حول كتاب “حياتي وبلادي وعالمي” للدبلوماسي الأمريكي جيمس ليونارد. عرض وتلخيص: بدر الدين الهاشمي

 


 

 





حول كتاب "حياتي وبلادي وعالمي" للدبلوماسي الأمريكي السابق بالخرطوم جيمس ليونارد ماك (1)
My Life  My Country  My World by James L. Mack
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
*******                 ********
هذا عرض وتلخيص مختصر لبعض ما ورد في فصل عن السودان  بين عامي 1964 – 1967م في مذكرات السيد/ جيمس ليونارد ماك الدبلوماسي الأميركي السابق في الخرطوم عن أيام عمله في سفارة بلاده في الخرطوم في منتصف ستينات القرن الماضي ، وعن بعض آرائه وخواطره ونظرته للأحداث في السودان وما حوله في تلك السنوات. صدرت المذكرات في كتاب من 140 صفحة من القطع الكبير من دار "دورانس" بفلادلفيا   في طبعته الأولى عام 2008م. قسم المؤلف الأمريكي (وهو شاعر أيضا ومن أصل أفريقي) كتابه إلى عشرين فصلا صغيرا بدأه بمقدمة قصيرة عن حياته (1916م- ؟) وعن أمريكا وعن تطورها في كل المجالات بفضل النابهين والعباقرة من رجالها مثل إبراهام لينكون وتوماس أديسون وهنري فورد وهلبرت رايت على سبيل المثال لا الحصر، ونوه بمساهمة أمريكا المهمة والحاسمة للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ومشروع مارشال بعد نهاية تلك الحرب، وكيف أنه أنقذ أوروبا واليابان، وأشاد بالوكالة الأميركية للتنمية الدولية التي تساعد الدول النامية في أفريقيا وآسيا على تنمية مجتمعاتها اقتصاديا، وب"فيلق السلام" والذي أنشئ في عهد الرئيس الأميركي جون كيندي لمساعدة شعوب العالم النامي من قبل متطوعين من الشباب الأمريكي. بعد تلك المقدمة المادحة تطرق المؤلف لحياته بترتيب زمني منذ أن كان طالبا، ثم سفره بالبحر لأوربا (باريس وروما تحديدا) لمدة شهر كامل في عام 1951م وعودته لبلاده لتلقي التعليم العالي، حيث حصل على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة هارفارد في بدايات الستينات. التحق المؤلف بالعمل الدبلوماسي في عام 1963م، وكانت الخرطوم أول محطات حياته الدبلوماسية في 1964م، ومن هنا يبدأ الفصل الذي سنستعرض طرفا مما جاء فيه.
بدأ الفصل بالقول أنه – وزوجه مارجيري- قرر أن يزور بلدا آخر وهو في طريقه للسودان فحط الرحال في القاهرة. كتب بعض السطور عن تاريخها القديم، وعن تدين أهلها منذ عهد الفراعنة حتى مجيء الإسلام. لفت نظره ما يرتديه الرجال من جلابيب والنساء من أثواب تغطي رؤوسهن، وقال إنه انزعج من الصوت الحاد والمتواصل للملة (بقصد المؤذن) وهو يدعو الناس للصلاة. كان منظرا غريبا بالنسبة له أن يرى – وللمرة الأولى فيما أحسب-  مئات المصلين يصطفون متجهين نجو جهة الشرق ويركعون معا ويقعون ساجدين "لرب لا يرونه" كما ذكر. عند الصلاة تتوقف الأعمال والتنافس السياسي (وأضاف متظارفا "والمضاجعة أيضا")!
