تعريب كتاب: مع الفرزدق في أكسفورد .. تأليف: الأستاذ عبد الرحيم الأمين .. تعريب: الدكتور خالد محمد فرح

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المُترجِم

لهذا الكتاب، الذي يسرني أن أضع بين يديك أيها القارئ الكريم ترجمةً له إلى اللغة العربية، قصَّةٌ طريفةٌ حقاً. فهو قد كان في الأصل أُطروحةً علمية، أعدَّها باللغة الإنجليزية الأستاذ الكبير عبد الرحيم الأمين، رحمه الله (1916م – 1968م)، تحت عنوان: A Critical Study of the Poetry of Al-Farazdaq، أي: "دراسةٌ نقديةٌ في شعر الفرزدق"، نال بموجبها درجة الإجازة العالية في الأدب B.Litt. من كلية برازنوز كوليدج Brasenose College بجامعة أكسفورد ببريطانيا، في عام 1954م، تحت إشراف المستشرق الإنجليزي الشهير بروفيسور سير هاميلتون جِب Hamilton Gibb (1895م – 1971م).
أما شهادة الـB.Litt.، فقد كنتُ أنا شخصياً، من ضمن من قد يعتقدون أنها مجرَّد درجة بكالريوس أخرى كغيرها في الآداب والسلام، فإذا هي شهادة أعلى من ذلك بكثير. ذلك أنَّ مقامها هو في الواقع في برزخ؛ فوق الماجستير، ودُوَيْن الدكتوراه، كما علمتُ ذلك عن طريق المراسلة مع أحد المختصين الذين يعملون بمكتبة تلك الجامعة العريقة، الذي أخبرني أيضًا، أن من يحصل على تلك الشهادة، يلزمه الوفاء بمتطلَّبات بحثية إضافية يسيرة في الواقع، حتى يُمنح درجة الدكتوراه.
ولسببٍ ما، يُعزى غالبًا لطول المدة، وكثرة تنقُّل المؤلف المرحوم الأستاذ عبد الرحيم الأمين، وتقلُّبه بين عدة أماكن ومهام ووظائف، ثم نظرًا لوفاته الباكرة نسبيًا، إذ إنها حدثت في عام 1968م، وهو بعد في أوائل الخمسينيات من عمره، لأنه من مواليد عام 1916م، فقد ضاعت النسخة التي كان يحتفظ بها لنفسه من رسالته تلك، مما اضطر نجله المرحوم الأستاذ صلاح عبد الرحيم للسفر إلى بريطانيا، للبحث عن نسخة أخرى منها من مكتبة جامعة أكسفورد. وبالفعل قام الأستاذ صلاح، رحمه الله، باستنساخ نسخة مصوّرة من الأطروحة في ثمانينيات القرن الماضي، وعاد بها جَذِلًا إلى السودان، لكي يضمّها إلى تراث والده العلمي الباذخ.
ثُمَّ إنَّ أُسرة المؤلف قدَّرتْ بعد ذلك، أن تعمل على إخراج تلك الأطروحة ونشرها في شكل كتاب مطبوع، فاحتمل أحد أفراد الأسرة تلك النسخة الفريدة، وعَهِد بها إلى إحدى المؤسسات العامة المعنية برعاية الآداب والفنون بالخرطوم، لكي تقوم بتلك المهمة، صونًا لهذه الدراسة الأدبية القيمة من الضياع، وحرصًا على نشر ما فيها من آيات البيان والإمتاع والفوائد العلمية الجمَّة، على أوسع نطاق ممكن، لفائدة الباحثين والدارسين والطلاب وعامة القراء على حدٍّ سواء. ولكن تلك النسخة الفريدة، لبثت قليلًا في أرفف تلك المؤسسة وخزائنها، فلم تُترجَم، ولم تُطبع، ولم تُنشر، ثم ضاعت، رغم بحث أسرة المؤلف المضني عنها.
ومنذ نحو بضعة أعوام من الآن، عُثر على هذه النسخة من هذه الدراسة النفيسة نفسها بمحض الصدفة، من بين رُكام هائل من الأوراق والوثائق والمقتنيات التالفة والمُهمَلة لتلك المؤسسة، كان على وشك أن يتم التخلُّص منه وإعدامه حرقًا بالنار. ولكن قيَّض الله تعالى لهذه النسخة شخصًا قدَّرها حق قدرها، فأنقذها من ألسنة النيران في آخر لحظة، ثم قام بعد ذلك بتسليمها إلى الباحث والأديب الشاب النابه الأستاذ منتصر أحمد النور، الذي كان يعمل حينئذٍ موظفًا بكلٍّ من معهد التنوير المعرفي بالخرطوم، وبهيئة الخرطوم للصحافة والنشر معًا، فما كان منه إلاَّ أنْ عَهِدَ إليَّ مشكورًا بتلك النسخة، ملتمسًا مني العمل على ترجمة الأطروحة إلى اللغة العربية، وهو ما وفَّقني الله سبحانه وتعالى إلى إنجازه بعونه وتسديده. وأنا من بعدُ مدينٌ بجزيل الشكر والامتنان للأخ الأصغر الأستاذ منتصر النور، على الثقة الغالية التي أولاها لشخصي في هذا الشأن.
إنَّ مؤلِّف هذه الدراسة القيمة عن شعر الفرزدق، هو الأستاذ الكبير، والمُربِّي الفاضل عبد الرحيم الأمين محمد، الذي وُلد بقرية (المُطْمَرْ) بولاية نهر النيل في العام 1916م، ولكنه أمضى جميع مراحل تعليمه الأوَّلي والأوسط والثانوي بالخرطوم، ثم قُبِل بمدرسة كتشنر الطبية بالخرطوم ودرس بها عامًا واحدًا فقط، ولكنه تحوّل منها برغبة منه إلى مدرسة الآداب بكلية غوردون التذكارية، التى تخرج فيها عام 1936م، ثم عاد إليها عند إنشاء كلية المعلمين عام 1940م، وتخرج منها في عام 1943م أستاذًا للغة العربية، حيث برع في مهنة التدريس حتى أُطلق عليه لقب (المُعلِّم)، الذي لزمه طيلة حياته.
عمل الأستاذ عبد الرحيم الأمين أستاذًا للغة العربية وآدابها بمعهد التربية ببخت الرضا، ثم بمدارس حلفا، ومدرسة الأحفاد بأم درمان، والخرطوم بحري، فضلًا عن مدرسة وادي سيدنا الثانوية، ثم عُين رئيسًا لشعبة اللغة العربية بمدرسة حنتوب الثانوية في عام 1952م، وكان ذلك هو ذات العام الذي ابتُعث فيه إلى بريطانيا، لكي يتابع دراساته العليا بجامعة أكسفورد التي مكث فيها حتى عام 1954م، حيث حصل على الإجازة العالية في الآداب B.Litt.، كما مرَّ ذكره آنفًا.
رجع الأستاذ عبد الرحيم الأمين إلى السودان في عام 1954م نفسه، حيث جرى تعيينه رئيسًا لشعبة اللغة العربية بمعهد التربية ببخت الرضا، وبرئاسة وزارة التربية والتعليم. وفي عام 1956م أُسند إليه منصب السكرتير العام لحزب الأُمَّة، وفي عام 1958م انتخب عضوًا بالبرلمان السوداني نائبًا عن حزب الأمة. ثم إنه انتدب بعد ذلك للعمل بمنظمة اليونسكو مشرفًا على تعليم اللاجئين الفلسطينيين، فظل في هذا المنصب إلى عام 1964م. ختم عبد الرحيم الأمين حياته المهنية، بأنْ عُيِّن أمينًا عامًا لمجلس الوزراء بالسودان، وظل في ذلك المنصب إلى أن اختاره الله تعالى إلى جواره بالخرطوم في عام 1968م.
لقد كان الأستاذ عبد الرحيم الأمين عالِمًا جَهبذًا بحق، ومثقفًا موسوعيَّ المعرفة، ولكنه كان متضلِّعًا بصفة خاصة في اللغة العربية وآدابها. فمن بين المعلومات التي جمعها عنه نجله الراحل صلاح، أن قراءات والده الكثيرة، وتضلّعه في اللغة العربية، قد ساعدته في مواجهة الكثير من المشاكل والمعضلات اللغوية، مثلما وقع له مع أستاذه الشاعر عبد الله محمد عمر البنا، عندما انتُدبا معًا للتدريس بكلية الخرطوم الجامعية، واستعصى عليهما توجيه كلمة بعينها في بيت للحطيئة في هجاء الزبرقان، فاقترح عبد الرحيم الأمين على أستاذه البنا قياس الكلمة المستعصية على كلمات أخرى حدّدها له. كما دوَّن لوالده أيضًا، موقفًا مماثلًا وقع له في جامعة أكسفورد مع أستاذه شيخ المستشرقين، السير هاملتون جِب Sir Hamilton Gibb (1895-1971م)، حول كلمة من قصيدة للفرزدق، خذلتهم في توجيهها كل معاجم أكسفورد، على كثرتها.
على أنَّ فترة عمل عبد الرحيم الأمين بمعهد التربية ببخت الرضا، قد كانت بحق، هي الفترة الأكثر خصوبة وتألّقًا في أدائه المهني، وتحصيله الفكري، وعطائه العلمي. ففي بخت الرضا قال عنه المستر بيتر شون مورغان Peter Sean Morgan، مدير مكتبة بخت الرضا آنئذٍ، ومفتش ملكة بريطانيا للتعليم فيما بعد: "لقد قرأ عبد الرحيم كل كتب مكتبة معهد التربية ببخت الرضا"!.
وفي بخت الرضا، جمعته زمالة المهنة بكوكبة مضيئة من أفذاذ العلماء والتربويين والمعلمين السودانيين المقتدرين والأكفاء، الذين صاروا لاحقًا، أعلامًا نابهين، يُشار إليهم بالبنان داخل السودان وخارجه. وكان من بينهم على سبيل المثال فقط، الأساتذة: سر الختم الخليفة (1919-2006م)، جمال محمد أحمد (1915-1985م)، مندور المهدي (1916-1981م)، أحمد الطيب أحمد (1918-1962)، عبد الله الطيب (1921-2003)، صلاح الدين المليك، وغيرهم.
وقد كان زميله وصديقه العلامة بروفيسور عبد الله الطيب، الذي زامله بمعهد التربية ببخت الرضا، وهو من هو، يكنُّ إعجابًا وتقديرًا عظيمين لعلم الأستاذ الراحل وشخصيته، على نحو ما أشار إلى ذلك أستاذنا الدكتور الحبر يوسف نور الدائم في تقديمه الكريم لهذه الترجمة.
أما القصيدة الفائية التي رثى بها عبد الله الطيب صديقه وزميله عبد الرحيم الأمين، وألمح إليها الدكتور الحبر، فإنها منشورة ضمن قصائد ديوانه المُسمَّى (بانات رامة)، الذي صدر بالخرطوم في عام 1970م، أي بعد نحو عامين من تاريخ رحيل عبد الرحيم الأمين، وقد نشرت القصيدة في الصحف أيام وفاته أولًا. ومن تلك القصيدة قول عبد الله الطيب:
عبدُ الرحيمِ فقدناهُ فوا أسفَا
أخا التجارُبِ والرأيِ الذي حَصُفا
العالِمَ الدَّارسَ الوافي بحُجَّتِهِ
الثَّبْتَ الذكيَّ الشُجاعَ الباسلَ الأنِفــا
الحُرُّ في نفسِهِ والعَفُّ في يدهِ
وعِرْضِهِ وقويٌّ ينصُرُ الضُّعَفَا
صَلْتٌ جهِيرٌ حديدُ الوجْهِ مُقْتدِرٌ
على الخُصومةِ عنها قطُّ ما ضَعُفَا
وكان أحمدُ فينا إذ ثلاثتُنا
ما مثْلُنا في ديارِ العُرْبِ قد عُرِفَا
ذهبْتُما عندَ أوجِ النُّضجِ حيثُ سمَتْ
إلى ضيائكُما الأبصارُ وانكَسَفا

وأحمد الذي يذكره عبد الله الطيب في البيت قبل الأخير، هو الدكتور أحمد الطيب أحمد (1918م – 1962م)، وكان هو أول من حصل على شهادة الدكتوراه في المسرح من جامعة لندن من السودانيين في عام 1952م، وأول عميد لمعهد المعلمين العالي، الذي سيصير كلية التربية بجامعة الخرطوم.
هذا، وقد تجلَّت غزارة علم عبد الرحيم الأمين وموسوعيته المبهرة بكل تأكيد، في دراسته الضافية وغير المسبوقة هذه في نظرنا، من حيث العمق، والشمول، ودقة التحليل، ونفاذ النظر، وسداد الاستنتاج، وقوة الملاحظة لشعر الفرزدق همَّام بن غالب بن صعصعة التميمي، الذي يُعتَبر أحد الشعراء الثلاثة الكبار في العصر الأموي مع رفيقيه: جرير بن عطية الخطفي التميمي، والأخطل غياث بن غوث التغلبي.
وتتميز دراسة عبد الرحيم الأمين لشعر الفرزدق بتنوُّع المصادر والمراجع التي استند إليها. فهي قد جمعت ما بين المصادر التراثية القديمة المؤلفة باللغة العربية، والمراجع الحديثة التي كُتبَت حول الموضوع، سواء باللغة العربية، أو بلغات أخرى أوروبية غالبًا، وخصوصًا باللغة الإنجليزية، أو بواسطة مؤلفين غربيين آخرين من غير الإنجليز، مثل المستشرقَيْن الألمانيَيْن؛ شاد Schaade وهلْ Hell، والفرنسي بوشيه Boucher، والمستشرق الإنجليزي بيفان Beavan الذي طبع أول نسخة من ديوان "نقائض جرير والفرزدق" بين عامي 1905م و1907م. وهو ما قد وفّرته له– بكل تأكيد– خزائن مكتبات أكسفورد العامرة بمئات الآلاف من أمهات الكتب والمراجع والدوريات، حول شتى المواضيع، من مختلف بقاع العالم، وبجميع اللغات الحية.
وقد أضفى ذلك على هذه الدراسة، مسحة ظاهرة من الحداثة، والنظرة المغايرة، وغير التقليدية لتراث هذا الشاعر الضخم، الذي قال عنه النقاد الأقدمون، إنه "لولا شعر الفرزدق، لضاع ثلث لغة العرب".
كذلك أفاد المؤلف من مناهج بعض رواد النهضة الأدبية الحديثة في الوطن العربي، وأساليبهم، وطرائق تناولهم ومعالجاتهم للمواضيع الأدبية عمومًا، وخصوصًا طه حسين وعباس محمود العقاد. على أن تأثير العقاد على المؤلف، هو الذي يبدو أكثر وضوحًا، وخصوصًا عند تناوله للخصائص والمقوّمات النفسية والسلوكية للفرزدق، بما يُذكِّر المرء نوعًا ما، بمنهج التحليل النفسي الذي اتَّبعه العقاد في دراسته لشعر ابن الرومي، على سبيل المثال.
أمَّا بالنسبة لنصوص قصائد الفرزدق ومُقطَّعاته الأخرى، فقد اعتمد المؤلف على بضعة مجاميع أو نُسَخ قديمة من ديوان الفرزدق، أشار إليها في دراسته، تعود طبعات أحدثها إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. ولم تكن تلك المصادر الأولية للدراسة متاحةً– بطبيعة الحال– للمترجم كاتب هذه السطور، حيث يقيم الآن، فاضطر من أجل إثبات النصوص، وضبطها بالشكل، ولبعض دواعي المقارنة والمقابلة أيضًا، إلى الاعتماد على نسخة الأستاذ علي فاعور، الذي أصدر ديوان الفرزدق من شرحه وضبطه وتقديمه عن دار الكتب العلمية ببيروت في طبعة أولى في عام 1987م. وهذه النسخة هي– لحسن الحظ– مبذولة إلكترونيًا على الشبكة العنكبوتية، ويمكن تحميلها واستنساخها مجانًا لمن أراد ذلك من سائر القراء والباحثين.
ولكنَّ نسخة علي فاعور هذه، على جودة طباعتها، وحسن إخراجها، لا تضم جميع قصائد الفرزدق ومقطعاته كما لاحظت. ويبدو أنها قد مورست عليها رقابة ما، ذاتية أو غيرية، إذ إنها تخلو تقريبًا، خصوصًا من تلك المقاطع والأبيات التي قد تعتبر مقذعة أو خادشة للحياء، والتي أثبتها المؤلف عبد الرحيم الأمين في دراسته، نقلًا عن تلك النسخ القديمة للديوان التي اعتمد عليها. ولقد بات لزامًا عليَّ أنا أيضًا بوصفي مترجمًا، أن أُشير إلى المصدر الذي يوجد فيه النص المعنيِّ، توخيًا لأمانة النقل، ودقة الاستشهاد. ولكنني تصرَّفت أحيانًا في بعض الألفاظ، وهذبتها مخافة الرقيب أيضًا، ولكن بما لا يؤثِّر على المعنى العمومي، ومع المحافظة على الوزن والإيقاع في الوقت ذاته.
هذا، ومن قبل علي فاعور، ظل ديوان الفرزدق موضع عناية واهتمام ظاهرين، من قِبَل النقاد والباحثين. فقد تعاقب على روايته ونسخه عدد من الأقدمين، أبرزهم ابن الأعرابي؛ أبو عبد الله محمد بن زياد (150هـ/767م – 231هـ/845م)، ومحمد بن حبيب البغدادي (ت. 245هـ/859م).
أما من قام بطبعه ونشره حديثًا فأولهم فالمستشرق الفرنسي بوشيه Boucher الذي نشر بعضًا منه وأكمله المستشرق الألماني جوزيف هلHell في عامي 1870م و1901م. وأما الناشرون والباحثون العرب في العصر الحديث الذين أصدروا ديوان الفرزدق بإشرافهم فأولهم أمين عمر زيتونة، إذ طبعه ضمن مجموعة دواوين بالمطبعة الوهبية بالقاهرة عام 1293هـ/ 1876م، ثم الشاعر عبد الله إسماعيل الصاوي الذي أصدر نسخة من هذا الديوان بالقاهرة عام 1936 مشروحة إلى قافية الميم. ثم تلته من بهد نسخ أخرى من إصدار كل من كرم البستاني في الستينيات، وشاكر الفحام، فإيليا حاوي 1983م، وعلي فاعور 1987، ثم عمر فاروق الطباع، وكل الطبعات العربية، عدا زيتونة، عيال على نسخة الصاوي.
على أنَّ الأستاذ فاعور قد هفا هفوة بيِّنة منذ السطور الأولى في مقدمته لنسخته من ديوان الفرزدق، وذلك عندما زعم أنَّ أمّ الفرزدق هي "ليلى بنت حابس، أخت الصحابي الأقرع بن حابس، الذي يُعدُّ من سادات العرب في الجاهلية". ص5.
ولا شكَّ في أن هذه المعلومة عارية عن الصحة تماماً، وإنما الصحيح والراجح هو ما ذهب إليه عبد الرحيم الأمين في دراسته من أنَّ والدة الفرزدق هى لِينة بنت قَرَظة من بني ضبَّة، الذين هم فرع كان في الصميم من مجموعة قبائل خِنْدِف. والواقع أن هنالك بيناتٍ داخليةً عديدة يمكن استقاؤها والوقوف عليها من نصوص شعر الفرزدق نفسه، تؤكد أنَّ خؤولته قد كانت في بني ضبة المذكورين، الذين كثيراً ما امتدحهم وافتخر بانتمائه إليهم في قصائده. ولو أن الفرزدق كان خاله بالفعل هو الأقرع بن حابس التميمي كما ذهب علي فاعور إلى ذلك، لكان قد ملأ الدنيا زعيقًا وضجيجًا بذلك، ولما وجد معه جرير والأخطل كلاهما أرضًا تسعهما، نظرًا لطبعه المُتبجِّح، وشخصيته المختالة الفخورة.
لقد توصَّل المؤلف في ختام دراسته، إلى جملة من المستخلصات والاستنتاجات المحدّدة عن شخصية الفرزدق وشعره، بلغ بها القمة من حيث الفطنة والذكاء، ودقة الحس والملاحظة، وحسن التذوُّق، وعمق التحليل، وبراعة النقد، فضلًا عن الجِدَّة والطرافة في مقاربة شخصية وتراث هذا الشاعر الضخم، وذي المكانة المرموقة في مسيرة الشعر العربي بصفة عامة.
وتذكِّرنا عبارة: "مقاربة شخصية وتراث هذا الشاعر الضخم.. إلخ" التي استخدمناها ها هنا، بدلًا عن "مقاربة شخصية هذا الشاعر الضخم وتراثه"، وهو التركيب العربي الأكثر "معيارية" و"فصاحة" في نظر أهل اللغة، بما أشار إليه المؤلف مُحِقَّاً من تميُّز أسلوب الفرزدق عمومًا، بالجرأة والطرافة، وتعاطيه مع اللغة بقدر ملحوظ من الجسارة واللاتقليدية، إذا ما قورن بمنافسَيه اللدودَين؛ جرير والأخطل، لأنه قد استخدم هذا الأسلوب "الحداثي" ذاته الذي فشا من بعد وصار من سمات أساليب النثر في العصر الحديث، في الغالب تأثُّراً بتراكيب بعض اللغات الأوروبية التي دخلت عن طريق الترجمة، وذلك حينما قال في بيت شهير، يؤثر الاستشهادَ به من يجوِّزون ذلك التركيب المحدث، الذي يقوم على الفصل بين المضاف والمضاف إليه، بذكر مضاف آخر أو مضافات أخرى بينهما، وهو قوله:
يا منْ رأى بارقاً أرِقتُ لهُ
بين ذراعَيْ وجبهةِ الأسدِ
أي: بين ذراعي الأسد وجبهته.
أما نحن معشر السودانيين خاصةً، فقد انتصر الفرزدق– وهو من شعراء عصر الاحتجاج بلا ريب– لمذهبنا في عاميتنا في استخدام "ال" الموصولية التي تأتي عندنا بمعنى "الذي"، بخلاف كثير من العاميات العربية المعاصرة الأخرى التي تستخدم بدلاً عنها لفظة "اللي" في هذا السياق، وذلك على نحو ما جاء في إحدى أغنياتنا الشعبية:
الليلة ما جانا
حبيبنا الكان معانا.. إلخ..
أي حبيبنا الذي كان معنا
والشاهد هو قول الفرزدق:
ما أنت بالحكمِ التُرْضَى حُكومتُهُ
ولا الأصيلُ ولا ذو الرأي والجدلِ
أي: الذي تُرضى حكومته.
ذلك، ومن بين تلك المستخلصات والاستنتاجات التي توصّل إليها عبد الرحيم الأمين عن تراث الفرزدق، أن شعر المناسبات عنده، يمثِّل سجِّلاًّ شاملاً لحياته، وهو يعكس تجاربه الشخصية، وتعليقاته وانطباعاته عن شخصيات زمانه، والأحداث التي وقعت فيه، كما يقدِّم مُدوَّنة اجتماعية تسجِّل بعض العادات والمؤسسات التي كانت موجودة في العصر الأموي.
ومن ذلك أيضاً، اعتقاد المؤلف أن مُقطَّعات الفرزدق في الغزل المكشوف، وبعض المعاني التي طرقها في الخمريات، تؤهِّله لأن يُعتَبر واحداً من الرواد الأوائل لمجموعة شعراء المجون والخمريات، الذين ظهروا لاحقاً في العصر العباسي.
إلى جانب ذلك، أشار المؤلف إلى تأثُّر الفرزدق الشديد بامرئ القيس سلوكياً وفنيًا، مُلمِّحاً إلى أن هذه النقطة ذاتها، من الممكن أن تُعتبر– على صعيد آخر- بيِّنة معتبرة لدحض مذهب أولئك الذين شكَّكوا في الوجود التاريخي لشخصية امرئ القيس، وصِحَّة نسبة شعره إليه، وعلى رأس هؤلاء بالطبع، الدكتور طه حسين، نظراً لما أورده في هذا الخصوص في كتابه (في الشعر الجاهلي).
ذلك بأنَّ الفرزدق الذي وُلد في سنة 20 هجرية، وكان شخصًا حقيقيًا لا سبيل إلى الشك في وجوده التاريخي، ولم يكن يفصل بينه وبين زمن امرئ القيس المُفترض سوى نحو قرن واحد تقريبًا، لم يكن هو نفسه يشك مطلقًا في وجود ذلك الشاعر الجاهلي الكبير ونفرٍ آخرين من مجايليه، ومصداق ذلك هو قوله:
وهبَ القصائدَ ليَ النوابغُ إذ مَضَوْا
وأبو يزيدَ وذو القُروحِ وجَرْولُ
فذو القروح المذكور في هذا البيت، هو امرؤ القيس نفسه.
أما بخصوص شعر حرب النقائض بين الثلاثي الشهير: جرير، والفرزدق، والأخطل، فإنَّ المؤلف يتخذ حيالها موقفًا يتسم بالموضوعية والتوسُّط والاعتدال. فهو يرى، مثلًا، أن شعر النقائض إنما تكمن قيمته الحقيقية في محتواه والموضوعات التي طرقها، باعتبار أنه يمثّل سجلاً أمينا وقيِّماً، يحوي ذخيرة نفيسة من المعلومات عن الحياة الاجتماعية والسياسية في بلاد العرب، منذ الجاهلية وحتى القرن الأول للإسلام الذي عاش فيه، وما شهدته من أحداث وتفاعلات ومنافرات بين قبائلها ومكوّناتها وفئاتها المختلفة، ولكنه يرى أن مستوى شعر النقائض من حيث هو، ليس بذاك من وجهة النظر الفنية البحتة، وذلك لأسباب بسط القول فيها في الدراسة نفسها.
وأما بالنسبة للمنهج والأسلوب الذي اتبعتُه في ترجمة هذه الدراسة، فأود أن أقول إنني قد ترجمت هذه الدراسة ترجمة تتبُّعية، توخَّيت فيها نقل المعاني والأفكار التي هدف إليها المؤلف، ودوّنها باللغة الإنجليزية، إلى اللغة العربية، بكل ما استطعت من دقة وإتقان، ما وسعني ذلك. على أنني قد عمدتُ إلى الإبقاء على رسم أسماء الأعلام الإفرنجية، وكذلك عناوين المصنّفات المؤلفة باللغات الأوروبية، مكتوبةً كما هى بالحروف اللاتينية إلى جانب تعريبها، وذلك تسهيلًا للباحثين الذين قد يودون الرجوع إليها في مظانّ أخرى.
ولحسن الحظ، فإنَّ المؤلف كان قد أثبت جميع النصوص والمُقطَّعات الشعرية موضع الاستشهاد، بلغتها العربية الأصلية بخطِّ يده، كما لاحظنا، ربما لعدم توفُّر آلة طابعة باللغة العربية بحوزته آنئذٍ في أكسفورد، فما كان مني إلاَّ أن أعدتُ نسخها في مواضعها، كل في سياقه.
على أنني قد أبحتُ لنفسي، أحيانًا، القيام ببعض العمل التحريري الطفيف، فابتدعت عناوين للأبواب والفصول، حسب مقتضى الحال، وأجريت بعض التعديلات الأسلوبية التي اقتضتها طبيعة اللغة العربية والثقافة الإسلامية، مثل إثبات الصلاة على الرسول الكريم، والترضِّي على صحابته الأبرار، مما لا وجود له في متن النص الأصلي للرسالة. كما أنني عمدتُ أيضًا إلى شرح بعض المصطلحات والإشارات باقتضاب لمصلحة الناشئة وغير المتخصصين من القراء، وميَّزت ذلك بين علامات تنصيص، موضحًا أن ذلك هو من عمل المترجِم، وليس في أصل النص، للتفريق بين الاثنين.
أما بالنسبة للهوامش الأصلية التي صنعها المؤلف لهذه الدراسة، فإنني لم أقُم بترجمتها كلها، ولم أترجم إلا بعض الهوامش التي تكتسي أهمية خاصة، وتُلقي إضاءات حقيقية على المتن.
إن هذا الكتاب هو في تقديرنا، سِفْرٌ نادر في بابه، جديرٌ بالاهتمام به، والاطلاع عليه. وسيجد فيه الطلاب ودارسو الأدب والباحثون في مجاله، إلى جانب محبي الشعر وعامة القراء بكل تأكيد، مائدة عامرة بألوان شهية من طرائق البحث العلمي عموماً، والأدبي خصوصًا، وبصفة أخص في مجال الشعر الأُموي، مُمَثَّلًا في تراث أحد أساطينه المشهورين؛ الفرزدق همَّام بن غالب بن صعصعة.
وفي الختام، لا يسعني إلاَّ أن أتوجَّه بفائق الشكر وجزيل الامتنان لجميع من أسهم بسهمه، وأدلى بدلوه من أجل أن يرى هذا العمل النور. وأرجو أن أخصَّ بالثناء والتقدير كلاً من الأخ الأستاذ منتصر النور الذي انتهت إليه تلك النسخة النفيسة من هذا البحث، وعهِد بها مشكورًا إليَّ.
ثم أزكى التحية مقرونة بوافر الشكر والعرفان، أزجيها إلى أسرة المؤلف المرحوم الأستاذ عبد الرحيم الأمين، مُمثلةً بصفة خاصة في كريمته الأخت الفاضلة الأستاذة نفيسة عبد الرحيم، أولًا على تأمين الموافقة المبدئية للأسرة الكريمة على ترجمة هذه الرسالة إلى العربية، وطباعتها ونشرها، وتزويدي ببعض المعلومات المهمة في سيرة المؤلف، ثم على الجهود المقدرة، والاتصالات المضنية التي أجرتها مع الموظفين المختصين بجامعة أكسفورد، من أجل الحصول على عدم ممانعة هذه الجامعة في نشر ترجمة إلى العربية للأطروحة.
وبدوري أيضًا أودّ أن أخصَّ بالشكر والعرفان كلًا من السيد Rob Wilkes، مسؤول قسم الكتب النادرة والأطروحات بمكتبة البودليان بأكسفورد، والسيد Alan Brown، كبير مساعدي مدير قسم الاستعلامات الرئيسي بمكتبة البولديان بأكسفورد، على أريحيتهما ولطف تعاملهما معي، وخصوصًا على مساعدتهما القيمة لنا في استيفاء النواحي القانونية من أجل تأمين الموافقة على نشر الترجمة العربية لهذه الأطروحة.
كذلك أود أن أشكر الكاتب والناقد السوداني الكبير المقيم ببريطانيا، الأخ الدكتور أحمد محمد البدوي، على الاهتمام الذي أبداه تجاه هذا العمل، وعلى التشجيع والنصائح والاقتراحات السديدة التي محضني إياها.
كما أزجي أيضًا أسمى آيات شكري وتقديري للأخ والصديق العالم والأديب، الدكتور الصديق عمر الصديق، مدير معهد البروفيسور عبد الله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم، على الاهتمام الذي أبداه حيال هذا العمل، وكذلك على مساعدته القيمة في تأمين التواصل فيما بيني وبين العلامة الأستاذ الدكتور الحبر يوسف نور الدائم، الذي وافق مشكورًا على مراجعة هذه الترجمة والتقديم لها، أدام الله بقاءه ونفع بعلمه.
وإنما سعينا إلى الدكتور الحبر بالتحديد، من أجل مراجعة هذه الترجمة والتقديم لها، لأنه ابن بجدتها في هذا الفن، إذ إنه من بقية الخلف الطيب من ذلك السلف الصالح من أولئك الأساتذة والعلماء الجهابذة المتمكنين الذين مضوا. فهو رجل ذو معرفة وبصر واسع بأساليب البيان اللغوي والأدبي والنقدي في اللغتين العربية والإنجليزية معًا، وخصوصًا فيما يتعلّق بالشعر العربي القديم.
ويكفي أن نذكر في هذا المقام أنه واحد من تلاميذ عبد الله الطيب النجباء بجامعة الخرطوم، فضلاً عن أنه من الذين نهلوا لاحقًا، من علم وتجربة المستشرق الإنجليزي الكبير البروفيسور مونتغومري واط W. Montgomery Watt (1909م – 2006م) بجامعة إدنبره بأسكوتلندا، التي نال منها درجة الدكتوراه. وينداح شكري أيضًا لكي يشمل نجله الهمام الأستاذ عمر الحبر، المحاضر بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، على مساعدته القيمة لي في هذا الشأن.
والشكر أجزله مرةً أخرى، أسوقه إلى الأخ الأستاذ منتصر أحمد النور على مراجعة هذا الكتاب فنيًا، وضبط تحريره، وأسمى آيات الشكر والتقدير للدكتور الفنان أحمد عامر جابر، على مساعدته في تصميم هذا الكتاب، ونسخ خطوط عناوينه، وتشكيل لوحة غلافه الأمامي.
ولا يفوتني بالطبع، أن أتقدم بوافر الشكر والتقدير لمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان على اضطلاعه بمهمة طباعة ونشر هذا الكتاب، سائلًا الله العلي القدير أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله عملًا خالصًا مُتقبَّلًا، وأن يدَّخره علمًا نافعًا، وصدقة جارية للمؤلف بالأصالة له، ولنا معه بالحقوق المجاورة، كما يجري المصطلح بذلك، إنه نعم المولى ونعم النصير.
خالد محمد فرح
الخرطوم – الجريف غرب

khaldoon90@hotmail.com
////////////////////////////

 

آراء