حينما يستبد الانسان فينصب نفسه إلهاً!!

 


 

 

د. أحمد جمعة صديق
ادعى الانسان الالوهية وهو حدث أثبته القران الكريم في واقعتين سردهما في حالتي: النمرود بن كنعان ورعمسيس فرعون موسى. فقد وردت في القراآن الكريم قصة النمرود مع سيدنا ابراهيم عليه لسلام. قيل اسمه النمروذ بن كنعان بن ريب بن نمروذ بن كوشى بن نوح، رجلٌ طاغٍ متجبّر مدَّعٍ للألوهيّة، وذكر بعض أهل العلم أنّه أوّل رجلٍ متجبِّرٍ ملك الأرض، وقد بنى له صرحاً بمدينة بابل، وكان في إهلاك الله تعالى له عبرةً وعظةً لغيره. القصة أوردها القرآن الكريم في قوله تعالى، في سورة البقرة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّـهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). (البقرة:258). فأرسل الله إليه سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ ليدعوه إلى عبادة الله تعالى وحده وترك العناد والتجبّر الذي كان عليه، فرفض الدعوة، وأخذ يحاجج سيدنا إبراهيم عليه السلام بأنه اله يحي ويميت. فكان يحضر الرجلين يقتل أحدهما ويعتق الآخر؛ ظناً منه أنّه بفعلها هذا قد أمات الأول، وأحيا الثاني بقدرته. لكن ظهرت بطلان حجته عندما طلب منه إبراهيم عليه السلام أن ياتي بالشمس من المغرب، فبهت الذي كفر.
أما فرعون موسى فقد اتي بها كبيرة وقال (أنا ربكم الأعلى) النازعات (24)، حيث نادى فرعون في قومه و قال لهم بصوت عال أنا ربكم الأعلى أي لا رب لكم فوقي. وجعل بذلك من نفسه مضحكة حيث تصوّر إبليس لفرعون في صورة الإنس بمصر في الحمام ، فأنكره فرعون ، فقال له إبليس: ويحك! أما تعرفني ؟ قال : لا . قال: وكيف وأنت خلقتني؟ ألست القائل أنا ربكم الأعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس. وكان فرعون في قمة التجبر والتكبر. ثم كان عاقبة فرعون الغرق. ثم أنه وأهله يعرضون على النار في الصباح والمساء كما ورد في القرآن الكريم (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖوَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (غافر46)).
هذا ما شهدناه من تجبر الانسان في أدينا العربي حيث القرآن المرجع في هذه القضية والتي نرى لها أمثلة في الادب العالمي، حيث يجعل الانسان من نفسه الهاً ليشبع غروره الأديمي.
• " في قلب الظلام"Heart of Drakness
في رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، تمثِّل شخصية كورتز رمزاً قوياً للاستعمار والإمبريالية والظلام الكامن في الطبيعة البشرية. يُعد تحولً كورتز إلى شخصيةٍ شبيهةٍ بالإله وسط السكان الأفارقة عملية معقدة تتأثر بعوامل متنوعة مثل جاذبيته الشخصية والتلاعب والاستغلال والسياق الاستعماري الذي تدور فيه القصة. ولنقوم بالتنقيب في هذا الموضوع بشمول، يتعين علينا استكشاف شخصية كورتز، وأفعاله، والسياق الأفريقي، والمواضيع الأوسع للرواية.
• شخصية كورتز وخلفيته
تُقدم الرواية كورتز للقارئ من خلال سرد البطل مارلو، اذ يصف مارلو كورتز بأنه رجل موهوب للغاية ويمتلك شخيصة كاريزمية. أُرسل إلى الكونغو من قبل شركة تجارية بلجيكية لاستجلاب العاج. فوجد ترحيباً كوكيل مثالي ومبشر للحضارة. ومع تعمق مارلو في قلب أفريقيا، يبدأ في كشف الجوانب الغامضة لشخصية كورتز وأفعاله. يُصوَّر كورتز شخصاً ذا فطنة فائقة وطموح كبير، لكنه أيضاً مليء بالعيوب والفساد الأخلاقي. ويصبح مهووساً بالسلطة والسيطرة، ويستسلم في النهاية لسحر البرية ويتجاوز حدود البربرية داخل نفسه، ليعد هذا التحول مركزياً لفهم كيفية تلاعب كورتز بالأفارقة واكتسابه لمكانة شبيهة بالإله بينهم.
