The Life and Career of the Mahdi Heather J. Sharkey هيذر شاركي ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لعرض نشرته الدكتورة هيذر شاركي في عام 1993م بالعدد الرابع من مجلة "أفريقيا السودانوية Sudanic Africa" لكتاب الدكتور محمد سعيد القدال عن حياة وسيرة محمد أحمد المهدي بعنوان "لوحة لثائر سوداني: محمد أحمد المهدي بن عبد الله (1844 – 1855م)، صدر عن دار نشر جامعة الخرطوم عام 1985م، وأعيد نشره في عام 1992م بعنوان آخر هو: "الإمام المهدي: محمد أحمد بن عبد الله (1844 – 1885م)، صدر عن دار نشر دار الجيل ببيروت. والمؤلفة حاصلة على درجة البكالوريوس في الأنثروبولوجيا من جامعة ييل الأميركية، ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعتي درم البريطانية وبريستون الأميركية، على التوالي، ولها عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر"، و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر"، و” تاريخ الصحافة العربية في السودان". وكنت قد عرضت لعدد من كتابات الدكتورة شاركي في مقالات مترجمة سابقة. المترجم ****** ********** ********* **** مرت في عام 1981م الذكرى المئوية لبدء الثورة المهدية، أي ذكرى مرور مئة عام على إعلان العالم الصوفي محمد أحمد بن عبد الله بالجزيرة أبا أنه المهدي. وإحياء لتلك الذكرى قرر خبير مكتبات بجامعة الخرطوم جمع كل الدراسات المنشورة عن سيرة المهدي إلى ذلك التاريخ. غير أن دهشته كانت عظيمة عندما تبين له أن ما من أحد قد كتب سيرة للمهدي – في مقابل أكثر من أربعين عملا عن شارلس غردون نشرت في ذات الفترة. ويمكن القول بأن محمد أحمد هو الشخصية السودانية الوحيدة التي كان لها أكبر الأثر في تاريخ السودان الحديث. ولا تخلو أي دراسة عن تاريخ السودان في القرنين التاسع عشر والعشرين من ذكر للرجل، وللحركة التي قادها. غير أن سعة تقاليد كتابة التأريخ في السودان ظلت محدودة جدا. وركزت، على وجه خاص، كثير من الدراسات المنشورة باللغة الإنجليزية على غردون وسيرته، وعلى البريطانيين / الأوربيين الذين تبعوه، ولم يمنحوا المهدي والزعماء والقادة السودانيين إلا صفحات قليلة في أسفارهم. أي أن تلك الدراسات عاملت السودانيين في الواقع وكأنهم الستارة الخلفية في مسرح تاريخهم. ودفعت تلك النتائج السلبية لبحث خبير المكتبات السوداني بجامعة الخرطوم، محمد سعيد القدال كي يحاول ردم تلك الهوة التاريخية في الكتابة عن حياة وسيرة محمد أحمد المهدي. فنشرت له جامعة الخرطوم في عام 1985م كتابا عن المهدي، وفي العام الماضي (أي 1992م) أعادت دار الجيل ببيروت نشر كتاب القدال، والذي يعد أحد الكتب السودانية عالية القيمة عن تاريخ البلاد. ولا يمكن بالطبع أن ننكر أن هنالك بعض الأعمال السودانية القليلة التي نشرت في السنوات الماضية عن المهدي، غير أنها – ولأسباب متنوعة- أخفقت في أن تكون سيرا ذاتية كاملة عن الرجل. كانت إحدى تلك السير هي كتاب إسماعيل بن عبد القادر الكردفاني المعنون:" سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي" المؤلف في عام 1888م. (ورد في موقع البابطين للشعراء العرب ما يلي عن إسماعيل الكردفاني: "إسماعيل المفتي الكردفاني بن عبد القادر. ولد في مدينة الأُبَيِّض، وتوفي في الرجّاف بجنوبيّ السودان. عاش في السودان ومصر. تلقى تعليمه أولاً بمسجد جده إسماعيل الولي، ثم ارتحل إلى الأزهر مع خاله أحمد الأزهري بن إسماعيل الولي، وأتم تعليمه هناك. عاد من مصر إلى السودان فمكث في دارفور حيناً يعلم الناس، ثم في الأبيض، حيث استأنف تعليم الناس. عينته الحكومة التركية مفتياً لديار كردفان، وظل في منصبه هذا حتى جاءت المهدية، فهاجر مع المهدي من الأبيض إلى الخرطوم. بعد وفاة المهدي ولاه خليفته (عبد الله التعايشي) القضاء بأم درمان، وكان مقرباً لديه جداً، ولكن الوشاة أفسدوا بينهما، فنفاه الخليفة إلى الرجَّاف، وهناك كانت نهايته". المترجم). وقام محمد إبراهيم أبو سليم بتحرير نص تلك السيرة عام 1972، ونشر المؤرخ الإسرائيلي حاييم شاكد ترجمة لها للغة الإنجليزية في عام 1978م. وكان إسماعيل المفتي الكردفاني قد ألف سيرة المهدي بإيعاز من الخليفة عبد الله ليكون تاريخا مادحا (panegyric) و"رسميا" لدولة المهدية. وجاهد الكاتب جهادا مستميتا لإثبات أن محمد أحمد عبد الله هو المهدي فعلا، وكان في ذلك يستشهد كثيرا بالشائع من التراث الآخروي eschatological السني. لا ريب أن لنص الكردفاني قيمة وأهمية تاريخية كبيرة بحسبانه مصدرا مهدويا رسميا. غير أنه لا يمكن أن يعد سيرة بالمعنى المعروف عن الكلمة، وذلك لأن الغرض الرئيس من تأليفه كان هو الدعاية للدولة المهدية الجديدة. ولتلك الغاية انصب تركيز المؤلف فيها على محمد أحمد "المهدي" وليس محمد أحمد "الإنسان". ومن الكتب الأخرى التي تناولت سيرة المهدي هو كتاب النمساوي ريتشارد بيرمان، والذي ألف كتابا عن المهدي اسماه: "مهدي الله: قصة الدرويش محمد أحمد The Mahdi of Allah: the Story of the Dervish Mohamed Ahmed "، والذي نشر في عام 1932م. وهو كتاب يمكن أن يقرأ في الواقع باعتباره كتابا قصصيا كان الغرض الرئيس منه هو إشانة سمعة المهدي والحركة المهدية. ويعد ذلك الكتاب بمقاييس اليوم كتابا صادما محشوا بالكثير من رهاب الأجانب (xenophobia) والعنصرية، والتي بدت جلية حتى في مقدمة ونستون تشرشل للكتاب (انظر ترجمتنا لتلك المقدمة في المواقع الإليكترونية بعنوان: " مقدمة ونستون تشرشل لكتاب "مهدي الله". http://www.sudanile.com/index.php?option=com_content&view=article&id=70638:_c_-cC2&catid=135&Itemid=55. المترجم) وعنوان الكتاب نفسه مضلل، إذ أن الكتاب لا يتطرق إلى المهدي إلا في صفحات قليلة، بينما استفاض في سيرة غردون بحسبانه قديسا. وأزعم بأن هذا الكتاب كان قد كتب خصيصا للعامة من القراء ليبرر التدخل البريطاني في السودان (والتدخل الأوربي في أفريقيا على وجه العموم) باعتباره رسالة لنشر التمدن. وعلى خلفية ذلك السياق نرى دراسة القدال باعتبارها دراسة مختلفة وممتعة وتبعث على التفكير. فهي لا تهدف إلى مدح أو هجاء محمد أحمد المهدي. واعتمد القدال في غالب مصادره على كتابات سودانية، منها ما كتبه الذين عاصروا المهدي (مثل يوسف ميخائيل والكردفاني) ومنشورات المهدية، وكتابات المؤرخين السودانيين (أمثال مكي شبيكة وأبو سليم)، ولكنه أعتمد أيضا على كثير من المصادر الغربية (مثل كتابات سلاطين ووينجت وواورفالدر)، وبالطبع على كتابات المؤرخين البريطانيين (مثل هيل وهولت وأوفاهي وآخرين). وحرص المؤلف على أن يضمن كتابه، بدقة بالغة، الاستشهادات الملائمة، مما يجعل دراسته مفيدة للباحثين الذين يرغبون في الاطلاع على المصادر التي ضمنها حواشي وهوامش الكتاب. وتتميز لغة الكتاب بالوضوح والمباشرة (لا بد أن المؤلفة مجيدة للعربية. المترجم)، وبهذا فهو سيكون سهل القراءة لغير العرب الذين تعلموا اللغة العربية المكتوبة لسنوات قليلة فحسب. ورغم قلة عدد صفحات الكتاب (142 صفحة) فقد أفلح المؤلف في تقديم مسح متقن ومختصر لحياة محمد أحمد وفكره، وهو ما نحتاجه لمعرفة الرجل ورسالته. وقدم القدال في البدء عرضا مختصرا لتاريخ السودان في عهد التركية، وطبيعة الإسلام والصوفية في السودان. ثم تناول حياة محمد أحمد الباكرة، بتركيز خاص على تعليمه الديني وتطور أفكاره ومعتقداته الصوفية. وخصص المؤلف نحو ثلثي الكتاب لمحمد أحمد بعد أن أعلن عن أنه المهدي، وتتبع تبلور حركته، وبناء وتدعيم وتعضيد قاعدتها. ثم انتقل الكاتب إلى رصد معارك المهدي ووصفها معركة معركة. وختم المؤلف كتابه بتحليل برنامج المهدي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتناول أيضا سياسة المهدي تجاه الطرق الصوفية، وهيكلة بيت المال، وتشريعات الزواج وهكذا. أظهر المؤلف في كتابه إعجابه بالمهدي. ففي صفحة الكتاب الأولى يصفه بأنه "ثوري أنارت سيرة حياته تاريخ السودان". غير أنه لا يغفل في خضم مدحه للمهدي أن ينقده نقدا حصيفا. فعلى سبيل المثال فالكاتب ينتقد المهدي في حرقة لكل الكتب عدا القرآن وكتب الحديث، ويقول بأن "تلك الخطوة لم تخل من تطرف". ووصف أيضا برامج المهدي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بأنها "أضعف حلقاته الثقافية" عند المقارنة مع تنظيمه العسكري المحكم وأيديولوجيته الجهادية العنيفة. بدا القدال غير مرتاح في توصيف موقف المهدي حيال الطرق الصوفية بعد إعلانه لمهديته. فيجب أن نذكر أن المهدي نفسه كان من ضمن أصحاب الطريقة السمانية قبل أن يعلن عن مهديته.، غير أنه حرم جميع الطرق الصوفية بعد أن قام بإنشاء قاعدة واسعة مؤيدة له، وذلك لاعتقاده بأن تلك الطرق الصوفية تمثل قواعد لقوى منافسه لحكمه. وظل القدال في كتابه يلمح لذلك دون التعرض مباشرة لطبيعة محمد أحمد "الصوفي" في مقابل طبيعة محمد أحمد "المهدي"، والتواصل والقطيعة بين الطبيعتين. يجد القارئ لكتاب القدال تفاصيل ثانوية مثيرة تتعلق بالفلكلور والأساطير legends المحيطة بالمهدي، والعلامات الدالة على الصلاح والتقوى والبركة التي رآها أنصاره فيه. فقد ظل محمد أحمد في صباه وشبابه الباكر يتناول طعامه من ذات الجامع/ الخلوة التي كان يدرس بها إلى أن علم أن ذلك الطعام مدعوم من قبل الحكومة المصرية – التركية، فتوقف عن تناوله بدعوى أنه مجلوب من أموال الضرائب والمكوس غير القانونية. وذكر قصة أخرى عن توقفه عن بيع الحطب في سوق الخرطوم بعد أن علم بأن أحد المشترين كان يستخدمه في تقطير الخمور. كيف تأتى لفرد واحد أن يفعل كل هذا في تاريخ بلاده؟ كان ذلك هو السؤال الذي سأله في مقدمة دراسته. ففي حالة محمد أحمد لا يستطيع المؤرخون الذين يتحاشون عادة نظرية "الزعيم العظيم" التاريخية أن ينكروا قوة كرازمية المهدي في دفع تاريخ السودان في المسار الذي سار فيه. يمثل القدال عددا كبيرا من السودانيين الذين يعزون للمهدي إرثا متشعبا وموجبا. فهوه يراه بحسبانه رمزا لمقاومة الطغيان الأجنبي، ومثالا للتحرر الوطني، وموحدا لقبائل شمال السودان تحت راية تراث إسلامي جامع. ولا شك إن مثل هذا التفسير الحديث جدير بالنظر، غير أنه في بلد كالسودان مُتشظّ اجتماعيا وسياسيا ودينيا، قد يرى البعض أن ذلك ليس هو الطريق الوحيد. فقد يتفق كثير من السودانيين في الشمال والجنوب على أن محمد أحمد يمثل واحدا من أهم الشخصيات المؤثرة في تاريخ السودان، ولكن لا يتفق الجميع في عزو ذلك الإرث العظيم المتعلق بالتحرر الوطني وتوحيد البلاد له.