بعد أيام قليلة في القاهرة سافر السيد/ ماك بالطائرة إلى الخرطوم مساء يوم 11/5/ 1964م، أول محطة خارجية له في مسيرة عمله الدبلوماسي. كان السوداني الوحيد الذي يعرفه من قبل هو القاضي محمد يوسف مضوي (كتب الاسم الأخير خطأ Modowl)، وبحسب ما قاله السيد/ ماك فإن معلوماته عن أفريقيا (وهو من اصل أفريقي) لم تكن تزيد على ما شاهده في أفلام طرزان! بل كانت والدته تخشى عليه من أن تأكله الحيوانات الوحشية، أو أن تقوم قبيلة من آكلي اللحم البشري بسلقه والتهامه في السودان، وقال بأنه عندما أخبر زنجيا من أصحابه بأنه سيسافر للسودان رد عليه الزنجي بلا كثير مبالاة بأنه سيبدأ في قراءة شييء عن أفريقيا إن وجد وقتا لذلك!
رأي السيد/ ماك من نافذة الطائرة أنوار العاصمة المثلثة فأطمئن قلبه وذكرته تلك الأنوار بأنوار لوس أنجلس، أو كما قال! عندما حط في أرض الخرطوم كانت درجة الحرارة 80 درجة فهرنهايت (27 درجة مئوية) فحمد الله على أنه وصل الخرطوم في منتصف الليل!  أصيب الرجل وزوجه كما قال بصدمة ثقافية وهو يرى الناس يتجولون بجلابيب بيضاء ذكرته بما يرتديه أفراد المجموعة العنصرية المعادية للسود "كو كلوكس كلان"! ذكر بأن أول شييء أثار عجبه هو أن السودانيين أناس مهذبين وودودين وأكفاء، ويتحدثون العربية والإنجليزية! كان أول من قابله في المطار هو القاضي محمد يوسف مضوي مع مجموعة من القضاة السودانيين وسبقوا بذلك طاقم السفارة الأميركية الذي كان يقف بالخارج في انتظار خروجه من المطار، وبسبب العناق السوداني التقليدي الذي حيا به مضوي صديقه الأمريكي القديم فقد ظن طقم السفارة الأميركية الذي كان يقف بعيدا أنه رجل سوداني وليس هو الدبلوماسي الأمريكي الذي جاءوا لاستقباله في المطار! أخيرا تقدم السيد/ ماك إلى منتظريه الأمريكيين وعرفهم بنفسه!ّ  أخذوه لبيته الجديد وفي الصباح تعرف الرجل على أعضاء السفارة (السفير وضابط العلاقات العامة ونائب رئيس البعثة ورئيس الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بالسودان، والمسئولين عن القسم السياسي والاقتصادي ووكالة الاستخبارات المركزية وبقية الموظفين الأمريكيين والسودانيين). تسلم السيد / ماك شئون مكتب الملحق الثقافي الذي كان على وشك العودة لأمريكا، وكان يساعده في العمل السوداني أحمد عمر (لست متأكدا من أن المقصود هو الأستاذ أحمد عمر والذي عرفناه أمينا للمكتبة الأميركية في الخرطوم في أعوام 1968 و1969م ونحن في مرحلة المدرسة الثانوية. الكاتب). أطنب السيد/ ماك في الثناء على أحمد عمر ووصفه بأنه "جوهرة"، وأشار لفوائد تعيين موظفين محليين في السفارات الأميركية وذكر من تلك الفوائد أنها تقوي العلاقات مع الدولة المعينة، وتسهل عمل السفارة لما لهؤلاء الموظفين المحليين من معرفة وعلاقة بكبار المسئولين في البلاد، وتساعد حكومة الدولة المستضيفة للسفارة بتعيين موظفين بمرتبات عالية نسبيا (مقارنة مع الدخول المحلية) وتوفر المال للحكومة الأميركية وذلك لارتفاع أجور الأميركيين، بيد أن لها في نظره عيبا خطيرا، وهو احتمال إطلاع حكومة البلد الذي توجد فيه السفارة الأميركية على ما يدور فيها من نشاط في بلادهم. يجب ملاحظة أن ذلك كان في أيام الحرب الباردة والخوف من انتقال المعلومات (التي كانت تعد سرية) بواسطة من لا تحوم حولهم الشبهات.
أخبرت السفارة السيد /ماك  منذ البداية أنه لا توجد قواعد معينة فيما يتعلق بالتعرف على كبار المسئولين والشخصيات المتنفذة من ذوي الهيئات بالدولة، فالأمر كله متروك لذكاء الدبلوماسي ومبادراته واستعداده للتضحية بساعات طويلة من يومه لمقابلة العديد من الشخصيات، وانه لا توجد أي قيود على دعوة هذه الشخصيات على حفلات الغداء أو العشاء أو الاستقبال. بعد أن استقر السيد/ ملك قليلا في الخرطوم أقام مدير العلاقات العامة بالسفارة حفل استقبال كبير لوداع المغادرين واستقبال القادمين الجدد للسفارة، وكانت فرصة طيبة مواتية له للتعرف على عدد  كبير من الشخصيات السودانية والأجنبية من الدبلوماسيين الأجانب بالخرطوم، وبذل جهدا كبير – كما قال- لحفظ اسمائهم كاملة.
كان أول من سعى للتعرف عليهم من شخصيات المجتمع السوداني هم من عائلة المهدي. وقدم المؤلف لقصة هذا التعارف بشرح مختصر (في نصف صفحة) للمهدية وتاريخها منذ مولد مؤسسها محمد أحمد في حوالي عام 1848م، ولخص فلسفتها في أنها كانت تدعو لوحدة شاملة ومساواة كاملة ودين وقانون موحد لكل العالم، وكل من يعترض أو يعارض ذلك فيجب القضاء عليه سواء أكان مسلما أو يهوديا أو مسيحيا أو غير ذلك! لخص الدبلوماسي الأميركي رأيه في تلك الفلسفة بكلمتين لا ثالث لهما: يا للغطرسة! وشرح ما يعنيه بأنه ما من دولة مهما توفرت لها من أسباب القوة والمنعة استطاعت أن تنجح – وبصورة دائمة-  في فرض كامل سيطرتها على العالم بأسره وعلى شعوب العالم على اختلاف معتقداتهم الدينية والمذهبية والسياسية.
كان أول فرد من عائلة المهدي يلتقيه الدبلوماسي الأميركي هو السيد/ أسحق شريف الخليفة. قاد أسحق سيارته من أمدرمان ذات يوم للقاء السيد/ ماك في مكتبه بالخرطوم لدعوته وزوجه لحفل عشاء عائلي صغير في فيلته بأمدرمان. وصفه الدبلوماسي الأمريكي بأنه رجل ممتلئ الجسم، مربوع القامة، وشديد الأناقة في زيه الأنصاري ذي "العزبة" المميزة والجلباب الناصع البياض. تمت الزيارة في يوم الجمعة، حيث أخذهما سائق السفارة (والذي كان بعنوان بيت الرجل خبيرا) ولقيا السيد أسحق وحرمه في فيلتهم (والتي وصفها الدبلوماسي وصفا دقيقا). جلسوا جميعا في الحديقة، ولمنع الذباب من إفساد الحفل أمر المضيف أحد الخدم بإشعال أعواد من الصندل لم تطرد الذباب فقط بل أشاعت في المكان عبقا طيبا. خلال العشاء ذكر أسحق بأنه يرغب في الذهاب للولايات المتحدة لدراسة نظم الحكم والإدارة فيها، وخاصة فيما يتعلق بفصل الدين عن الدولة، والعلاقات بين الأعراق المختلفة، إذ أن "للسودانيين (مثلهم مثل الإسرائيليين) مشكلة في عدم الفصل بين الدين والدولة". ليس من الواضح في النص إن كانت الجملة الأخيرة من أقوال السيد/ أسحق أم الدبلوماسي الأمريكي. ذكر السيد /ماك أن مضيفه السوداني كان يعلم أن الملحق الثقافي الأمريكي هو صاحب القرار الأخير في من يحصل على منحة أمريكية للدراسة في أمريكا، فرد على طلب أسحق بالقول بأن هنالك عددا كبيرا من كبار موظفي الدولة الذين تقدموا للحصول على منح للدراسة في أمريكا، وأن هذه المنح محدودة للغاية، بيد أنه لم "يقطع عشم" الرجل تماما، فهو كما قال قد تعلم باكرا أنه في العالم العربي يجب على المرء أن لا يجيب بالنفي مباشرة، بل عليه أن يترك الباب مواربا على أمل أن شيئا إيجابيا قد يحدث.
بعد تلك الزيارة دعت السيدة/ سارة المهدي (الزوجة الثانية للسيد/ الصادق المهدي) السيد / ماك وزوجه مارجري إلى حفل عشاء في سراي المهدي. كان الدبلوماسي الأمريكي يعلم أن السيدة/ سارة قد تخرجت حديثا في جامعة أميركية هي Western College for Women، وأنها ترغب في أن يقابل الدبلوماسي الأمريكي زوجها وبعض أفراد عائلة المهدي الآخرين. قبل أن يقبل السيد/ ماك الدعوة قام بمشاورة السفير الأمريكي راوينتري بخصوص تلبية دعوة معارض سياسي للحكومة العسكرية القائمة (برئاسة الفريق إبراهيم عبود)، وكان من رأي السفير أن يلبي الرجل الدعوة، فهو مجرد ملحق ثقافي، ولا علاقة له بالأمور السياسية. استقبلتهما السيدة/ سارة أمام السراي وأخذتهما لفراندا ضخمة وضعت فيها مائدة الطعام. وجدا في استقبالهما هنالك أيضا الدكتور حسن الترابي (والذي حصل على درجة الدكتواره من جامعة السوربون بفرنسا) ويعمل أستاذا بكلية القانون بجامعة الخرطوم وهو أيضا رئيس "جبهة الميثاق الإسلامي" الأصولية. وصفه المؤلف بأنه نحيل الجسم، مربوع القامة، وله لحية مشذبة بعناية وكان ليلتها يرتدي جلبابا أبيضا وعمامة، وله طبع سهل وابتسامة أخاذة  لا تقاوم. وجدوا مضيفهم السابق السيد/ أسحق وزوجه، والذين حكيا للحضور عن دعوتهم السابقة للدبلوماسي الأمريكي! كان السيد/ الصادق المهدي يرتدي جلبابا أبيضا وفوقه عباءة مصنوعة من قماش خفيف، وعمامة ذات "عزبة"، وكان يرتدي صندلا خفيفا تبرز منه أصابع قدميه، وكان ينحني من وقت لآخر ليحك أصبع قدمه الكبير وهو يناقش أهم القضايا. كان أهم أمر تم مناقشته خلال العشاء هو كيفية التخلص من الحكم العسكري الديكتاتوري وكيفية استعادة الديمقراطية. ذكر السيد/ ماك بأن السيد/ الصادق سأله فجأة ودون مناسبة إن كان يعرف دبلوماسيا امريكيا في السفارة اسمه "جويل"، ولما جاءت الإجابة بالتأكيد لم يخض السيد/ الصادق في مزيد من الأسئلة، بل مضى يحك أصبع قدمه الكبير، فأدرك الأمريكي أن السيد/ الصادق لم يلق الإجابة التي كان يرغب في سماعها. لم يشرح السيد/ ماك أمر الشخص الذي سأل عنه السيد/ الصادق ولا أهمية السؤال، بل ترك القارئ في حيرة من أمر هذا ال "جويل". وصف الدبلوماسي الأمريكي ما قدم في العشاء من طعام فقال إنه كان يتكون من شرائح من لحم ضأن وكسكس وسلطة خضراء مع صلصة لحم لزجة، وكانت آنية المائدة من الفضة الخالصة. بعد العشاء وبرودة الجو قليلا أمر السيد/ الصادق أحد خدمه  بإحضار عباءة أخري أكثر دفئا، ولما أحضرت العباءة أبدى السيد/ ماك إعجابه بها فقدمها له السيد/ الصادق كهدية. ذكر الدبلوماسي الأمريكي بأنه لم يكن يعلم بأنه من العادة أن يهبك العربي فورا ما عبرت عن الإعجاب به. رفض الرجل الهدية في تهذيب، بيد أن زوجته لامته لاحقا على تضييعه لتلك الفرصة الذهبية وقالت له إنها تعلم أن السيد/ الصادق يحتفظ بدولاب كامل مملوء بالعباءات! قدم الدبلوماسي الأمريكي وصفا لما درسته السيدة / سارة المهدي في أمريكا وعن السيدة/ آنا لورد اشتراوس رئيسة "الرابطة الأميركية للنساء الناخبات" التي كانت ترعاها في أثناء سنوات دراستها هنالك، وعن زيارة تلك السيدة الأميركية للسودان بدعوة من السيدة سارة المهدي، والتي قال أن السفارة الأميركية بالخرطوم تلقت رسالة عاجلة من واشنطن للاهتمام بأمر تلك السيدة الأميركية المهمة في الخرطوم، بيد أنها آثرت أن تبقى في ضيافة السيدة / سارة، والتي أخذتها في جولة لمدة ثلاثة أيام في أقاليم السودان للتعرف على أحوال النساء الاجتماعية في الريف السوداني.
عاد السيد/ ماك للحديث عن الدكتور حسن الترابي (والذي وصفه بأنه أحد أفراد عائلة المهدي) وعن اتجاهه السياسي الإسلامي الأصولي وعن عدائه (هو وبقية الأخوان المسلمين) للشيوعيين لإيمانه بأن هدفهم النهائي هو تقويض سلطة الإسلام بالبلاد. ذكر الدبلوماسي الأمريكي أن تلك الجماعة كانت مصدر راحة كبيرة له (they proved to be a great comfort to me) بعد يوم 30/ 10/ 1964م عندما أجبر الفريق عبود وزمرته على التخلي عن السلطة والعودة للثكنات، وذكر أن حكومة عبود العسكرية كانت قد استطاعت احتواء الشيوعيين وتحجيم نفوذهم، بيد أن الشيوعيين بعد سقوط حكومة عبود العسكرية ظهروا كقوة سياسية لا يستهان بها على صغر عدد عضويتهم، ربما بسبب حسن تنظيمهم وقدرتهم على الخطابة والمناظرة وأيضا بسبب التمويل الجيد الذي كانوا يحصلون عليه من الروس. ذكر السيد/ ماك بأن الحزب الشيوعي السوداني كان يداوم على الادعاء بأنه له دورا مهما في إحداث ثورة أكتوبر 1964م  وفي إسقاط نظام عبود، ويتخذ من ذلك ذريعة للمطالبة بتمثيل في الحكومة والجمعية التأسيسية يناظر ذلك الدور. للأخوان المسلمين في رأي المؤلف- الآن عدد كبير من المتعلمين من الشباب المتحمس ضد الحزب الشيوعي السوداني. ذكر المؤلف من هؤلاء شاب اسمه يوسف كان عضوا بالحزب الشيوعي السوداني ودرس لعدة سنوات في جامعة لومامبا بموسكو، ثم هجر الشيوعية وترك الدراسة في روسيا وعاد للخرطوم، حيث طلب مقابلته للحصول على منحة للدراسة في جامعة أميركية، بعد أن شكا من أن الروس لا يعاملون الطلاب الأجانب معاملة حسنة، ويعزلونهم عن العالم مما سبب لهم الاكتئاب، ولا يدعونهم - كما زعم- يصادقون فتياتهم، ولا يعلمونهم شيئا يذكر غير اللغة الروسية والدعايات الشيوعية الفجة. كان يوسف خطيبا مفوها عالي النبرات ومجيدا للمناظرات ضد الشيوعيين (بحكم تدريبه السابق معهم)، وكان يدافع عن أمريكا إن حاول الشيوعيون إلصاق أي تهم بها تتعلق بكيدها للسودان وحكومته.
زار السيد/ ماك الدكتور حسن الترابي في مرات عديدة في داره وفي مكتبه بجامعة الخرطوم دون سابق موعد، وبادله الترابي الزيارات في داره حينما كان يأتي للغداء أو العشاء في صحبة عدد من رجال القانون حيث كان النقاش يدور غالبا حول المقارنة بين القوانين الأميركية والبريطانية. كان غالب كبار رجال القانون في السودان قد تلقوا دراساتهم العليا في بريطانيا، لذا كان السيد/ ماك يرى أن من واجبه توفير عدد من البعثات والمنح الدراسية لرجال القانون السودانيين الشباب للدراسة العليا بأمريكا وتطبيق بعض ما درسوه في السوابق القضائية case laws في المحاكم السودانية، والتي تستخدم الآن القوانين العرفية والقوانين البريطانية وقوانين الشريعة.
ذكر الدبلوماسي الأمريكي أنه لمس من جميع لقاءاته مع دكتور حسن الترابي أن همه الأول كان هو الإطاحة بحكم عبود العسكري وقيام حكم ديمقراطي بالبلاد، بيد أنه  لم يكن يؤمن بأن الترابي يسعى لمنح ذلك الحق للجنوبيين أيضا لأنه أنصرف عندما غدا نائبا في الجمعية التأسيسية لمناقشة حل المشاكل الاقتصادية التي تواجه البلاد ولم يستثمر جهدا يذكر في حل مشكلة الجنوبيين الذين – بحسب رأيه- فقدوا الثقة في الإسلام والمسلمين ويفضلون الاستقلال التام بدولتهم. لم يلحظ الدبلوماسي الأمريكي أي ميل عند الترابي لأسلمة أفريقيا، على الأقل حتى عام مغادرته للسودان في عام 1967م حين أغلقت السفارة الأميركية في الخرطوم عقب حرب الأيام الستة.
كان المؤلف قد التقى معظم أفراد عائلة المهدي ولم يتبق له إلا أن يلتقي إمام الأنصار السيد/ الهادي المهدي. ظل المؤلف يخطئ في كتابة  كلمة إمام Immam فيكتبها خطأ إمانImman، ولعل هذا من باب التصحيف السمعي! سهل له السيد/ يحى المهدي، والذي كان مسئولا عن ترتيب المقابلات مع الإمام لقاء السيد/ الهادي في سرايته بالخرطوم التي لا تبعد كثيرا عن مبنى السفارة الأميركية بالخرطوم (كانت السفارة وقتها في عمارة قرب تقاطع شارعي الجمهورية والقصر، وسراي المهدي في شارع الجمهورية. الكاتب). قدم الدبلوماسي الأمريكي وصفا دقيقا للإمام ومكتبه وزيه، وتعرض للاختلافات (الجسدية وغيرها) بينه وبين السيد/ الصادق المهدي، وذكر بتفصيل دقيق نوع إبريق وأقداح القهوة المميزة التي قدم له فيها القهوة (التي لا تتوفر في الأسواق إذ انها صممت وصنعت خصيصا لقصر المهدي). بعد المقابلة طاف به الإمام على بقية أرجاء القصر ودعاه لزيارة قبة المهدي في أمدرمان.
من الطريف أن المؤلف ذكر لاحقا أنه كان يرى من نافذة بيته الإمام الهادي وهو متجه نحو الخرطوم بحري مرة في سيارته الأميركية الليموزين الكاديلاك، ومرة أخرى في سيارته البريطانية الرولز رويس الصفراء، وكان يمزح مع زوجته في مع من يكون الإمام في ذلك اليوم: أمع بريطانيا أم مع أمريكا؟ بحسب السيارة التي كان يستقلها في ذلك اليوم! لم ير الدبلوماسي الأمريكي الإمام وجها لوجه مرة أخرى طوال فترة وجوده في السودان إلى أن أتى يوم كان هو وزوجته يتمشيان في شارع الشانزليزيه بباريس حين لمحا من بعيد رجلا وسيما يرتدي جلبابا ناصع البياض فوقه عباءة حريرية بالغة الأناقة ويمشي متبخترا في ذات الشارع وكأنه وما يحوى ملك خالص له. انتظرا حتى قرب الرجل منهما فأدركا بأنه الإمام الهادي. أسرعا  للسلام عليه وهما في غاية السرور بلقائه مصادفة هكذا في الشانزليزيه!        

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء