزئية. غير أن توزيع مبالغ كبيرة غير معهودة من المال لأولئك الأهالي كان سببا في زيادة تعاطيهم للمسكرات. ورغم أن الرجال والصبية كانوا يعملون بالنهار أعمالا شاقة من أجل الحصول على أجرهم، إلا أنهم كانوا يبَعْزقَون كل ما حصلوا عليه في السكر (بالمريسة) والعربدة وغشيان العاهرات ليلا حتى مطلع الفجر. ويبدو أن (المريسة) كانت هي طعام الناس الأساس هنا، إذ قلما تراهم يتناولون طعاما طبيعيا صلبا. لا عجب إذن أن كانوا نحفاء وفي حالة صحية سيئة. وكان تناول المسكرات يجعلهم يميلون للعدوانية والشجار الدائم. وأخفقت كل المحاولات التي بذلت من أجل إقناع العمال بفائدة ادخار بعض ما يكسبونه من عملهم، حتى بعد نجاح السيد ويلكم في الحصول على موافقتهم بإعطائهم أجرتهم أسبوعيا (وليس يوميا). وأصاب تغيير توقيت صرف الأجور بعض النجاح (المادي) في تقليل معدلات السَّكَر، رغم أن عددا كبيرا من هؤلاء العمال لم يستطع مقاومة إغراء بعزقة الراتب الأسبوعي في فترة انغماس طويلة في الملذات (fling)، لا تنقضي حتى ينفد كل ما لدي الواحد منهم من مال. ورغم ذلك فقد ثبت أن إعطاء الأجر أسبوعيا أفضل مما سبقه من نظام. وأصاب كبر المبلغ الأسبوعي الذي يناله العامل في معسكر السيد وليكم الرجال الفقراء العاطلين عن العمل الذين لم يسبق لهم التعامل مع النقد، أو لم يمسوا عملة من قبل بالغيرة والحسد. وصاروا يحلمون الآن بالثراء، ويتأملون في كل ما يمكن أن يتيحه المال من فرص وما يفرضه من مسؤوليات. وأخيرا، بدأ بعض العمل يصغون بجدية لنصائح السيد ويلكم بادخار بعض ما يكسبونه من مال، وأن يستثمروا جزءًا مقدرا منها. غير أن هنالك أيضا من الذين كانوا لا يزالون أسرى لإغراءات الشيطان، ويعودون للعمل وهم تحت تأثير الخمر، وفي مزاج عكر قابل للشجار. غير أن الزمن والصبر والمثابرة جلبوا تغييرات مدهشة. فالرجال الذين اشتهروا بالإجرام وادمان المسكرات غدوا اليوم من أشد العمال كفاءة وأكثرهم اعتمادية، ويحتلون الآن مواقع مسؤولية، بعد أن هجروا تناول الخمور، بل وبدأوا في هداية الآخرين لهجرها وسلوك طريقة حياة مختلفة. غير أن ذلك التقدم كان بطيئا، وكان لزاما على بعض "المنحرفين" أن يحاولوا هجر الخمور والملذات الضارة عديد المرات قبل أن يقلعوا عنها بالكلية. وعلى الرغم من أن شرب المريسة المسكرة من الأمور التي حرمها محمد، إلا أن شربها كان قد صار عادة متجذرة عند بعض المسلمين "المنحرفين"، ويتطلب اقلاعهم عنها جهودا كبيرة. وإن حاول أحد الناس أن يقنع رجلا يداوم على شربها بتركها، يرد الرجل بالقول: "المريسة بالنسبة لي كالزوجة. هي متعتي وسلواي. لا! لن أهجرها قط". وفي البداية لا تجدي المواعظ الأخلاقية في التأثير عليه، إذ لا بد في البدء من رفع روحه المادية بجعله يرى باستمرار ما يحدثه الامتناع عن المسكرات على شخصية المدمن عليها، وكيف أنه يصبح رجلا أفضل، ويعمل ويكسب مالا أوفر، ويحصد أكبر الجوائز، ويشتري أجمل زوجة (هكذا وردت في النص الأصلي! المترجم)، وسيدرك أن السكارى هم جُحوش غبية، لا يحصلون إلا على أقل الأجور، ولا يحصلون إلا على جوائز تافهة لا قيمة لها. وكان حسد الآخرين والغيرة منهم، والطمع الشخصي من المشاعر التي