• التلاعب والاستغلال
يستند التلاعب الذي يمارسه كورتز بالأفارقة إلى فهمه لمعتقداتهم ومخاوفهم ورغباتهم. يستغل تقاليدهم الشعبية وعاداتهم القبلية لتأكيد سيطرته وسلطته. فمن خلال خطابه الحاذق واستعراض القوة، يُظهر كورتز نفسه كشخصية إلهية، قادرة على استخدام قوى خارقة. كانت أحد الطرق الرئيسية التي يستخدمها كورتز لرفع مكانته هو جمع العاج. في السياق الاستعماري للكونغو، لم يكن العاج مجرد سلعة قيمة، بل كان رمزاً للثروة والمكانة الاجتماعية. تأتي قدرته على اكتساب كميات هائلة من العاج في إثبات أهمية كبيرة في نظر الإستعماريين الأوروبيين والسكان الأفارقة على حد سواء. تمنحه السيطرة على هذا المورد الثمين تأثيراً هائلاً على السكان المحليين.
• السياق الاستعماري
تلعب خلفية الاستعمار الأوروبي دوراً حاسماً في صعود كورتز إلى مكانة شبيهة بالإله. يعتبر الاستعماريون الأوروبيون أنفسهم أعلى من السكان الأفارقة الأصليين، ويعتبرونهم بدائيين وغير متحضرين. أتاحت هذه الأيديولوجية العنصرية لكورتز الاستغلال والتلاعب بالأفارقة دون أن يواجهمعارضة كبيرة من الأوروبيين زملائهز. وعلاوة على ذلك، يدفعه المشروع الاستعماري بازدياد الرغبة في الربح والسيطرة. يجسد كورتز هذه القيم إلى درجة متطرفة، حيث يسعى إلى امتلاك العاج بأي ثمن ويلجأ إلى العنف والاستغلال لتحقيق أهدافه. وتعكس أفعاله الواقع الوحشي للاستعمار، حيث يتم تقديم الأولوية للقوة والثروة على حساب الحياة البشرية والكرامة.
• تحول كورتز
مع انعزال كورتز تدريجياً عن المجتمع الأوروبي وانغماسه في مجاهيل الكونغو، يخضع لتحول عميق. يتخلى عن أدوات الحضارة ويعتنق غرائزه الأولية، ويقبل الظلام داخل نفسه. يعكس هذا التحول في تفاعلاته مع الأفارقة، حيث يتبنى عاداتهم وشعائرهم بينما يفرض إرادته عليهم في الوقت نفسه. يصوَّر هبوط كورتز إلى الجنون والوحشية كأنه رحلة إلى قلب الظلام، سواءاً حرفياً أو مجازياً. ويصبح رمزاً للتأثير الفاسد للسلطة والانحطاط الأخلاقي الذي يرافق الاستعمار عندما ينعدم الرقيب في عدم الخوف من اله أو انعدام الاخلاق الداخلية في صحوة الضمير. كان كورتز يمثل في عيون الأفارقة، قوة خارقة تجاوزت عقولهم البسيطة، وكائناً قادراً على استخدام سلطات هائلة مطلقة.
• الرمزية والاستعارة
"قلب الظلام" رواية غنية بالرمزية والاستعارة، حيث يقدم كورتز كرمز متعدد الجوانب للإستعمار والإمبريالية وقدرة الإنسان على الشر. ينبئنا الوضع (الإلهي) لكورتز أيضاً عن مواضيع أوسع مثل السلطة والسيطرة، من خلال تمثيل نفسه كشخصية إلهية إلى فرض السيطرة الكاملة على الأفارقة، عن طريق تخويفهم وترهيبهم. وتؤكد أفعاله طابع السلطة التعسفية في السياق الاستعماري، حيث يمكن للأفراد الصعود إلى مواقع السلطة من خلال الاستغلال والعنف. ويعتبر تحول كورتز في رواية " في قلب الظلام" إلى شخصية شبيهة بالإله بين الأفارقة عملية معقدة ومتعددة الجوانب متأثرة بجاذبيته وتلاعبه واستغلاله، والسياق الاستعماري الذي تدور فيه القصة. يجسد كورتز من خلال أفعاله وتفاعلاته مع كل من المستعمرين الأوروبيين والسكان الأفارقة الأصليين، الظلام الكامن في الطبيعة البشرية والقوة التدميرية للاستعمار. وتُعتبر قصته نقدأ قوياً للإستعمار والفساد الأخلاقي الذي يرافق السعي وراء السلطة والهيمنة.
• البرت شيفياتزر Dr. Albert Schweitzer
وعلى العكس من شخصية كورتز في رواية (في قلب الظلام) تتشكل وجهة نظر (البرت شيفياتزر) حول الأفارقة والسود في السياق الأفريقي من خلال معتقداته الإنسانية والمسيحية، اذ كان يؤمن بالكرامة والقيمة الأصلية لجميع البشر، بغض النظر عن العرق أو الأصل العرقي. خصص (شيفياتزر) حياته لخدمة الجنس الافريقي، وتقديم الرعاية الطبية، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية والمساواة.
أكد شيفياتزر طوال عمله في إفريقيا على أهمية احترام وفهم ثقافة وعادات وتقاليد الشعب الأفريقي. رفض الأيديولوجيات العنصرية السائدة في عصره وعمل على تعزيز الاحترام المتبادل والتفاهم بين الأفارقة والأوروبيين. كانت آراء شيفياتزر فيما يتعلق بالعرق والإنسانية متقدمة لعصره، ويستمر إرثه في تحفيز الناس في جميع أنحاء العالم على العمل نحو مجتمع أكثر عدالة ومساواة. على الرغم من أنه بالتأكيد واجه تحديات وعقبات في جهوده لتحسين حياة الأفارقة، إلا أن التزام شيفياتزر بالخدمة والرحمة ترك أثراً دائمًا على القارة وخارجها.
كان الدكتور ألبرت شيفياتزر عالماً لاهوتياً وفيلسوفاً وموسيقياً ورسول طبي عاش منذ عام 1875 حتى عام 1965. وُلد في اقليم الالزاس، الذي كان جزءاً من الإمبراطورية الألمانية آنذاك وهو الآن تابع لفرنسا. يُعرف شيفياتزر بشكل أفضل بفضل عمله الإنساني في إفريقيا وفلسفته "تقديس الحياة".
اكتسب شيفياتزر شهرته في البداية كلاهوتي وعازف أورغن. حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة واللاهوت ونال قدراً كبيراً من الاحترام بفضل أعماله العلمية، ولا سيما في حياة وتعاليم المسيحية. شعر شيفياتزر بالحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات فعلية لمساعدة الآخرين، مما دفعه إلى اختيار مهنة الطب.
سافر شيفياتزر في عام 1913، عندما بلغ عمره 38 عاماً، بصحبة زوجته هيلين بريسلاو Helene Bresslau إلى لامبارين Lambareneفي أفريقيا الاستوائية الفرنسية (الجابون الآن) لإنشاء مستشفى. خصص الزوجان حياتهما لتقديم الرعاية الطبية لسكان المنطقة، الذين كانوا يعانون من صعوبات في الحصول على الرعاية الصحية. توسع المستشفى مع مرور السنين، مقدماً خدمات تتنوع بين الجراحة ورعاية الأمومة. كانت طريقة شيفياتزر في ممارسة الطب متجذرة بعمق في فلسفته "تقديس الحياة"، التي أكدت على وحدة جميع الكائنات الحية وأهمية العطف والاحترام لجميع أشكال الحياة. كان يعتقد أن كل فرد، سواء كان بشرياً أو غير ذلك، يستحق الكرامة والرعاية. حصل شيفياتزر طوال حياته، على العديد من الجوائز والتكريمات عن عمله الإنساني، بما في ذلك جائزة نوبل للسلام في عام 1952. واصل العمل في المستشفى في لامبارين حتى وفاته في عام 1965، تاركاً وراءه إرثاً من المساهمات الانسانية لا تزال تلهم الناس في جميع أنحاء العالم.

• (على حافة الغابة البدائية) -"On the Edge of the Primeval Forest
"على حافة الغابة البدائية" هي سيرة جذابة لألبرت شيفياتزر، نُشرت لأول مرة في عام 1921. تدور أحداثها في القارة الإفريقية، حيث يستلهم شيفياتزر من تجاربه كطبيب رسالي تصوير حيوي وفهم عميق للحياة في أفريقيا المستعمرة. تتابع الرواية رحلة البطل، الدكتور هنري هدسون، أثناء تنقله في تعقيدات الاستعمار وتصادمات الثقافات، والنضال من أجل البقاء في قلب أفريقيا. من خلال لقاءات هدسون مع القبائل الأصلية والمستعمرين الأوروبيين، والمناظر الطبيعية، يستكشف شيفياتزر مواضيع الإنسانية والأخلاق وتأثير الحضارة الغربية على المجتمعات الأفريقية التقليدية. تتميز كتابة شيفياتزر بالتفصيل والدقة، مما يقدم للقراء استكشافًا يحفز التفكير لتعقيدات الاستعمار والحالة الإنسانية. "على حافة الغابة البدائية" هي عمل خالد يواصل تأثيره على القراء، مقدماً رؤيا قيمة في التحديات والتناقضات من عصر الاستعمار.
