حول “مائدة الرحمن”: سطور من كتاب: “ألف ليلة وليلة مصرية” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
25 August, 2011
25 August, 2011
حول "مائدة الرحمن"
سطور من كتاب: "ألف ليلة وليلة مصرية"
جينيفر دراقو
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: قرأت مؤخرا كتابا لكاتبة أمريكية اسمها حينيفر دراقو عنوانه "ألف ليلة وليلة مصرية: حياة أميركية مسيحية وسط مسلمين" صدر عام 2007م عن دار نشر هيرالد، ويحكي عن تجربتها في العيش – مع زوجها وأطفالها- وسط المصريين المسلمين (والأقباط) في صعيد مصر. يعد النقاد ممن قرظوا الكتاب وكاتبته (وسجلت تعليقاتهم في غلاف الكتاب الخلفي) أن المؤلفة نجحت في رسم صورة مغايرة للصورة النمطية للأمريكي من شخص "قبيح" و"مغرور" و"غير متسامح" إلى شخص "صاحب روح شفيقة، وقلب مفتوح، وضمير حي، وعقل محب للاطلاع". يقول ناقد آخر أن الكتاب يبحث في مجال "عبر الثقافات transcultural” ويرصد الحياة اليومية للمسلمين والمسيحيين الذين عاشوا في سلام جنبا لجنب للآلف السنين، ويحارب “الإرهاب" بالشاي والصداقة والانغماس في حياة الناس مختلفي الثقافة والدين والطبقة الاجتماعية والاقتصادية.
في السطور القليلة التالية أنقل بعض ما كتبته المؤلفة عن مشاهداتها في أحد أيام رمضان حول "مائدة الرحمن" في "بني سويف" مع زوجها. قد يرى البعض أن ما كتبته السيدة دراقو إنما هو تكريس للصورة النمطية عن مصر بما فيها من زحام و"حشرية" وضرب للزوجات مع عدم اكتراث المجتمع، علاوة على الفقر والعوز والشحاذة، في مقابل الصورة النمطية للفرد الغربي المتصفة بالسمو والمشاركة وحب الخير والسلم. ليس من أغراض هذا النقل تفسير نوازع الكاتبة أو عرض دوافعها، فذلك متروك للقراء.
-------------
في آخر رمضان لي في مصر كانت أحدى أهدافي هي المشاركة في أحد "موائد الرحمن"، وهي موائد الطعام التي تقيمها المساجد لفقراء الصائمين عند المغيب.
كانت الإسكندرية، تلك المدينة الكوزموبوليتانية (العالمية) (والتي تبعد 6 ساعات شمال مقر إقامتي) قد شهدت قبل أسبوع من حضوري لتلك المائدة الرمضانية أسبوعا من العنف الطائفي والتظاهر والصراع العنيف بين المسلمين والمسيحيين. بدأ الصراع عندما تسرب للأيدي الخطأ شريط فيديو لمسرحية تم عرضها قبل عامين في كنيسة اورثودوكسية. شجب خطيب لصلاة الجمعة في أحد المساجد المسرحية لإساءتها الإسلام، ودفع ذلك الآلاف المسلمين الغاضبين لتطويق الكنيسة، ومحاولة حرقها. تم تخريب المباني، وتحطيم متاجر المسيحيين، وقلب السيارات ثم حرقها. وكان الأفظع من كل ذلك هو طعن إحدى الراهبات، وقتل الشرطة لثلاثة من المسلمين المحتجين. ساد التوتر البلاد كافة، ونصحتنا الجهات المسئولة –نحن المسيحيين الأجانب- بتحاشي المناطق التي يشتد فيها النزاع بين المسلمين والمسيحيين (خاصة الأحياء الفقيرة منها).