ساعدت فعليا على حصول الكثيرين على الهدف (الأخلاقي) المنشود بهجر الخمر نهائيا. وكان الأمر عسيرا، حتى لأيام قليلة، خاصة لمن كانوا يشربون باعتدال. غير أن كل من أفلح في هجر السكر نهائيا غدا مثالا ساطعا أمام أقرانه. وقليلا قليلا ازدادت أعداد من توقفوا نهائيا عن شرب الخمر. وتعهد بعضهم بالتوقف لشهر واحد، ثم زادوا المدة لتصبح موسما كاملا، وتوقف بعضهم طيلة ما بقي له من عمر. وقدر المحمديون الأتقياء جهود السيد ويلكم في إثناء العمال عن السكر، بل وساعدوه بأريحية وبشر بحمل المقلعين الجدد على القسم على القرآن ألا يقربوا أي نوع من المسكرات مرة أخرى. وتواصلت مسيرة التقدم بثبات، وبدأت أعداد من تعهدوا بالإقلاع التام عن الخمر في الازدياد. ومع تناقص أعداد السكارى، تناقصت معدلات الجريمة والشغب والفوضى. وبنهاية الموسم الأول سادت روح الجد والمثابرة والاقتصاد والاعتدال عند عمال معسكر السيد ويلكم. وتجمعت عند عدد كبير منهم مدخرات مالية قاموا باستثمار معظمها في زراعة مساحات أكبر من الأراضي، وشراء وتربية مزيد من الحيوانات. وعندما عاد السيد ويلكم إلى جبل موية في الموسم الثاني أُخبر بأن أعداد قطعان الماشية الغنم والمعز في المنطقة قد تضاعفت نتيجة للأموال التي ادخرها العمال في الموسم الأول. وعندها أيقن السيد ويلكم بأن جهوده لم تضع هباءً، وأن تقدما حثيثا استمر حتى في غيابه. ولاحظ السيد ويلكم أيضا تحسنا ملحوظا في سلوكيات وعادات سكان المنطقة، ومرت أسابيع بعد وصوله للسودان قبل أن يرى رجلا في حالة سكر. وكان كثير من الأهالي يترقبون بشغف أوبته للسودان، ولم يكن هؤلاء من قرى منطقة جبل موية فقط، بل من كل المناطق التي سمع فيها الناس بخبر ذلك المحسن البريطاني. وتم التفكير في خطة لإنشاء "بنك ادخار" لهؤلاء العمال في أثناء غياب السيد ويلكم عن السودان. وكانت خطة ذلك البنك المقترح مكيفة بحيث تناسب احتياجات أولئك الأهالي، ومصممة لتساعد في تعليمهم فن ادخار النقود. وخصص السيد ويلكم عددا من الأسابيع لشرح خطته شرحا منهجيا منظما لكل الفصول التي أقامها. وبدأ العمل في بنك الادخار مع بداية الموسم الثاني. ومُنح كل عامل دفترا سجل فيه دخله وما ادخره وما سحبه. ونجح ذلك البنك نجاحا كبيرا، وصار من أكبر مغريات العمل مع السيد ويلكم في مشروعه بالمنطقة، وجذب الكثير من العمال المسلمين والوثنيين من مختلف القبائل التي تقطن مناطق بعيدة في السودان للعمل في جبل موية. وصار الآباء يقطعون مئات الأميال سيرا على الأقدام عبر الصحراء مع أبنائهم الصبيان ويستعطفون السيد ويلكم ليضعهم تحت رعايته ويعلمهم كيف يدخرون بعض ما يكسبونه من مال، وليعيشوا حياة مستقيمة نظيفة، وأن يغدوا أذكياء "مثل الإنجليز". وكان السيد ويلكم لا يقبل رعاية أي صبي دون موافقة (مستنيرة) من والده أو ولي أمره. وازدادت أعداد العاملين مع السيد ويلكم مع مرور السنوات كما يوضح الجدول التالي: الرابع الثالث الثاني الأول الموسم 3000 1200 700 500 الأعداد أكثر من