• مقارنة بين (في قلب الطلام) و (على حافة الغابة البدائية)
في قلب الظلام" لجوزيف كونراد و"على حافة الغابة البدائية" لألبرت شيفياتزر هما عملان ملحوظان وقعت أحداثهما في أفريقيا خلال العصر الاستعماري، وعلى الرغم من أنهما يركزان على زوايا سردية وآراء مختلفة؛ تستكشف السرديتان مواضيع الاستعمار والتصادم الثقافي وتأثير الحضارة الغربية على المجتمعات الأفريقية، إلا أنهما يفعلان ذلك من خلال عدسات وأساليب سردية متباينة.
يقدم كونراد في "قلب الظلام"، رحلة مظلمة وتأملية إلى قلب أفريقيا من خلال عيون البطل، مارلو. تتناول الرواية المسائل النفسية والأخلاقية للشخصيات، لا سيما كورتز، وهم يمثلون ويواجهون وحشية وغموض الاستعمار. يعتمد السرد الخاص بكونراد بشكل عميق على الرموز والرمزية، مما يدعو القراء إلى التفكير في الظلام الكامن في الطبيعة البشرية والقوة التدميرية للاستعمار. من ناحية أخرى، فان "على حافة الغابة البدائية" يقدم استكشافًا أكثر تعقيدًا لشخصية أفريقيا المستعمرة من خلال تجارب الدكتور هنري هدسون. اذ يوفر شيفياتزر ، مستفيدًا من تجاربه كطبيب ذي رسالة، تصويراً دقيقاً ومثيراً للاهتمام للحياة في أفريقيا الاستعمارية، مسلطاً الضوء على تعقيدات التفاعل الثقافي والنضال من أجل البقاء. وقد سارت روايته على عكس النهج الاستعاري لكونراد، فالسرد في رواية شيفياتزر يستند إلى الواقعية، مما يقدم للقراء تصويراً أكثر مباشرة لتجربة الاستعمار.
تشترك الروايتان في النظرة النقدية لتأثير الاستعمار على المجتمعات الأفريقية، فضلاً عن المعضلات الأخلاقية التي يواجهها كل من المستعمِرين والمستعْمَرين. ومع ذلك، تختلفان في أساليب السرد والتركيز. فرواية "في قلب الظلام" تعتمد بصورة كبيرة على الرموز والتأمل النفسي، بينما "على حافة الغابة البدائية" تقدم تصوياً مباشراً أكثر وضوحاً لصورة الحياة الاستعمارية. فبينما تستكشف "قلب الظلام" و"على حافة الغابة البدائية" مواضيع متشابهة تتعلق بالاستعمار في أفريقيا، إلا أنهما يفعلان ذلك من خلال أساليب سردية متباينة. تتميز رواية كونراد برموزها الغامضة وعمقه النفسي، بينما تقدم رواية شيفياتزر منظوراً أكثر واقعية وشخصية على التجربة الاستعمارية. والروايتان معاً تقدمان رؤيا قيمة في تعقيدات وتناقضات عصر الاستعمار في أفريقيا. قدمت رواية كونراد الجانب المظلم في المماراسات الاستعمارية للانسان الابيض في أفريقيا، حيث وصفت الروايةافريقيا (بمهد الظلام). وهي فرية اطلقها الانسان الابيض لكي يبرر وجوده الاستعماري باعتباره حامل شعلة الضياء في هذا الظلام كما تصوره الرواية (في قلب الظلام). أم الالسردية الاخري فانه تريج ن تغطين درساً آخر بأن الانسان ايضاً مجبول على الخير. فقد قضي الدكتور شيفيتزر عمره كله في خددمة (الانسانية السوداء)، بدافع حقيقي من الضمير الانساني الحي. وتمثل السيده زوجه منارة أخرى ان الخير في الانسان مجملاً ليس وقفاً للرجال دون النساء. وبين (الحافة) و (القلب) تدور الحكاية في اعماق وفي اطراف أفريقيا، وتستمر الرواية.


aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء