حياة وعمل قابلة “داية” حبل في دارفور .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 





حياة وعمل قابلة "داية" حبل في دارفور

رامونا دينك

The Life and Work of a Rope Midwife in Darfur

Ramona Denk

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة:  هذا مقال وقعت عليه مصادفة خلال بحثي عن بعض ما نشر في الأدب العلمي والطبي والصحي عن/ في السودان، وهو بقلم قابلة أمريكية أتت للعمل متطوعة كرئيسة لبرنامج "الصحة الإنجابية" في منظمة تعمل في مجال العمل الإنساني بدارفور. وهي كما جاء في سيرتها شغوفة بأمر تدريب القابلات، ولها موقع في الشبكة العنكبوتية عن الولادة الآمنة والخالية من الألم. مما ذكرته في موقعها هذا أن شغفها بالولادة والتوليد بدأ منذ أن شهدت – وهي في الخامسة عشر من عمرها – ولادة أحد  أشقائها.
كتب المقال – كما قد يلاحظ القارئ- بأسلوب مبسط في شكل يحاكي قصص الأطفال، بيد أنه يلخص – وبفعالية- المشاكل الصحية في المنطقة، خاصة في أمور "الصحة الإنجابية".
*******   *********   *******  
هذه حكاية خيالية مركبة عن حياة وعمل قابلة تقليدية متخيلة في قرية بدارفور. ترتكز الحكاية على عدة مصادر للمعلومات تشمل الخبرة المباشرة والملاحظة والمقابلات الشخصية  وأبحاث لآخرين. لم تأت في الواقع المعلومات الواردة في هذه المقالة عن التقاليد (الدارفورية) من مكان واحد أو شخص بعينه.
نبذة قصيرة عني:
اسمي هو "محظوظة"  وأعمل كقابلة تقليدية في القرية الصغيرة التي أعيش فيها في منطقة ريفية بدارفور في غرب السودان، ذلك القطر الواقع في شمال شرق القارة الأفريقية.
أنا أرملة ولي سبعة من العيال البالغين (صاروا الآن ستة بعد موت أحدى بناتي في العام الماضي). أقوم بكفالة أطفالها الثلاثة اللواتي تركتهن لي. أعمل كقابلة بالإضافة لعملي الآخر كمزارعة للدخن والخضروات التي نستهلكها كغذاء لنا في العائلة. في السنوات التي كنا ننعم فيها بأمطار غزيرة كنا نزرع ونحصد ما يفيض عن حاجة عائلتنا ونبيعه. أما في سنوات الجفاف فكنا نعاني ما نعاني ونكتفي بوجبة يومية واحدة فقط.  نزرع كذلك نبات الكركدي ونبيعه للحصول على نقود نشتري بها الزيت والشاي والسكر والصابون. معزتان وعدد قليل من الدجاجات هو كل ما نمتلكه الآن من الحيوانات الأليفة، ولكن كان لدينا في سنوات مضت قطيع كبير من الضأن وبقرات ثلاث نهبت جميعها في غضون الحرب الأهلية المستعرة إلى يوم الناس هذا. يقوم أحفادي بجمع حطب الحريق للطبخ وبعض الأعشاب لتغذية حمارينا الصبورين. يركب أكبرهم على أحد الحمارين ليملأ أربعة "جراكن" من البئر، وتستغرق رحلته اليومية تلك كامل اليوم إذ أن البئر تبعد كثيرا عن مكان سكننا.
عشت طويلا ورأيت كثيرا، بيد أن بصري قد بدأ يضعف مع مرور السنوات، بل لقد فقدت البصر تماما  في أحدى عيني. لا أدري كم  أبلغ من العمر الآن، فليس لدي شهادة ميلاد، بيد أني أعلم أن أهلي  قد زوجوني وأنا في سن الطفولة، وربما لم أكن قد أكملت الخامسة عشر من عمري. الآن لبنتين من بناتي حفيدتان.
تدريب القابلة:
أعمل كقابلة أو ما يسمونه محليا "داية حبل" لأن القابلة في هذا النوع من الممارسة الطبية تطلب من المرأة التي في حالة المخاض أن تمسك بحبل يتدلى من السقف. بدأت في ممارسة مهنتي من تلقاء نفسي دون سابق علم أو تدريب أو خبرة. كنت ذات يوم في الحقل أكد في عملي حين سمعت صوت امرأة فاجأها المخاض فصارت تصرخ متألمة وتطلب العون. لم يكن معنا أحد ليساعدها، فتذكرت ما فعلته القابلة التي ساعدتني في ولاداتي المتعددة وقمت بذات الشيء ووضعت المرأة حملها. هكذا غدوت – وببساطة- قابلة.