وفي خلال المواسم الثلاثة الأخيرة تقدم الآلاف من طالبي العمل في معسكر السيد ويلكم، غير أنهم يقبلوا لعدم الحاجة لمزيد من الأيدي العاملة. واشترط على أكثر من 90% من العمال الذين قبلوا في الموسمين الثالث والرابع أن يقسموا على القرآن بألا يقربوا المسكرات، وأن يظلوا ممتنعين عنها حتى الممات. ومبلغ علمنا فإن أقل من 5% من هؤلاء حنث بذلك القسم. أما الشبان الذين يعملون مع السيد ويلكم، الذين أتوا للعمل معه في التنقيب بالمعسكر وهم صبية، فهم الآن أشخاص في غاية الكفاءة والحماس، ويمكن الاعتماد عليهم في كل الاعمال التي تسند إليهم، جنبا إلى جنب الرجال الذين يفوقونهم سنا وخبرة، وكانوا خير قدوة لمن أتى بعدهم من عمال صغر. غير أنه كانت هنالك حالات حدث فيها العكس، إذ كان هؤلاء العمال الصغار الجدد يفسدون كبار العمال والعمال السائرين في طريق "التوبة"، ويحيدون بهم عن الطريق الصحيح والسلوك القويم. وكان هنالك قبل البدء في قبول العاملين للالتحاق بمعسكر السيد ويلكم فحص طبي شامل على كل المتقدمين يقوم به طبيب مؤهل، ولا يقبل أحد للعمل بدون النجاح فيه. ورغم ذلك فلم يكن غالب المقبولين للعمل من الأشداء الأقوياء، بل كانوا ضعفاء البنية، ولم يكونوا معتادين على أي نوع من العمل اليدوي الشاق المستمر، بل لم يكن يجيدون حتى استخدام أدوات بسيطة مثل المجارف والفؤوس بطريقة صحيحة. لذا كان العمل يُقسم بين العاملين الجدد بحسب قدرة ومعرفة كل واحد منهم. وكانوا ينالون في البداية تدريبا على طرق العمل، ثم يكلفون تدريجا على مهام مختلفة بحسب قدراتهم الجسمانية. وكان التحسن الواضح الذي حدث في أجساد أولئك الأهالي وصحتهم العامة بعد أسابيع قليلة من التدريب أمرا يبعث على الدهشة. فبعض هذه المخلوقات الضعيفة سرعان ما تتحول لأجساد قوية وعضلية تماثل بل تبز أقوى زملائهم القدامى. وكان السيد ويلكم مدركا منذ أن بدأ مشروعه المتميز أنه لا يمكن توقع أن يقوم رجاله وصبيته بالأعمال اليدوية الشاقة إلا إذا تناولوا طعاما مغذيا كافيا. فبدأ باستبعاد المريسة، التي كانت الطعام الأساس للعمال، واستبدلها بأطعمة صلبة مغذية. وأتت تلك الخطة أُكْلَهُا في وقت وجيز. وكان مما ساعد السيد ويلكم في ذلك هو رخص الذرة في موسمه الأول بالمنطقة. فقد كان سعر الأردب منها يُباع بـ 25 إلى 30 قرشا فحسب (يعادل الأردب نحو 480 رطلا أو 218 كيلوجرام). غير أن البلاد في المواسم الثلاثة التالية تعرضت لموجات حادة من القحط والجفاف والمجاعة، فغدت الذرة نادرة وغالية الثمن ويصعب الحصول عليها. وقام المضاربون بشراء محصول الذرة ساعة بذره بأسعار زهيدة جدا، ثم اتفقوا على رفع أسعار الذرة حتى بلغ سعر الأردب 200 إلى 300 قرشا. ولم يكن الأهالي الفقراء بقادرين على مقابلة تلك الأسعار الباهظة. وعض الجوع بأنيابه العمال بجبل موية، وأصابهم الهلع واليأس، حتى بلغوا مرحلة الجوع وعدم القدرة على مواصلة العمل. ولم يجد السيد ويلكم بدا من شراء كميات كافية من الذرة بتلك الأسعار الباهظة، بل استورد كميات منها من الهند وباعها لعماله بأسعار في متناول أيديهم، وتعرض بذلك لخسائر مالية من أجل رفاه عماله. وتعرض العمال في جبل موية لنقص متكرر في مياه الشرب. فعند مقدم السيد ويلكم لأول مرة لجبل موية، كانت هنالك قليل من الآبار الضحلة التي ليس بها سوى ماء أُجاج (شديدة الملوحة والمرارة). ولمقابلة احتياجات الأعداد المتزايدة من العمال للماء كان لا بد من مضاعفة تلك المصادر بمدها بمياه من النيل الأزرق، الذي يبعد نحو 35 كيلومترا من المعسكر. وإضافة لذلك قام السيد ويلكم بتعميق تلك الآبار الضحلة، وحفر المزيد منها (رغم صعوبة ذلك في منطقة صخرية كجبل موية). وكان العمال بمعسكر السيد ويلكم في أشد الاحتياج لمياه كثيرة وهم يعملون تحت أشعة الشمس الاستوائية الحارقة في الشهور الحارة (حيث تبلغ درجة الحرارة 100 إلى 120 فهرنهايت في الظل، 38 إلى 49 مئوية). وكان نقص المياه في المنطقة سببا لكثير من العنت والإجهاد. وصار من اللازم حفر آبار جديدة وبأعماق أبعد، أو جلب مزيد من المياه من النيل الأزرق، أو أن يفر الناس إلى ضفاف النهر. وفي تلك الأيام العصبية وجد السيد ويلكم أن عليه توظيف المئات من العمال فقط لحفر المزيد من المياه. فالفشل في توفير المياه لعدد كبير من العمال مثل الذين يعملون معه قد يفضي لوضع يأس. غير أنه تم بنجاح وتوفيق كبير تحاشي تلك الكارثة بسبب بعد نظر السيد ويلكم وتدبره للعواقب وقدرته المذهلة على التنظيم واتخاذ القرارات الحاسمة في الوقت المناسب. ورغم ذلك فلا بد أن السيد ويلكم كان قد مر في تلك الأيام بفترة مقلقة عصيبة. وبتكلفة مالية عالية قام السيد ويلكم في عام 1912م بجلب معدات كاملة وحديثة لحفر آبار ارتوازية لتوفير المياه لمعسكره ولكل الأهالي القاطنين بالمنطقة بصورة مستدامة. ويقوم على ذلك العمل الآن (أي في 1919م) مهندس مختص. وهو عمل بطيء وعسير وشاق، إذ أنه يتطلب الحفر في صخور من الجرانيت لمسافة لا تزيد عن قدم واحد في اليوم. وبلغ الحفر إلى الآن نحو 1100 قدما. غير أن المشروع سيكون نعمةً كبيرة للسكان عند اكتماله. وتضمن مشروع السيد ويلكم البحثي إقامة وتطوير ورش مكتملة التجهيز بها مهندسين وفنيين من كل التخصصات (من نجارين وحدادين وغيرهم) للقيام بعمليات الإنشاء والصيانة. ويقوم على تلك الورش أوربيون خبراء في مجالاتهم، كان عليهم أيضا تدريب الرجال والصبية المحليين على مختلف الحرف إضافة لأعمالهم الروتينية المعتادة. وكانت تلك الورش مدارس صناعية حقيقية. وتم تدريب السودانيين أيضا على أعمال التنقيب على الآثار. ولم يكن لنحو 90% من هؤلاء الأهالي أي حرفة يدوية عند بدء عملهم مع السيد ويلكم، ولكنهم في نهاية الموسم غدوا عمالا مهرة، يحصلون على مبالغ مالية محترمة يمكنهم ادخار جزء كبير منها، وقد يغادرون العمل وهم أشخاص منضبطين ومدربين في حرف معينة، ويمكنهم أيضا استثمار ما ادخروه من أموال كيفما شأوا. وبذا يمكن القول بأن السيد ويلكم قد أفلح في خلق عنصر صناعي جديد من عنصر الأهالي "الخام" وغير المؤهلين. وكان ما أنجزه الرجل محسوسا للجميع. وسيكون ذلك العنصر الصناعي الجديد عظيم الفائدة لتطور السودان في المستقبل. وبالإضافة للقدرات الفنية، فقد ساهمت التدريبات البدنية اليومية للرجال والصبية في المعسكر في تطوير خصال النظام والانضباط والطاعة الفورية والسلوك المستقيم. وخُصص عصر الجمعة من كل أسبوع (وهو يوم راحة المسلمين) للترفيه والترويح عن النفس. فقد أقيمت بالمعسكر ساحات للألعاب الإنجليزية، جذبت إليها الكثير من الأهالي، فجربوها وصار الكثيرون منهم مجيدين لها بعد قليل من التدريب. وأذكت تلك الألعاب روح التنافس بين أقسام العاملين بالمعسكر. ولم يكن من المستغرب أن وُجد أن أكثر المجيدين للرياضة كانوا أكثرهم كفاءةً في أعمالهم بالمعسكر. وكان الغرض النهائي من تلك الألعاب هو خلق جو صحي وترفيه بريء ومفيد للعمال، عوضا عن عاداتهم الضارة القديمة. وكان أحد أسرار نجاح السيد ويلكم هو مقدرته الفائقة على إبقاء العاملين معه سعداء ومهتمين بعملهم. ولا يشك أحد الآن في أنه حظي باحترام عميق وحب حقيقي من العاملين معه. فهم يثقون به تماما كمرشد ومحسن، بل وبحسبانه أبا للجميع. وكان كثير من كبراء ووجهاء السودانيين (من قضاة وأولياء صالحين، وفقهاء، وعُمد ومشايخ) يسافرون لأميال عديدة لزيارة معسكر السيد ويلكم، الذي يعمل به عدد من سكان مناطقهم ليروا بأعينهم ما يجري فيه من أعمال "غامضة" مثل حفريات التنقيب عن الآثار، والورش، و"بيت الصخور" وكل "المعجزات" الهندسية الأخرى التي سمعوا بها من أفواه الكثيرين. وفوق كل ذلك، قدموا لرؤية ذلك الرجل الإنجليزي وما فعله من تغييرات مذهلة في جبل موية بفضل عمل أكثر رجال قراهم بؤسا وخمولا. وكان الزوار يبدون إعجابهم وانبهارهم بأحوال العمل والعاملين وطرق تدريبهم وتنظيمهم، وبالخدمات الصحية والغذائية والمائية التي كانت تقدم لهم. وشدتهم بصورة خاصة فكرة "بنك الادخار" التي أدخلها السيد ويلكم، وبصورة أخص تحويل ذلك الرجل المسيحي الديانة للعصاة من المسلمين إلى "مسلمين صالحين". وخلص الزوار الحكماء إلى أن أوضاع أهاليهم بالمعسكر ممتازة للغاية، وأشادوا بما أنجزه السيد ويلكم في مشروعه، واعترفوا بما أسداه للأهالي وللمنطقة من خدمات رفعت من مستواهم المهني والاجتماعي والأخلاقي. ولم تصدر عنهم أي شكوى أو سخط أو معارضة لأي شيء بالمعسكر. بل على العكس، ظلوا يعبرون للسيد ويلكم عن رضاهم وتأييدهم ومساعدتهم العملية له. ولعل أكبر إنجازات السيد ويلكم في المنطقة كانت هي تحويل ذلك العدد الكبير من الأهالي - الذين كانوا قبل سنوات قليلة أشبه بالحيوانات المتوحشة – من حالة تبطل وكسل وسكر مستمر إلى حالة عمل ومثابرة وامتناع تام عن المسكرات والعربدة. ولعله إنجاز لم يسبقه عليه أحد في السودان من قبل. وزار اللورد كتشنر السيد ويلكم في جبل موية وعبر له عن اهتمامه بأبحاثه وبامتنانه له ورضاه عن الخدمات التي يوفرها لعماله، ولطرق الضبط والربط والنظام في المعسكر، وكذلك لتدريبه الأهالي على مختلف الحرف، وعلى ادخار المال. ولا غرو في ثناء كتشنر والأوربيين الآخرين على السيد ويلكم ومنجزاته، فالرجل، بلا ريب، أداة إنسانية لتمدين وتحديث إخواننا الأفارقة. وكان يعمل مع السيد ويلكم في مشروعه بجبل موية 25 من الأوربيين (كانت توفر لهم خيم استوائية)، و75 من الأغاريق والمصريين والسوريين (كانوا يعيشون تحت خيم كتانية أو قطاطي من القش). وبنيت للسودانيين من غير المقيمين بالمنطقة قرية نموذجية صحية أحاطها بسور عالٍ من الأشجار الشوكية. وصمم السيد ويلكم بنفسه وشيد أيضا بيتا عاليا من صخور الجرانيت الصلدة، محميا من أشعة الشمس ومحاطا بجدران حجرية سميكة. وكان ذلك البيت الحجري يستخدم كمكاتب للإدارة ومختبرات.