كان صدى تلك النصيحة (أو التحذير) يتردد عاليا في رأسي عندما دلفت مع زوجي (براد) إلى أحد المساجد في منطقة فقيرة من "بني سويف". اتجه هو نحو الموائد التي أعدت للرجال، بينما خطوت أنا صوب تلك التي مدت للنساء والأطفال. كانت تكفي نظرة عابرة لملابسي لتشي بأنني لست مثل الأخريات في ذلك المكان. بالفعل كنت أرتدي ملابس محتشمة بأكمام طويلة، وتكاد تمسح الأرض من طولها، لكنها كانت لافتة لنظر الأخريات اللواتي كن يرتدين ملابس سوداء من الرأس إلى القدم، إذ أن ملابسي كانت ذهبية اللون. أخذت مقعدي حول طاولة عتيقة من الخشب الرقائقي مقابلة لشابة ذات وجه مبتسم وأقراط ذهبية تتأرجح. ما أن وقعت عيناها علي حتى صاحت في فرح: "أين كنت كل هذه المدة؟ لم أرك منذ زمن طويل! اشتقت إليك!" .حدقت فيها دون أن يسترجع عقلي أي شيء عنها. أنقذتني بالقول: "كنت قد لقيتك في بيت أم عبد الله...تلك المرأة التي أخدم في بيتها. لقد كنت هنالك ذات يوم مع أطفالك الثلاثة. كيف حالهم؟". تذكرت أنني ربما أكون قد لقيتها للحظات قبل عام تقريبا في مطبخ تلك المرأة، ورغم ذلك ما زالت تذكرنا. يبدو أن المرء يظل يذكر الأجانب حتى وإن لقيهم للحظات قليلة. كنت دوما أذكر أطفالي بأن كل ما نقوله، وكل ما نفعله لا يلاحظ فقط، بل يتذكر أيضا، ويتحدث عنه.
"إنني أيضا أعرف هذه المرأة". قال ذلك شاب صغير وهو يرمي بكوم من الخبز العربي على الطاولة. كان ذلك شخص آخر لا أتذكر أني رأيته من قبل. لم انقطع عن العجب والتعجب وذلك الشاب يصف لي، وبدقة متناهية، الطريق إلى شقتي، بل والرقم المكتوب على الباب! وجدت نفسي أسأله في استغراب: "وكيف عرفتني، وعرفت كل ذلك؟". رد بالقول: "إنني اعرف جاركم "نادر". لقد كنت في شقته في ذلك اليوم الذي كان يضرب فيه زوجته، وأذكر أنك تدخلت وانقذتي زوجته من قبضته". مضى يحكي القصة كاملة للنساء حولي في الطاولة، بيد أن الدهشة كانت قد أخذت مني كل مأخذ، فلم أسمع جل ما كان يقوله ذلك الرجل. لقد كان يحكي عن شيء مضى عليه نحو نصف عام (وكأنه حدث قبل ساعة!). لم يكن بمقدوري إلا أن اسأله سؤالا واحدا: "وكيف عرفت "نادر"؟" ، بينما كان من الواجب أن أساله كيف ظل ساكنا يتفرج على "نادر" وهو يؤذي زوجه "فاطمة". رد بالقول: "عرفت "نادر" منذ أن كنا طلابا في المدرسة. لقد كان شخصا لطيفا، ولكنه تغير كثيرا الآن. لم أره لعامين كاملين قبل ذلك اليوم الذي ضرب فيه زوجته. صار مدمنا علي البنقو، ولعل هذا هو السبب في تغيره (البنقو ممنوع قانونا، لكننا كنا نشمه باستمرار ونحن نجلس في حديقتنا الخارجية الصغيرة، أو عندما نتمشى في الأزقة الضيقة).
بوم...بوم... بوم! فجأة سمعنا صوت مدفع الإفطار. يمكننا الآن البدء في الإفطار. كانت الوجبة مكونة من صحن من الفول المصنوع في صلصة طماطم. وجبة بسيطة، لكنها كانت لذيذة عامرة بالبهارات. بعد فراغنا من الفول طاف علينا أحدهم بقطع من الدجاج كان يغرفها من مقلاة مدهنة ويسلمها للجالسين يدا بيد! ثم أتى الشاي، بيد أني اضطررت للمغادرة فلم أنعم بكوب منه.
وأنا أتأهب للخروج سألتني جارتي: "هل ترغبين في غسل يديك؟" ، وأخذتني لمغاسل المسجد. مضيت بعد ذلك في الحديث مع منظمي "مائدة الرحمن" تلك. تحلق حولي عدد كبير من الأطفال عند سماعهم للهجتي (المختلفة) وهم يمسحون بأيديهم الصغيرة حول ذراعي، ويربتون على محفظتي (والتي أدركت مؤرخا أنه كان من الواجب أن أتركها في المنزل). ازداد عدد المتجمهرين حولي، فزاد قلقي ولم أعد قادرا على مواصلة الحديث مع منظمي "مائدة الرحمن". كان علي أن أغادر المكان، بيد أنني لم أشأ مغادرة المكان دون أن أقدم تبرعا لمنظمي تلك المائدة. لم أكن محتاجة لتلك الوجبة المجانية.
قلت لأحد منظمي المائدة: "هل بالإمكان أن نذهب إلى مكان خاص منعزل. أريد أن أتبرع لكم ببعض المال."... "مكان خاص ومنعزل" في مصر؟! معقول هذا؟! فيم كنت أفكر؟ جرني برفق إلى ركن منعزل حيث أدخلت يدي في محفظتي ونفحته بعض ما فيها من مال. ما أن التفت لأمضي في طريقي للخارج حتى أحاط بي بحر من النساء المتوشحات بالسواد وأيديهن مفتوحة تطلب المال. كانوا قد رأوني أعطي الرجل شيئا من المال، وهم الآن يطلبون نصيبهم العادل.
قربوا مني أكثر ومضوا يمسحون بأيديهم على شعري ووجهي. لم يكن يلحون في الطلب أو يمارسون علي أي ضغط...فقط كانت أعينهم اليائسة تتضرع إلى، وتحكي قصص شقاء وبؤس لا حد لها. كنت أحس بأنفاسهم في وجهي، وأرى شفاههم وهي تخرج أصوات تضرع ونحيب مكتوم. جعلت الروائح وحرارة الجو والإحساس بالاختناق ركبتي تكاد تخوران. كنت أغرق في ذلك البحر المتلاطم من الحزن الأسود، وفجأة أخذني أحدهم من يدي وهو يصرخ في النساء: "هذه امرأة صالحة. لقد أنقذت امرأة من ضربات بعلها. دعوها تمر". كان ذلك هو الشاب الذي شهد "نادر" وهو يضرب زوجته "فاطمة". كرر القول بأنني "امرأة حنونة. ليرحمها الله مثلما أبدت شفقة على واحدة منا". سعى بنجاح في إخراجي من بين ذلك الزحام البشري الذي كاد أن يتحول إلى مظاهرة غوغائية.
كانت الطرق هادئة، والجميع في منازلهم يتناولون طعامهم. سمح لي الهدوء (المؤقت) بالتفكير والتبصر و"لوم" النفس، بل وعقابها. لم عدت، ولم لا أرجع الآن وأتبرع لهؤلاء الناس. لقد كانت نيتي سليمة، بيد أن توقيتي كان بالقطع سيئا للغاية.
عادت بي الذاكرة لذلك اليوم الذي رأيت فيه ثلاثة رجال يجلسون في غرفة "فاطمة" وبقع كبيرة من دمها تلوث أرضية الغرفة. لم أعد أتذكر وجوههم، بيد أن واحدا منهم نجح في التعرف علي. لا يمكن التنبؤ بما يحدثه فعلك (أو امتناعك عن الفعل) على شخص آخر. تصور ما يمكن أن يحدث لو أنني استجبت لمشاعري وقمت بصفع الرجال الثلاثة الجالسين في الغرفة ينظرون للمرأة وهي تضرب! بم كان سيذكرني ذلك الشاب حينها؟ إن كنت بحاجة لتأكيد فعالية "اللاعنف"، فقصتي هذه أكبر دليل على تلك الفعالية. لقد تذكرني الشاب بسبب استعدادي للمساعدة، وليس لفورة غضبي.
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]