أذكر أنه في سنوات ماضية كانت وزارة الصحة تتولى تدريب عدد من النساء لعدد من الشهور في أقرب المدن لقراهن ليصبحن قابلات، وكان بعضا من هؤلاء المتدربات يبتعثن للتدريب في "مدرسة القابلات" لمدة تمتد إلى عام ونصف. للأسف لم أحظ بأي من فرص التدريب تلك. في تلك الأيام كان على كل امرأة ترغب في العمل كقابلة أن تتدرب في تلك المدرسة وأن لا يزيد عمرها عن ثلاثين عاما عند بدء التدريب، وأن لا تكون حاملا أو مرضعا، وتفضل عادة من لها إلمام بالقراءة والكتابة. كل تلك الشروط تستبعد في الواقع كل من في القرى من نساء يرغب في العمل في تلك المهنة عدا واحدة أو اثنين في كل قرية. كانت القابلة المؤهلة الوحيدة في منطقتنا الشاسعة تسكن على بعد مسيرة ساعتين بالحمار، لذا فقد كان عبء توليد النساء في قريتنا يقع على كاهلي وحدي. لكم أود أن أتلقى تدريبا في مهنتي، بيد أني الآن أبذل – رغم عدم تلقي لأي تدريب – كل ما وسعي لتأدية مهنتي على أكمل وجه ممكن.
تقاليد الزواج وما قبله
لعل الزواج وإنجاب الأطفال هو غاية ما تتمناه غالب الفتيات في ثقافتنا. إن رزقت المرأة برحمة عظيمة من خالقها فقد تنجب سبعة أو ثمانية أو خمسة عشر من الأطفال. يتزوج الرجال عادة من بنات أعمامهم أو أخوالهم، وتمثل العائلة الممتدة لنا أمرا بالغ الأهمية. يعدد كثير من الرجال في الزوجات، ويكمل قليل منهم الأربعة زوجات التي يسمح بها الدين الإسلامي.
يعد شرف العائلة في أمور الجنس أمرا مهما وقيمة عالية، لذا فإن تزويج الفتيات يتم عادة بعد سنوات قليلة من بدء الحيض الشهري عندهن.  لهذا السبب أيضا نقوم بختان (أو ما نسميه "طهارة") البنات بين سني الخامسة والثانية عشر. يسمي البعض ممارستنا التليدة هذه “تشويه الأعضاء التناسلية". في كثير من مناطق دارفور لا يتزوج الرجل امرأة غير مختونة لأنها في نظره "غير نظيفة"، وأيضا لأن سلوكها قبل الزواج قد لا يكون منضبطا أخلاقيا.
في أيام مضت كانت القابلة التي تقوم بعملية الختان تقطع كامل البظر والشفرين مستخدمة الموسى وتخيط جانبي ما تبقى من العضو التناسلي تاركة فقط فتحة صغيرة للتبول وخروج الدم الشهري. كان هذا ضمانا للمرأة من الاعتداء (الجنسي) عليها إلى أن تتزوج فيقوم بعلها بالدخول عليها بالطريق المعتاد (أو قد يلاقي عنتا في تلك العملية مما يلجئه لاستخدام آلة ما). ترقد البنت المختونة على ظهرها في السرير لمدة لا تقل عادة عن أسبوعين كاملين إلى أن تبرأ، وقد تمرض وتصاب بالحمى والهزال والضعف من كثرة الدم الذي فقدته في العملية مما يؤدي لوفاتها. قامت الحكومة بتحريم إجراء ذلك النوع من الختان قانونا، بيد أن هذا لم يمنع غالب الناس من مواصلة ممارسته، وإن كان بصورة أخف وطأة. تصر والدة الطفلة أو جدتها على عمل الختان حتى لو كان الوالد من المعارضين لإجرائه. تقوم الخاتنة الآن بإزالة البظر فقط أو تخدشه خدشا خفيفا، وفي هذه الحالة تبرأ الطفلة بسرعة فائقة، بينما يطمأن جميع الحاضرين لحفل الختان إلى أن الطفلة قد ختنت بالفعل.

