حياة مفتش مركز في عهد الحكم الثنائي (2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Background to the Life of a District Commissioner - 2
كينيث دي ديهيندرسون K. D. D. Henderson
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لجزء آخر من بعض ما جاء في الفصل الثاني من كتاب الإداري البريطاني كي دي هيندرسون (1903 -؟) والذي أعطاه عنوانا له مغزى وهو"Set Under Authority” ، والعنوان مأخوذ، كما ذكر المؤلف، من الاصحاح السابع لإنجيل لوقا:
For I also am a man set under authority, having under me soldiers, and I say to one, Go, and he goes; and to another, Come, and he comes; and to my servant, Do this, and he does it.
وترجمتها بحسب ما جاء في عدة مواقع اسفيرية مسيحية هي: "لأني أنا أيضا إنسان مرتب تحت سلطان، لي جند تحت يدي. وأقول لهذا: اذهب فيذهب، ولآخر: ائت فيأتي، ولعبدي: افعل هذا فيفعل" .
ويحكي الكتاب (والذي صدرت طبعته الأخيرة عام 1987م عن دار نشر كاسيل كاري البريطاينة) مذكرات ذلك الإداري البريطاني العتيد، والذي بدأ عمله في مجال الإدارة بواد مدني في عام 1926م (وعمره 23 عاما فقط)، ثم عمل بعد ذلك بالنهود وكوستي والخرطوم وسنكات، ثم الخرطوم مرة أخرى (مساعدا للسكرتير الإداري)، ونائبا لحاكم كسلا، وأخيرا حاكما لدارفور بين عامي 1949 و1953م. وللرجل مقالات وكتب كثيرة منها كتاب "السودان" والذي صدر عام 1965م.
وشملت هذه الطبعة من كتاب هيندرسون مقدمة بقلم الدبلوماسي البريطاني (الاسكتلندي) اليس ستيرلينق (1927 – 2014م).
المترجم
********* ************* **************
معلوم أن السودانيين يعجبون بالمسئول الصارم المتشدد (martinets). وخير مثال لذلك النوع من الرجال هو الرائد برامبل (أو "أبو شوك" كما كان يلقبه الأهالي)، أشهر مفتش مر على مدينة أمدرمان طوال عهد الحكم الثنائي على الإطلاق. وقد أتى برامبل لأمدرمان قادما من مديرية أعالي النيل في عام 1920م، وتقاعد في عام 1923م. غير أنه – وبمطالبات ملحة من الأهالي-أعيد إلى الخدمة بأمدرمان وبقي بها حتى تقاعد مرة أخرى في عام 1935م. وحكى اليوت بالفور (1932م) الذي كان يعمل تحت إدارة برامبل عنه ما يلي:
"لقد كان برامبل ضابطا سابقا في المارينز. ولم تكن له خبرة عملية كبيرة في الخدمة المدنية العامة، ولكنه كان واسع الخبرة في عمليات (عسكرية) خاصة في مختلف أرجاء العالم. لقد حكم أمدرمان بقبضة حديدية وكان كل سكان المدينة يحبونه جدا. وعندما حان يوم مغادرته للمدينة متقاعدا (وكان عمره الحقيقي يومها 53 عاما) تظاهرت حشود كبيرة من مواطني أمدرمان مطالبين الحكومة بتمديد بقائه. غير أن الحكومة رفضت ذلك المطلب لآن عمر براميل كان بحسب سجلاتها 65 عاما.
وأعتقد أن سر نجاح برامبل يكمن في أنه، ورغم تشدده في تطبيق القوانين وصرامته الظاهرية، هو عدله بين الناس، وشخصيته التي تميزت بالاتزان والاستقامة وعفة اليد. فقد كانت كل أعماله موجهة لخدمة من كان يدير شئونهم، ولخير المجتمع السوداني على وجه العموم. وقام هو وزوجه بأعمال خيرية (غير رسمية) عديدة بأمدرمان.
وكنت قد أمرت بأن أجلس في مكتبه، وأن أراقبه وهو يعمل، ومع مرور الأيام بدأ يكلفني بقضاء بعض الأعمال. وفي صباح كل يوم وعند السادسة والنصف تماما كنا نقوم سويا بطواف على ربع أحياء المدينة. وكان يلقانا عند مدخل كل حي المأمور (المامور) وشيوخ المنطقة التي نتفقدها، وطابور من رجال الشرطة وهم يرتدون زيا أبيضا كاملا بالغ النظافة. وكانت مهمتي هي مرافقة برامبل، ومراقبة توقيت حضور المتأخرين من الموظفين أو شيوخ المنطقة عن المشاركة في ذلك الطقس اليومي، وأن أنذرهم من مغبة تكرار التأخير والاهمال. وذات مرة حضرت مسرعا لمقر العمل وأنا على ظهر جواد للشرطة يركض بأسرع ما يمكنه، وشاء حظي العاثر أن كان برامبل هو أول من ألقاه، فجحدني بنظرة باردة ذات معني وصرخ في وجهي قائلا: "يا أيها الخنزير. عليك اللعنة! لم تركت إحدى أزرار بدلتك مفتوحا؟". ولم أجرؤ بعد ذلك اليوم على أن أحضر متأخرا أبدا. وفي خلال جولته في المدينة كانت برامبل يقف مستمعا لشكوى كل مواطن أو مواطنة تتقدم نحوه مهما عظم أو صغر عمر أو قدر الشاكي،وبغض النظر عن أهمية الشكوى نفسها. وكان يحرص على أن تكون شوارع المدينة نظيفة دوما، وأن يراعي السكان فيها قوانين ولوائح البلدية فيما يتعلق بالمباني وغير ذلك. وكانبرامبل يحرص بصورة خاصة على تفقد الأسواق (خاصة أماكن بيع اللحوم) ويعاقب على الفور كل من يخالف الأنظمة الصحية المقررة. وكان الرجل قد خاض معارك عديدة مع "لوبي" الجزارين القوي، وليس هنالك متسع لرواية تفاصيل كل تلك المعارك، ولكن يكفي أن نقول بأن برامبل قد انتصر في كل تلك المعارك (ومن الحكايات الأمدرمانية القديمة عن برامبل أن جزاري السوق اتفقوا ذات مرة مع بعض النسوة في مقدمة السوق على أن يطلقن زغاريد عالية جدا عند رؤيتهن من بعيد لموكب برامبل وهو يتفقد السوق بغتة حتى يتسنى لهم تغطية اللحوم التي يعرضونها للبيع بقطع من الشاش الأبيض النظيف كما يريد برامبل. غير أن حيلة ذلك "الإنذار المبكر"لم تنطل على برامبل عند استجوابه لأولئك النسوة. المترجم).
وفي المكتب لم أكن أفعل شيئا يذكر غير مراقبة شخص عظيم وهو في حالة عمل لا ينقطع. ورغم أن معرفتي باللغة العربية حينها كانت بالغة التواضع، إلا أني أعد فترتي مع برامبل كانت هي فترة دراسية مفتوحة تعلمت منها الكثير. ولم يكن برامبل يخوض أبدا في نقاشات لا طائل ورائها مع أحد من المواطنين. وإن حدث واستطرد أحدهم في نقاش طويل في مسألة من المسائل لا يوافق عليها برامبل، فإنه يصرخ مناديا هاشم رئيس الكتبة (الباشكاتب) ويأمره بأن يشرح لذلك المواطن وبتفصيل شديد لماذا رفض طلبه. وما أن يكمل هاشم الشرح حتى يردد برامبل جملته الشهيرة باللغة العربية لذلك المواطن: "داير ممنوع... مش ممكن"، وإن الحف المواطن في الطلب فسيسمع الجملة الأخيرة:" أنت مهبوس هسع (أنت محبوس الآن) ". وبعد عام من عملي مع برامبل تصادف أن قابلته ذات نهار في الخرطوم فصاح في وجهي قائلا: "ماذا تفعل هنا؟" أخبرته بأني سأجلس لاختبار في اللغة العربية. هز رأسه ساخرا وقال: "أي اختبار!؟ كلمتان خفيفتان هما كل ما تحتاجه لإدارة هذه البلاد ". وهنا توقعت أن يكرر أمامي ما ظللت أسمعه يوميا لعام كامل:"داير ممنوع" ...أو"مش ممكن"...ولكنه أجابني بما ما ورد في مسرحية لشكسبير: "Severity tempered by justiceصرامة يخفف من غلوائها العدل"، وأنصرف مثقل الخطو.
وحاولت بعد ذلك بسنوات أن أجرب طريقة براميل في الإدارة غير أني أخفقت في تحقيق المراد. وأيقنت حينها بأنك يجب أن تكون "برامبل" كي تجعل تلك الطريقة التي تمزج الصرامة والعدل تؤتي ثمارها. وتلك القصة تلخص الكيفية التي كان يدير بها البريطانيون السودان. كانت طريقتهم هي: "الحكم بالأفراد". وكان لكل فرد منا طريقته الخاصة في إدارة شئون من نحكمهم، بيد أن هدفنا النهائي كان بالطبع واحدا.
ويجب أن نذكر هنا أن كثيرا من السودانيين لم يكن يحبون تلك السياسات الفردية. كان بعضهم يقول متبرما: "لقد تعودنا للتو على السيد "س" وسلوكه العجيب وغرابة أطواره، والآن تودون تغييره بالسيد "ص"، والذي لا نعرف عنه شيئا، وعلينا أن نبدأ معه من الصفر". غير أني كنت أعتقد حقيقة أنهم في الواقع يحبون ذلك النوع من التغير، فتغيير المسئولين فيه منالإثارة والترقب والغموض ما فيه".
وخلاصة الموضوع هو أن السودانيين لم يكونوا يرغبون في مغادرة برامبل لمدينتهم. ولا يزال بأمدرمان والدلنج والنهود ودارفور والجنوب من لا يزال يذكر برامبل ويحبه رغم صرامته وغرابة بعض طباعه.
وهنالك من يشكك في صحة ودقة نظرية الحكم الاستعماري التنويري / المثقف (enlightened). وكنت كثيرا ما أؤمن في أيامي الأولى في الإدارة بأن رؤسائي من كبار الإداريين لا يخطئون. كانوا يعلموننا مثلا بأنه من الضروري عدم رفض كوب من الشاي أو القهوة يقدمه لك أحد الأهالي. بل ويتبعون ذلك بقصص كنا نسمعها ونحن نسمر ليلا بينا كنا نعبر الفيافي والقفار عن أحد الباشوات قديما والذي رفض أن يتناول كوب قهوة قدمه له مضيفه السوداني، فما كان من أن المضيف إلا أن أوسع ضيفه غير المهذب طعنا بالسكين! ونترك في حيرة عما يجب أن نفعله في مناسبات احتفالات الأهالي عندما يقدمون لنا الشاي المغلي في ماء الآبار العميقة الذي يخزنونه في قرب جلدية تجعل رائحته كريهة جدا. رغم ذلك فإني أتذكر شيخ الخوالدة في مدني يصيح لمن حوله: "كفانا من هذا الشاي. لقد ملئتم بطوننا بالشاي. احضروا لنا بعض البسكويت". ولا أذكر أن أحدا من مضيفيه قام بطعنه!
وعلى وجه العموم، فإن شرب القهوة مع الأهالي كان أمرا ممتعا ومن مستلزمات الاتصال الاجتماعي معهم. وسجل تي. هـز ماينورز (1930م) ما يذكره في هذا الصدد:
"توقفت في مكان قفر بإحدى مناطق الجزيرة لأسأل عن الطريق الصحيح. خرج لي أحد الرجال وهو بادي الفقر، وأصر على أن يقدم لي شيئا. ولما لم يكن لديه شاي أو قهوة، بل كان كل ما لديه هو قليل من السكر. فقامبوضع قليل منه في كوب ماء بئر مالح وقدمه لي. وقفت عاجزا تماما عن مجازاة ذلك التقليد والسلوك الودي. وهو سلوك كنت – وغيري من الإداريين- يشاهدونه باستمرار حتى مع أكثر الأهالي عوزا. ولا يخفى أن هؤلاء الأهالي كانوا يفعلون ما يفعلون دون أدنى شعور بالصغار أو الخنوع، و بصورة تلقائية وبكل حرية وعزة وكرامة وشعور قوي بالمساواة بينهم وبين ضيوفهم. وهذا ما يقوي روابط الاحترام والود لهذا الشعب. ويحافظ هؤلاء الناس على قواعد اللياقة والتهذيب وتكتيكات النهج غير المباشر (في المخاطبة)، غير أنهم لا يترددون أبدا في الجهر بأمانيهم وآرائهم، وأحيانا بصورة قوية.
ومن النصائح التي كانت تقدم لنا هي أن لا نفقد أعصابنا وأن لا ننفعل، وكان بعض الانجليز قد اشتهروا بذلك، خاصة عندما يتعرضون لأقل استفزاز.
وقد فقدت أعصابي بالفعل مرة واحدة بسبب مشكلة لا مجال هنا لشرح تفاصيلها، ويكفي أن أقول إنها كانت بسبب توزيع دية على أصحاب دم قتيل، وجشع بعض هؤلاء ورغبتهم في الاستئثار بكل المال وحرمان غيرهم. وهنا ثار الدم في عروقي فلم أملك نفسي من شدة الغضب وأسمعتهم ما لا أتفوه به عادة. وبعد أن هدأت قليلا قال لي مساعدي السوداني يوسف سعد:" الحمد لله على أنك استثرت أخيرا! لقد بدأ الناس هنا يقولونإن قلبك أسود وأن "بطنك غريقة" تقوم بتخزين حقدك وحنقك على المرء ولا تظهر له شيئا من ذلك حتى تحين لك الفرصة فتنتقم منه في وقت لاحق". وبالمناسبة، فيوسف سعد هذا كان من أفضل أصدقائي الذين صادفتهم في الحياة، وكان لي نعم الناصح الصدوق، ويداوم على تنبيهي إن لاحظ خطأ في موقفي أو فشلا في أداء عمل ما كان يجب على أدائه. وأذكر أنه عمل معي مرتين. وقال لي عندما التقاني في كوستي للمرة الثانية إنه سعيد جدا بالعمل مع رجل يعرفه جدا للحد الذي يمكنه معه تنبيهه للأخطاء التي يرتكبها.
ونعود الآن إلى جاكسون في عام 1907م.
عند وصول جاكسون إلى سنار أقام في بيت صغير يشبه الصندوق بني بالطوب الأحمر. وكان كل سكان النيل الأزرق يعرفون ذلك البيت ويطلقون عليه "بيت قورنجي بيه". وعمل العقيد قورنجي بيه حاكما لسنار بين عامي 1902 - 1904م، وكان قبل ذلك مسئولا عن إعادة بناء القصر في الخرطوم، ومبنى السكرتارية، وكلية غردون، ورئاسة المديرية في واد مدني وسنجة. وأشتهر الرجل بتصميم معماري لمبان تحمل بعض الشبه بمباني مصر القديمة، وهذا ما أشار إليه مؤخرا البروفيسور اليك بوتر أستاذ المعمار بجامعة الخرطوم وزوجه التشكيلية مارجريت في كتابهما (المشترك) الممتع المعنون "كله ممكن Everything is possible" والذي نشرته دار الن سيتون في عام 1984م.
وكانت مباني موظفيه تشبه الصناديق الصغيرة، إلا أنها صممت بطريقة تخفف من حرارة الشمس العالية، وبسقوف عالية كي تحتفظ ببرودة معقولة. غير أن أنواعا كبيرة وشرسة من "الذبابة الرملية" غزت تلك المباني وتوطنت بها. وكان بمكتب جاكسون كرسي خشب (من النوع الذي يستخدم في المطبخ)، استبدل لاحقا بكرسي مريح عليه وسادة جلدية، وطاولة متهادية (غير ثابتة على الأرض) مغطاة بقماش عليه آثار حبر قديم، وعلبة أقلام رصاص، وعلبة حبر يشبه الوحل، وأوراق نشاف. وعلقت على الحائط خريطة للمنطقة. وكان على المكتب أيضا كتابان للمدونات القانونية، وكتاب يضم مراسيم القضاء المدني، ونسخة من القرآن الكريم ليقسم عليه الشهود.وكانت تلك النسخة ملفوفة بعناية في قماش بني اللون ولكنها موضوعة – للأسف – في داخل صندوق يشبه الصناديق التي يوضع فيها السيجار. ولم يلحظ أحد ذلك التشابه (غير المقصود) حتى وقف ذات يوم شاهد أمي قصير النظر من كوستى أمام جاكسون. وعندنا قدم له جاكسون ذلك الصندوق ليقسم على الكتاب المقدس داخله أزاحه الشاهد جانبا قائلا: "شكرا جزيلا ولكني لا أدخن".
وكان الزي المعتاد للمفتش في عام 1927م هو البنطال (السروال) الطويل والبدلة (المعطف) وربطة العنق. وكان ذلك الزي مفروضا على المفتش حتى حينما يكون مسافرا يطوف على أنحاء منطقته. وبالاضافة لذلك الزي غير المريج يجب على المفتش أن لا يخلع القبعة (غير المريحة) المسمية Wolseley Helmet أبدا وهو في سفرته تلك. ولا يطالب (بل لا يحبذ) المفتش بارتداء الطربوش والاسطمبولي. ولكن سمح للمفتشين فيما أقبل من سنوات بالتخفف في الملابس أثناء ترحالهم وارتداء القمصان والأردية القصيرة.
ويقول جاكسون أن يومه بسنار كان يبدأ في الصباح الباكر بمقابلة طلاب الحاجات والمشتكين والمتظلمين. وهو عملكان في بعض الأحايين – في نظره- يثير الملالة‘ فغالب من يمثلون أمامه كانوا يعدون زيارتهم لـ "المركز" نوعا فريدا من الترفيه. غير أنه من الواجب أن نذكر أن السماح لكل مواطن (ومواطنة) بالمثول أمام أعلى سلطة في المنطقة، والتعبير الحر عن مظلمته (مظلمتها) كان من أهم أسباب غياب السخط والاستياء العام من الحكم الثنائي.
ومن غريب ما ذكره المفتش البريطاني مايكل بمفري (1930م) أنه كان ذات يوم يستقبل عددا من المتظلمين كل على حده، في مدينة نيالا. وفي أثناء تلك المقابلات خرج المفتش لمكتب الباشكاتب ثم عاد بعد دقائق ليجد أحد المتظلمين وهو يقف وحيدا أمام طاولة المفتش وهو ينتحب ويحكي مظلمته. وعندما لمس المفتش كتف الرجل المتظلم بادر الرجل بالاعتذار بأنه كان في حالة نفسية سيئة بسبب ما حاق به من ظلم لدرجة أنه لم يلاحظ خلو المكتب من أي مخلوق بينما هو مسترسل في شكواه.
وكان غالب من مثلوا أمام جاكسون من المسترقين الذين يودون الحصول على أوراق حكومية تفيد بأنهم غدوا أحرارا. وواجه المفتش جي ساندرز في أم روابة بشرق كردفان ذات الموقف في عام 1924م، وعجب كثيرا من أن الرق كان لا يزال ممارسا حتى ذلك التاريخ، خاصة بين العرب الذين كانوا يقيمون في غالب شهور العام في منطقة رشاد، والذين كانوا يغيرون على جيرانهم ويسترقون بعضهم ويستخدمونهم رعاة لقطعانهم من الأبقار والضأن. وكانت شرق كردفان هي الملاذ الآمن لهؤلاء المسترقين الهاربين من مسترقيهم. وربما كان "سادتهم" يقدمون في ذات الأيام طلبات لمفتش رشاد (والتي كانت تتبع لمديرية أخرى اسمها مديرية جبال النوبة) لإرجاع "رعاتهم" الآبقين.وكان أمر إرجاع المسترقين لـ "مالكيهم" يثير قضايا واشكالات أخلاقية واقتصادية معقدة، إذ أن هؤلاء المسترقين كانوا يقومون برعاية قطعان كبيرة من الحيوانات، وغيابهم عن عملهم في رعاية تلك القطعان يعرضها للهلاك المحقق لعدم توفير الماء والكلأ لها، ويعرض الملاك لخسارة اقتصادية كبيرة. والأهم من ذلك هو مستقبل أولئك المسترقين، وهم أناس لم يعرفوا أبدا معنى الحياة الحرة، ولم يتخذوا في حياتهم قرارا مستقلا يخص حياتهم. لذا كان من الأوفق للمفتش البريطاني أن يعقد صفقة مع أصحاب المواشي من العرب ومسترقيهم يمنح بموجبها المسترق حريته القانونية الكاملة، على أن يعين راعيا (أو عاملا زراعيا) حرا عند "مالكه" السابق بمرتب معلوم متفق عليه. وإن ثبت أن ذلك أمر غير ممكن فعادة ما يمنح المفتش المسترق (السابق) حرية الإقامة بشرق كردفان في قرى محددة، تكون بعيدة عن حدود المنطقة.
ومثلت قضية المسترقين السابقين معضلة أمام الحكم الاستعماري، فقد كان كامل اقتصاد البلاد يقوم على عمل هؤلاء الناس. ولم تبدأ تلك الأزمة في الانفراج قليلا إلا حين بدأ تنفيذ مشروع الجزيرة.
وكان المسترقون عاجزون عن العمل في أشغال حرة أو اتخاذ أي مبادرات فردية، فالعبودية، كما لاحظ مفتش النهود تقتل في المسترق روح الابتكار وصفات أخرى حميدة. وضرب لذلك مثلا بأطفال مسترقين كان قد حررهم ووفر لهم مسكنا آمنا، وكان يلاطفهم ويلاعبهم ويتحدث معهم. وكانوا في غاية اللطف والأدب في وجوده، ولكنما أن يدير لهم ظهره حتى كانوا يظهرون روحا عدوانية غريبة، ويحطمون كل ما يقع تحت أيديهم. وكان أمر تحرير الفتيات يثير مشاكل من نوع آخر. فليس أمام اولئك المسترقات (إن لم يمكن تزوجيهن لرجال محررين) غير مهنة واحدة، خاصة وإنهن لم يكن يمتلكن أي مهارات عملية، ولا يجدن أي أعمال (شريفة) يمكن أن يعملن فيها.
وكانت للمسترقين بعض الحقوق عند "مالكيهم"، وتشمل تلك الحقوق الرعاية عند كبر السن. وذلك ما يفتقده المسترق عند نيله لحريته. وعلى وجه العموم فقد كان الرقيق في المناطق الحضرية (خلافا لمناطق العرب الرحل) يعاملون معاملة غير سيئة (يمكن النظر في مقال هيزير شاركي المعنون " أهمية الرق في شمال السودان في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين"، والذي يذهب إلى أن المسترقين في شمال السودان كانوا يقدمون لـ"سادتهم"، إضافة لأعمالهم الرئيسة، أعمالا أخرى غير منتجة وخدمات كمالية.وكانت تلك الخدمات تعد عند اولئك "السادة" مؤشرا للثراء والدعة ورمزا للهيبة والنفوذ. المترجم). ويذكر هنا أنه ورد في "مذكرات بابكر بدري" أنه بعد هزيمة الخليفة لم تسجل أي حوادث للثأر قام بها المسترقون ضد "مالكيهم" سوى حالة واحدة قام فيها مسترق بالتوجه لبيت "مالكه" القديم وأمطره بوابل من الرصاص.
أما فيما يتعلق بجهود المفتشين في بناء الحكم الذاتي أو الإقليمي (devolution)فيجب ذكر ريجلاند ديفيس كأحد رواد تلك السياسة بعد أن بعث به لنيجيريا ليدرس نظام الحكم الفيدرالي مع أمراء بعض المناطق هنالك، وكان يأمل في تطبيق ذلك النظام في دار مساليت.
وقدم ديفيس وصفا لما يحدث في دار كبابيش عند مقتل أحد الرجال في معركة ما، وذكر أن الحكومة المركزية كانت لا تتدخل بتاتا في مثل تلك الأمور. ولا شك بأن دار كبابيش كانت تعد منطقة "فريدة في نوعها sui generis"، غير أني أتذكر جيدا مدى امتعاض أحد كبار ضباط الشرطة بالخرطوم (والذي كان يعمل مفتشا سابقا لأحد المراكز) عندما أخبر بأن أحد الشيوخ المحليين في ريفي كوستى قد أفلح، وفي خلال 24 ساعة فقط، في القبض على رجل ارتكب جريمة قتل في منطقته، وأرسل الفاعل مع مجموعة من الشهود إلى المركز. وكان ذلك في منتصف الثلاثينيات. ولم يكن للشيوخ بحسب القوانين السائدة حينها أي سلطات لاعتقال أي شخص آخر تفوق ما لدى المواطن العادي، والذي ينبغي عليه طلب الشرطة للقيام بعمليات الاعتقال. غير أن الشرطة كثيرا ما كانت تستفيد من خدمات قصاصي الأثر المحليين.
وروى ديفيس وجاكسون قصصا كثيرة عن مهارة العربي العادي في قص الأثر، وذكرا أن هذا الرجل العربي العادي يتمتع بمهارة قد تفوق مهارة أي قصاص أثر محترف. وخص جاكسون رجلا اسمه على دفع الله بذلك الثناء.
وأشار جاكسون إلى الفرق الكبير بين عام 1909م و1929 فيما يتعلق بتقدير وجمع الضرائب. ففي عهد جاكسون لم يكن هنالك من يجمع الضرائب من السكان. ولكن منذ ذلك العهد خبر الناس مزايا انتخاب شيخ يكون خادما للحكومة (ورد في النص حرفيا "يكون كلبا للحكومة Government Dog". المترجم)، وعادة ما يختار ذلك الشيخ من بين المسترقين السابقين، وذلك لسهوله تحميله وزر الفشل في تحقيق العائد من الضرائب الذي يتوقعه مفتش المركز. وتحسنت الأوضاع بالطبع بعد ذلك. غير أنه كان مستحيلا في مدني مثلا في عامي 1927 – 1928م اقناع اللجنة المنوط بها تقدير وجمع الضرائب عمل أي تقديرات معقولة على أي شيء سوى على منزل أو محل تجاري لأحد "الأجانب". ولكن بعد عام وعامين من ذلك خصصت للمدينة ميزانية منفصلة فتحسنت طرق تقدير وجمع الضرائب تحسنا كبيرا.
وسجل جاكسون ملاحظة غريبة عن زوار المدينة من الأرياف (ووصفهم بالسذج unsophisticated! المترجم)والذين كانوا – بحسب قوله- لا يعيرون انتباها للأشياء التي تقع خارج دائرة تجاربهم السابقة. فقد لاحظ اندهاشهم البالغ من الماء الآتي من الصنبور، وعدهم له اختراعا مدهشا ورائعا، بينما تجاهلوا تماما الترام (الترماج) باعتباره شيئا لا أهمية أو علاقة له بالحياة العادية.
وفي أحد أعوام الثلاثينيات عقد وفد من قبيلة النوير اجتماعا مع زعماء قبائل كردفان على شط بحر العرب. ولم يبد النوير أي دهشة من العربة التي أقلت مفتش المركز، ولا من الطائرة التي وصل بها حاكم المديرية، بل دهشوا كل الدهشة من الحصان الذي كان يركبه أحد رجال كردفان، فقد سمعوا الكثير عن ذلك الحيوان ولكنهم لم يروه أبدا في حياتهم.
وكان ذلك الاجتماع دراميا بكل المقاييس. فقد وقعت عينا أحد شباب النوير فجأة على مترجمي الدينكاوي فوقف وصاح مشيرا للرجل: "هذا الرجل، ومعه لص آخر اسمه حامد امبرداب قاموا بخطف أمي وأخواتي عندما كنت طفلا صغيرا. أريد تعويضا عن ذلك الجرم وإلا...". وكان حامد المقصود هو درويش عجوز تم العفو عن جرائمه السابقة بعد الاستيلاء على دارفور في 1916م. وعينته الحكومة منذ ذلك الحين مرشدا للقبض على اللصوص. رد حامد بأنه بالفعل يذكر تلك الحادثة ويعترف بها، إلا أنه ذكر بأن النسوة المختطفات قد هربن منه ووقعن لاحقا أسرى عند رزيقات دارفور. وقال أيضا إن الحكومة قد عفت عنه، ولذا يجب على الحكومة أن تتولي دفع ما يطلبه الشاب النويراوي من تعويض. وبالفعل أقنع السيد بيردن نائب حاكم المديرية (والذي يلقبه الأهالي بالفكي بيردن لحصوله دوما على ما يريد!) الحكومة بدفع التعويض المناسب، وقد كان.
وأخيرا نتعرض لبعض حالات السحر في بعض المناطق. فقد قام في عام 1927م جندي بسجن واد مدني مشهور بقدرات "سحرية" خارقة بتهديد زميله بالموت عن طريق السحر. وبالفعل وجد الرجل ميتابعد أيام قليلة من ذلك التهديد. فقدم الجندي "الساحر" للمحاكمة بتهمة القتل. غير أن تشريح الجثة لم يثبت أي سبب لموت الرجل. ورغم ذلك قررت المحكمة إدانة الجندي "الساحر" بتهمة القتل بالتخويف. ولكن تمت تبرئة الجندي "الساحر" لاحقا عقب بعض المداولات والاستئنافات. وعزز ذلك الحكم من إيمان العامة بقدرات الجندي السحرية الخارقة. وكان من رأي بعض القانونين في لندن أن ذلك الرجل كان سيحاكم بالسجن لو جرت تلك الحادثة في بيئة أقل تحضرا (!؟ المترجم).
وهنالك قصة أخرى عن "ساحر" آخر أعتقل في النهود بتهمة القتل. غير أنه استخدم قدراته الخارقة في "إقناع" جندي ممتاز كان يقف على حراسته بإطلاق سراحه. والعجيب أن ذات الرجل أعاد نفس المشهد حينما أعتقل في سنار، وكرر نفس الفعلة للمرة الثالثة في مدينة أخرى!
وفي الخرطوم بحري أقنع منوم مغنطيسي بارع أحد الرجال بأن بمقدوره أن يجعله رجلا خفيا لا يراه أحد (invisible man). فقام الرجل مطمئنا بعدة سرقات ناجحة. ولكن ذات مرة أفلح صاحب البيت الذي كان "الرجل الخفي" يقوم بسرقته بالقبض عليه. وكان تفسير اللص الوحيد لما حدث هو أن مفعول السحر لابد أنه قد انقضى!
alibadreldin@hotmail.com
///////////