تقاليد الحمل
تتميز النساء الدارفوريات بالقوة والقدرة على العمل الشاق وتحمل مسئوليات الأسرة وتربية الأطفال ورعاية حيواناتهم ومزارعهم. تشمل مسئوليات المرأة الدارفورية أيضا التأكد من أحدا  من أفراد العائلة قد ذهب ليجلب الماء من البئر، والتي قد تكون على بعد ساعات سيرا على ظهر حمار. يساعد الزوج في بعض الأعمال الشاقة في المزرعة، ويبدأ الأطفال في المساعدة في الزراعة ورعاية الحيوانات عند بلوغهم سن الثالثة أو الرابعة من العمر. تحمل المرأة الدارفورية  طفلها خلف ظهرها بعد أن تلفه بقطعة من القماش أثناء عملها في المزرعة أو غيرها أو عندما تذهب للسوق الأسبوعي.
تظل المرأة الدارفورية الحامل تعمل بصورة عادية إلى أن تحين ساعة وضعها لحملها. عادة ما ننصح المرأة الحامل أن لا تتام طويلا وأن لا تقلل من ساعات نومها أيضا. ننصح المرأة الحامل كذلك بعدم  تناول البيض لأنه يسبب لها التورم.
إن حملت المرأة وهي ترضع صغيرا لها فيجب عليها التوقف عن الإرضاع فورا وأن تفطم صغيرها لما يسببه الحمل من ضرر على رضيعها.
تذهب بعض النساء الحوامل إلى عيادة النساء في مدينة قريبة. هنالك يعطونها حبوب حديد مجانية وبعض الأدوية الأخرى التي قد تحتاجها، وعند قرب موعد ولادتها قد يصرفون لها – إن كان متوفرا-  طقما للولادة في المنزل (Homebirth delivery kit) يحتوي على أشياء مثل قطعة فرش بلاستيكية وموسى وخيوط لربط الحبل السري  وقطعة صابون صحي. لا أقوم عادة بالكشف الدوري على النساء الحمل إلا حين  يطلب مني تقدير شهر الحمل عند سيدة ما، أو معرفة وضع الجنين عندما تكون الحامل في شهرها التاسع.
تنظيم الأسرة والاجهاض
تتعاطي نساء المدن أحيانا حبوبا لمنع الحمل لفترات محددة. لا علم لنا بتوفر مثل هذه الحبوب، ولا حاجة لنسائنا بها على أيه حال إذ أنهن يرغب في مزيد من الأطفال بحسب مشيئة خالقهن. ربما تحمل فتاة قبل زواجها بسبب نزوة عابرة وطيش شباب من خطيبها، أو تحمل سفاحا من أحد "الجنجويد" وهي تجمع الحطب من خلاء السافانا، وربما تحمل امرأة وزوجها غائب في مدينة أخرى. في كل تلك الحالات، وبسبب "العار" الذي قد يلحق بسمعة العائلة تحاول الحامل إسقاط ذلك الحمل بأية وسيلة. شاع  بين النساء أن شرب محلول الغسيل الأزرق أو الحقن الوريدي لأدوية الملاريا أو تناول عدد كبير من حبوب الأسبرين  قد تنجح في إسقاط الجنين. قد تحاول أخرى أن تقوم بعمل يدوي أو مجهود عضلي عنيف مثل الجري لإسقاط الجنين. أحيانا تقوم القابلة التقليدية بإدخال جسم غريب في داخل جهاز الحامل التناسلي مثل قسطرة بولية مستعملة أو أنبوبة بلاستكية من النوع الذي يدخل في الأوعية الدموية أو حتى فرع شجرة صغير، وقد تدخل بعض الأعشاب أو الحبوب النباتية في رحم الحامل.
تقاليد المخاض والولادة
عندما يحين موعد وضع امرأة لحملها تأتيني إحدى أفراد عائلتها لتأخذني لبيت الحامل، ويأتي لذلك البيت عدد كبير من الأهل والجيران لشهود الحدث أو للتعبير عن التضامن والمساندة. عادة ما تكون هذه فرصة مواتية لتدريب النساء على تقاليدنا. في ثقافتنا لا تبدي المرأة الكثير من الجزع والصراخ عند المخاض، وتجاهد كي تبدو صبورة متماسكة. أقوم بتعليق حبل في سقف القطية حتى تجد المرأة شيئا تمسك به عندما تجثو على ركبتيها في أثناء عملية التوليد.  يفضل الناس إستدعاء "قابلة حبل" تقليدية حتى في القري التي توجد بها قابلات مدربات، وذلك لأن القابلة العصرية المدربة تقوم بتوليد المرأة وهي مستلقية على ظهرها، وشاع بين النساء أن ذلك يترك حفرة (أو فراغا) في الظهر! من طرق عمل القابلة التقليدية المهمة هو أنها تقوم  بتكرار المسح بيدها اليمنى ثم اليسرى (بالتتابع) على ظهر المرأة حتى تصل لعضوها التناسلي في المقدمة. يعتقد أن هذا المسح يعجل بإخراج الجنين من رحم أمه. عندما يظهر رأس المولود أقوم بفتح موضع ختان المرأة على الجانبين بالموس. بعد خروج الجنين تضم المرأة ساقيها وأضع بعضا من ملح الطعام على الموضع لأعجل ببرء الجرح. عادة ما تقوم القابلة المدربة بخياطة الجرح.
عند خروج المولود أمسك به وأعطيه لوالدته ثم آخذه منها مرة أخرى، ثم أعيده لها تارة أخرى وأكرر ذلك ثلاثة مرات عندما يكون المولود ذكرا وأربعة مرات عندما تكون أنثى.    
تقاليد ما بعد الولادة
بعد الولادة يتقاطر كل الأهل والجيران على بيت المرأة لتهنئتها وزوجها بالمولود. تظل النفساء في البيت لا تغادره أربعين يوميا ولا تفعل شيئا غير الاستلقاء على السرير وإطعام مولودها، بينما يقوم على خدمة بيتها في أيام النفاس هذه بعضا من أقرائها. عند قيامي بتوليد واحدة من النساء أظل بجانبها لعدة أيام من أجل تقديم العون والنصح. نعتني بغذاء النفساء فنسقيها مديدة دخن ولبن به كثير من السكر. عند إكمال المولود الأسبوع الأول من حياته تقام وليمة يشهدها الأهل والجيران احتفالا بتسمية المولود.
لا أطالب بأي مبلغ محدد من المال نظير خدماتي، ولكني أتلقى من أفراد العائلة عادة هدايا تشمل النقود والطعام أو غير ذلك. أوقن أنني سألقى الجزاء الوافي يوم الحساب نظير ما أقوم به من عمل خير، لذا لا ألقي بالا لأمر النقود والهدايا.
مضاعفات الولادة
إن لدينا طرقنا التقليدية للتعامل مع المشاكل التي قد تطرأ في أثناء الحمل أو النفاس. إذا كان وضع الجنين معكوسا أو سيئا (مثل أن يأتي بعجيزته أو قدميه أولا وليس برأسه  breech) فعادة ما يمسك عدد من الحضور بالمرأة من قدميها رأسا على عقب ويهزونها هزا. ولعلاج الحمى قد يذهب الزوج أو من يوفده للعيادة لجلب حقن بنسلين. إذا لم يتنفس المولود حديثا فيمكن أن تدخل حقنة (من غير إبرة) في فتحة أنفه ويسحب منها الهواء، وإذا أصيبت النفساء بنزف أو تورم فالعلاج هو كي جبهتها.
يأمرني الأطباء والممرضين بأن أرسل أو أحضر لأقرب مستشفى كل من تتعسر ولادتها أو تصاب بمضاعفات، وأن تحضر مولودها أيضا، وضربوا لي مثلا بحالات النزف الشديد، أو إذا تأخر المخاض كثيرا أو إذا لم يخرج المولود بعد أن تتمزق الأغشية ويسيل مائها، أو إن كانت حالة المولود سيئة أو وضعه لا يساعد على خروجه من أمه. أحاول بقدر الإمكان أن أفعل ذلك لكن الأمر ليس بهذه البساطة. تدلل القصة التالية على صدق ما أقول.    
قصة نقل (متعسر)
أصيبت "فاطنة"، تلك السيدة التي تسكن في قرية تجاور قريتنا، بحمى شديدة في العام الماضي. حدث ذلك بعد أربعة أو خمسة أيام من وضعها لمولودها. قامت بتوليدها والدة زوجها، إذ أن تلك الولادة أتت بغتة ولم يكن بالإمكان انتظاري حتى آتي لتوليدها.  فكرت في أن تلك الحمي قد تكون بسبب الملاريا، فالموسم كان موسم الأمطار. أعطيتها حبوبا لعلاج الملاريا، لكن حالتها زادت سوءا، فطلبت من زوجها أن يأخذها للمستشفى في المدينة. رفض في البدء فعل ذلك فهو رجل فقير وليس لديه ما يدفعه نظير نقل زوجته للمدينة. كذلك كانت كل العائلة منشغلة بالحصاد، وليس بمقدورها التخلي عن فرد من أفرادها ليقيم بالمستشفى بقرب "فاطنة". أقنعته في نهاية المطاف أن الأمر مهم جدا فأقتنع بالذهاب. ركب حماره وذهب لقرية أخرى بها رجل يمتلك شاحنة نقل "بيك آب" قديمة. لم يجده في داره، فقد خرج الرجل للزراعة في حقل بعيد، فأرسل في طلبه أحد أولاد القرية. عندما وصل صاحب العربة وزوج النفساء المريضة للقرية لأخذ "فاطنة" للمدينة حيث المستشفى كانت الشمس قد غربت وحل الظلام. لم يوافق صاحب شاحنة النقل على أخذ "فاطنة" فالطرق غير آمنة وعصابات النهب المسلح في كل مكان. وفوق هذا وذاك فقد كانت مصابيح سيارته لا تعمل!
في الصباح بدأنا سيرنا نحو المستشفى. ركب زوج "فاطنة" وجار له في المقدمة مع السائق، بينما ركبت مع "فاطنة" وأمها وأختها في الخلف بعد أن غطينا "فاطنة" بعدد من البطانيات. أحضر أقرباء "فاطنة" لها بعض التمائم والتعاويذ و"حجاب" به آيات قرآنية خطها شيخ في القرية وضعوه حول عنق "فاطنة" طلبا للحماية والسلامة. تركنا المولود في رعاية امرأة في القرية تعهدت بإرضاعه. عادة ما تستغرق الرحلة عبر الطريق الرملي في الصحراء ساعة كاملة  بيد أن الرحلة استغرقت هذه المرة ثلاثة ساعات وذلك لأن أحد الإطارات انفجر ولزم تغييره، وكذلك لأن إطارات السيارة علقت في الوحل الذي خلفته الأمطار.
طالب صاحب الشاحنة زوج "فاطنة" بدفع 600 جنيه سوداني (تعادل  300 دولار أمريكي في الوقت الذي تتحدث عنه هذه الكاتبة. المترجم) نظير تلك الرحلة، بيد أن الزوج نجح في تقليل المبلغ إلى 500 جنيه. في العادة يطالب السائقون بمبلغ لا يتجاوز 300 جنيه في موسم الجفاف، ويزيدون المبلغ في موسم الأمطار. وافق السائق بعد لأي على قبول 100 جنيه تدفع فورا على أن يسدد الزوج بقية المبلغ حين يتمكن من جمعه من تبرعات أفراد عائلته وجيرانه. لفاطنة أخ يعمل في مجال البناء في المدينة ويحصل على 260 جنيها شهريا وفي إستطاعته تقديم بعض العون.
في العيادة  قرر مساعد الطبيب أن "فاطنة" مصابة بعدوى فأعطاها مضادا حيويا بالوريد، وأخرج منها دما متجلطا متعفنا ونصح الزوج بأخذها لمستشفى المدينة فحالتها الصحية العامة كما قال سيئة جدا وهي مصابة بفقر شديد في الدم. وافق صاحب الشاحنة على أخذنا للمدينة والتي بها المستشفى الوحيد في كامل الولاية المتخصص في أمراض النساء والتوليد. عاتبنا الطبيب بعنف على تأخرنا في الوصول للمستشفى  بعد أن قرر لها العلاج اللازم عن طريق الوريد. فارقت "فاطنة" الحياة في منتصف الليل. أحيانا تصيبنا الأقدار بكوارث عنيفة، لكن علينا الرضاء والقبول التام بما هو مقدر علينا.
أنا شاكرة ومقدرة لمعظم النساء الذين قمت بخدمتهم وسهرت من أجل راحتهم، وللأطفال الذين يسعدني أن أراهم في تمام الصحة والعافية. ليس لدي أدوات طبية متقدمة ولا قفازات مثل تلك التي تستخدمها القابلات المدربات، لكني لدي قلب وعقل وشجاعة  وخبرة ويدان مدربتان على العمل منذ سنوات طويلة مضت.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء