حين يكون دماغ المثقف مسكونا بالعبيد الآبقين

 


 

 

 

 

ushari@outlook.com
أولا،

المثقف والأخلاق
(1)
في الدماغ المسكون بالعنصرية
فدماغ د. عبد الله يظل مسكونا بكراهيته العبيد، وكيانه مستحوذ بعشق السادة، ولم يجد عبد الله بعد رِدَّته من الماركسية موقعا له إلا مع السادة ملاك العبيد في سودان الرق، على المستوى التجريبي لا الاستعاري، مما تفضحه الهفوة الفرويدية تنضح بالعنصرية التي حاول عبد الله تلافيها بقوسين وقد صعب عليه تحمل مسحها، وهي الهفوة المعبِّرة عن عميق وجدان عبد الله كمثقف إسلامي عروبي يكره "الجنوبيين" بإطلاق، خاصة هؤلاء ضحايا مذبحة الضعين وضحايا الرق.
...
كيفني عبد الله في مقاله بأني الأكاديمي "الآبق"، وما الآبق في اللغة وفي الفقه الإسلامي إلا ذلك العبد الهارب من سيده، وفي اللغة تتخرَّج العنصريةُ صافية من عصبونات الدماغ المتفاعلة مع دواخل العقل المتفلت، رغم أنف الكاتب أو حيطته. لكن الوصفة بالعبد الآبق من عبوديةِ أكاديميةٍ من النوع الذي يتمرغ فيه عبد الله تظل في محلها، بمعناها الحقيقي لا المجازي، وهي وصفة صحيحة لا أرفضها.

(2)
استعراض عبد الله بأكاديميته المفروشة للفرجة
ليست هي المرة الأولى التي يستعرِض فيها عبد الله بـفرش "أكاديميته" أمام النظارة القراء، شوفوني، في سياق مناجزته ضد مخالفيه بشأن تسخيره قلمه ليل نهار لتبرير المفظعات الجماعية مثل المذابح والرق مما اقترفته المنظومة العروبية الإسلامية في السودان، وللدفاع عن سادته الإسلاميين.
فالأكاديمية الطالعة في راس عبد الله بل تتلخص عند "البروف"، كما يناغيه أحبابه الإسلاميون الأصيلون ما صدقوا في جدب عقولهم أن المدد يأتيهم من مرتد من الماركسية إلى الإسلامية مِتُّورك، تتلخص هذي "فَسْوة العلم" (الواثق) في تكثر عدد "الكتب" التي نشرها عبد الله لتسويق ذلك مشروعه العروبي الإسلامي الفاشل.

(3)
بيضة الديك
وفي استعراض عبد الله بكتبه المتكثرة وهي ليست إلا لمام مقالاته البايخة وبالعكس، قال عبد الله إن كتاب مذبحة الضعين هو "بيضة ديك عشاري"!
فليكن الكتاب كذلك هو بيضة الديك المنسوبة إلي، رغم ثبوت كذب عبد الله في هذه قولته التي اقتبسها من لغة رفيقه في الكذب على القراء، الأستاذ خالد موسى الذي، حين كذلك أعيته الحجة بعد أن قدمتُ الإثبات على كذبه وتزويره تقرير الإيكونيميست، ما وجد إلا ذات هذه الكذبة ليروِّجها.

(4)
اليساري المرتد إلى القاع
وما خطاب عبد الله على مدى الثلاثين عاما الماضية إلا التعبير عن أزمة اليساري المرتد لا يتوقف في سقوطه المتسارع إلا في حد القاع، من أقصى اليسار، حين كان عبد الله المثقفَ الملتزمَ الملهمَ وكنتُ ألزِم طلابي بالجامعة بقراءة ما كتبه عبد الله في العلاقة بين اللغة والحياة عن أحداث ما سمي بـ "هجوم المرتزقة"، 1976، وكانت تلك كتابة عبد الله أرقى ما تمت كتابته في علم اللسانيات الاجتماعية في السبعينات، ولما يتم عندئذ تأسيس العلم ذاته في جامعات العالم، فمن أقصى ذلك اليسار محل الفكر التقدمي إلى أقصى اليمين في وجودية عبد الله الراهنة في درك تسخير قدراته العلمية وكامل معرفته وما تبقى من ذكائه لترسيخ العنصرية في السودان ولخدمة طغيان الحكام وفساد الدولة الإسلامية وإجرامها.
...
وليس عبد الله، بكتابته، إلا الأنموذج السوداني الصافي لظاهرة اليساريين المرتدين في التاريخ، مما ورد بيانه في كتاب آشلي لافيل بعنوان "سياسية الخيانة: المرتدون والراديكاليون السابقون من موسيليني إلى كريستوفر هيتشينز". وفيه قصة عبد الله من الألف إلى الياء تحت أسماء أوربية وأمريكية معروفة. فالدماغ هو ذاته الدماغ في نفسانياته وفي سياقاته. ولا تنفصل الأفكار المكتوبة عن شخص صاحبها ولا عن شخصيته. فالكتابة في مجال الشأن العام هي الشخص ذاته. وكل تمييز بين ما يكتبه الكاتب وشخصه/شخصيته تمييز باطل.

(5)
الموقف السياسي الأخلاقي هو المعيار في تقييم المثقف، لا عدد كتبه
فأما وقد ضعف تفكير عبد الله وأصبح غير قادر على التفكير، تجده لا يدرك أن ما يميز المثقف في ميزان الأخلاق هو موقفه السياسي المُتطرِّف إلى جانب قضايا مجتمعه الجوهرية وإلى جانب المسحوقين ضد جلاديهم دون اكتراث لما يقوله الجلاد، لا ما ينتجه هذا المثقف من هراء ينشره كتبا ومقالات متكثرة أغلبها للتلهية ولخدمة السلطان في مثل هذه الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة.
...
ظل عبد الله يدعم إجرام الإنقاذ وفسادها وعنصريتها على مدى ثمانية وعشرين عاما لم يتغير خلالها عبد الله إلا في لحظات متواترة، كلما كان عبد الله شعر أنَّ قارِبَ الإنقاذ لا محالة غارق فركب عبد الله الموجة الجديدة بمقال، وعينه زائغة تترقب تطورات الأحداث، وما أن انحسرت الموجة حتى عاد عبد الله إلى سيرته القديمة بمقالات متكثرة في تزيين قبح الإنقاذ بلغته المكررة عن الإنقاذ الحارسانا الباقية لينا، حتى تدهمه لحظة خوف جديدة، فيبدل عبد الله مجددا جلدته في سرعة الحرباء ويتذكر للمرة الأولى أن جهاز الأمن لا يعلو فوق الحرية، وما هي إلا لحظات إضافية ويتذكر عبد الله مقتضيات الرِّدة فيندرج في تحنيس عبد العزيز البطل زميله في جهاز "سلاح الكتابة"، كلنا في الهم شرق وإخوان. وهكذا دوليك، في حياة المرتد من الماركسية.

...
(6)
الرد على عبد الله بوقائع المذبحة
فجميع القضايا التي أوردها عبد الله بالأمس في مقاله المنشور قبل ثلاثين عاما كنت فندتها في وقتها، ولأني ظللت أواصل البحث في المذبحة والرق على مدى الثلاثين عاما، لم يتغير أمر جوهري عن المذبحة أو الرق، بل أكدتْ المعلومات اللاحقة بؤس حذلقات عبد الله جميعها، مما سيجده القارئ في هذا المقال وفي المقالات التي تليه وفيها زيادات لتجلية حقيقة المذبحة والرق، وفيها الرد على ادعاءات عبد الله الاحتيالية، احتيالية لأن عبد الله ظل ينشر الهراء والمغالطات في مسعاه الدؤوب لتزوير الوقائع عن المذبحة وعن الرق.
وكل ما أكتبُه هنا مقتبس من مسودتَي كتابين عن المذبحة وعن الرق في أكثر من ألفين من الصفحات، ولست مهموما بنشر "كتاب" على طريقة عبد الله، ولا أكتب إلا كسوداني يتفاعل مع القضايا الجوهرية الراهنة في وقتها، من موقع ما يتيسر لي من وقت للبحث والكتابة، وليست لي حرية الحركة التي ينعم بها عبد الله في كنف نظام الإنقاذ بين أمريكا والسودان بجوازي سفر وبلسانين.

...
(7)
احتقار عبد الله ضحايا المذبحة
أما بشأن وقائع المذبحة، فيتلخص خطاب عبد الله في احتقاره الضحايا وسخريته من العذاب الذي لحق بهم حين تم حرق أجسادهم في مذبحة الضعين، أكثر من ألفين وخمسمائة من الأجساد الحية، في يوم واحد، وكان تسعون بالمائة من الضحايا من الأطفال والنساء بعد أن تمكن أغلبية الرجال الدينكا من الفرار على أمل أن الأطفال والنساء مصيرهم الاسترقاق المقدور عليه.
فمأساة عبد الله التي تفسر عدم تعاطفه مع الضحايا هي أنه غير قادر أصلا حتى على سبيل الخيال على وضع نفسه أو زوجه أو أطفال له تحت رحمة قوم يتضاحكون وهم يحرقونه وزوجه بالنار ويخطفون أطفاله لاستغلالهم رقيقا.
...
فالمثقف غير الحاضر بجسده في لحظة وقوع الحدث بل مطلوب منه تصور نفسه في وضعية الضحايا، واعتماد ذلك "حجاب الجهل" في فلسفة رولز، أن نتصور أن التدابير والترتيبات والوضعيات التي نؤيدها وندعمها أو لا نسجل موقفا حيالها ربما تفضي إلى الـتأثير علينا في أجسادنا.
فلو كان عبد الله دينكاويا، وهو سيقول العياذ بالله، في مدينة الضعين 1987، وكان هؤلاء أحبابه الرزيقات حرقوا زوجه واسترقوا أطفاله، لما كان عبد الله كتب هذا المقدار من الهتر في التقليل من شأن مذبحة الضعين أو الرق.
وهذا هو المقياس الأخلاقي الأساس لتقييم المثقف في مثل هذه الوضعية المحددة، المثقف الأخلاقي ذلك القادر على تصور نفسه وأسرته في وضعية الضحايا غير مكترث لما يسميه عبد الله "الموضوعية الأكاديمية"، وهي فكرة بائسة حتى في العلوم الطبيعية دع عنك في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
فأما وعبد الله غير قادر أصلا على التفكير في مثل هذه الوضعية المستحيلة عنده، أن يكون دينكاويا في مدينة الضعين، ولو في مجرد الخيال، خاصة وهو في حماية الإنقاذ، فلا نتوقع منه إلا هذا موقفه في الذكرى الثلاثين لمذبحة الضعين.
...
ولهذي عدم القدرة على التفكير، تجده عبد الله يعيش الأوهام ويجتر الخرافات والتجريدات عن النسيج الاجتماعي، والعلاقات، والرموز، والرزيقات ليسوا مخلب قط، والرزيقات لهم أجندة، والقتلة شخصيات في دراما اجتماعية، وبقية الكلامات الفارغة المقتبسة من أوراق صفراء، وما كان أحد يطيق سماع مثل هذا السخف حتى قبل ثلاثين عاما، دع عنك مجرد الاستماع إليه في زمان الدولة الإجرامية، وفي زمان القبيلة كمنظمة إجرامية لها الصفحة في الفيسبوك وتتصل عبر القارات بالآي فون، لكنها القبيلة تخفي حداثتها وتتخفى وراء ستر الثقافة وما قبل الحداثة، وهي القبيلة تريد أعذارا ثقافية لجرائمها، مما ينهض إليه المثقفون مثل عبد الله في دور ضباط العلاقات العامة، مهمتهم لفلفة الكلام للتلهية عن الأمور الواضحة في هذه الوضعية، أمور القوة/السلطة والمال والهيمنة والاستغلال والعنصرية.
...

ثانيا،
تجربة الضحايا وقد اشتعلت فيهم النيران، مما لا يفهمه عبد الله
(1)
مقدمة عن موقع حرق الجسد الدينكاوي في ثقافة الرزيقات
كان حرق الجسد، جسد الدينكاوي، التعبير الفاصل عن "الحل النهائي"، على المستوى النفساني في مخيال الرزيقات، كأشخاص وكقبيلة. الحل النهائي لمسألة الدينكا المعذِّبة لا تطاق. بصورها في شظايا الذاكرة الرزيقية المزحومة بالصور. صورة مقاومة العبد الدينكاوي الآبق يرفض الانصياع لسيده. وصورة اخضرار أرض هذا العبد بينما مكانه في هذه المحرقة، أرضه الخضراء مقارنة مع أرض الجفاف والقحط في كثير دار الرزيقات التي ظلت تهذي بأنها أرض الدينكا خالية من سكانها.
...
لابد كانت هذه الصور تترى في العقل الجمعي للعشرة ألفا من الرزيقات الذين كانوا جاءوا مسلحين في حالة هياج ونشوة مستحوذين بتلك عقلانية الهذيان. يريدون تنفيذ الحل النهائي، تنظيف أرض الرزيقات من دنس العبيد الدينكا الآبقين. ووضع حد للعذاب النفساني الذي سببه لهم شباب الدينكا بمقاومتهم المسلحة ضد القهر والطغيان والاسترقاق من قبل الرزيقات.
...
كان حرق الرزيقات أجساد الدينكا الأحياء في مذبحة الضعين فعلا تقنيا له بنيته ومدخلاته وأدواته ووسائله، وكذا أمكنته وزمانيته. وهو تمثل امتدادا لحرق الرزيقات مساكن الدينكا في حلة فوق، يوم الجمعة 27/3/1987، قبل يوم المذبحة، مما كان حلقة في سلسلة عمليات حرق مشهورة استهدف بها الرزيقات الدينكا. منها حرق منزل محرر الرقيق، مانجوك جيينق مانجوك في أبو مطارق، "عندو سكين، أنيانا، جون قرنق". وحرق المليشيات الرزيقية مساكن الدينكا في القرى في شمال بحر الغزال. وحرقهم مخازن الذرة في قرية الشيخ مشام أنقوي، حيث ظل الحريق مشتعلا على مدى سبعة أياما.
وهنا الآن في محطة السكة الحديد، نجد حرق الأجساد الحية، ألفين منها ويزيد، وحرق تلك التي انتزع الرزيقات منها الحياة انتزاعا بالعصي والسكاكين وبنادق الكلاشينكوف والكلاج والفال وبالحراب.

(2)
كيف كانت عملية حرق الجسد الدينكاوي (من علوم النيران)
تعيننا علوم النيران في إعادة تركيب الكيفية التي نفذ بها عشرة ألف من الرزيقات حرق أكثر من ألفين ونصف من الدينكا في سياق المذبحة، مما سيأتي بيانه في توصيف أربعة مسارح للجريمة في محطة السكة الحديد. والعشرة ألفا من الرزيقات المهاجمين هو الرقم المحافظ الذي قدمه الصادق المهدي في مؤتمره الصحفي في يوم 8 سبتمبر 1987 للتغطية على حقيقة مذبحة الضعين.

(3)
احتراق الجسد
فها هي جموع الرزيقات أطفالا ونساء ورجالا، في معية أشرار من قبائل أخرى، في ذلك اليوم 28 مارس 1987 يشاهدون على أرض الواقع جسد الدينكاوي الطفل أو جسد المرأة يحترق بالنيران، أمامهم مباشرة، وكان الرزيقات في غاية السعادة يرقصون ويغنون ويقفزون في الهواء طربا أمام المشهد.
ها هي النار بدأت بطيئة تتمسك بالجسد الدينكاوي المتخبط من العذاب، لا يقطع على النار حبل تفكيرها إلا صراخ الضحية من الألم، وها هو الجِلد بدأ يتشَيَّط ويتحرق، مع الصراخ المستغيث بإله غائب، وبدأت تظهر بُثورُ جِلد الطفل أو المرأة في شكل فقاعات مثل حويصلات هوائية. وكله مقتبس من لغة علوم النيران. وربما كان ذلك أقصى ما تعرض إليه كثيرون في حياة محمية من الرزيقات.
وها هو جسد الطفل الدينكاوي يتشنج، خلال دقائق، والآن فارَق الجسدُ الحياةَ تحت تأثير الصدمة وبسبب فقدان السوائل، لكن النار لم تترك الجسد لحاله وقد فارقته الحياة. وكذا لم يتركه الرزيقات المهللون.

(4)
استمرار عملية احتراق الجسد
علوم النيران دائما هي المصدر مقرونة بما نعرفه من الشهود. الدقائق تمر، وها هي فجوات الجسد ظهرت عيانا أمام الرزيقات المُعبِّرين عن البهجة وروعة المشهد، وها هو الجِلد على الجسد الميت المتحرك يتحرق أكثر وأكثر، عضلات الصدر تتفحم وتنكمش، تظهر الضلوع، وها هي فجوة الحلق تبدو عيانا، وها هو البخار يتصاعد من منطقة البطن، يشاهده الرزيقات المستمتعون بالمشهد، وهم يرون جِلد الأيدي الدينكاوية العاملة يتسلخ، الأيدي تدمرت كليا، ولم يعد ممكنا رؤية الأطراف.
ثم ها هي فجوات الجسد المحترق تتسع ويغلي فيها السائل الجسدي، وتبدأ المواد الصلبة والمتكسرة المتهدمة تتدفق من الفجوات، عظام وجه الطفل تكلست، وانكمش جسد المرأة المحرق خلفا أو أماما. ها هي السوائل اللزجة تتدفق من الجسد خالقة بركة دهون ودماء ومواد لزجة تحت الجسد، مما يجدد اشتعال الجسد. جذع الجسد يستمر يحترق تدريجيا، الحريق يبطأ، تظل النار الموقدة مركوزة في هذا جذع الجسد. الأعضاء الداخلية المتهدمة في الجسد بدأت تسوَد وتنكمش، تظهر الأمعاء بارزة فوق جدار البطن، عضلات الأيدي متكلسة منكمشة، وفيها كسور.
هكذا يحترق جسد الإنسان الذي كان للتو حيا، ولا يمكن اختصار عمليات الحرق والاحتراق في عبارات مجردة.
الدماغ المسودُّ انكمش، الوجه عار تماما من كل لحم، العظام بدأت تتكلس. تحولت الأمعاء إلى شبكة أشياء متناشفة، بعد أن خف التبخر من الجسد. تقوضت وتناثرت عظام الوجه. وظهر عظم الرقبة في نهاية الجمجمة.

(5)
الرزيقات في غاية الاستمتاع يشاهدون ويضحكون
ولمثل هذه المتعة في مشاهدة جسد الضحية يحترق صويحباتٌ في عمليات سحل الأمريكان السود وتعليقهم في الأشجار بينما النظارة البيض يأتون في جموع غفيرة في أبهى حللهم يتضاحكون ويتناولون مشروب البيبسي. ولنا في محرقة اليهود النازية مثال آخر، كفعل بيروقراطي لا يحرك ضمير الجناة الذين يجدون الراحة في دقة عملية الحرق للجسد.
...

(6)
وضعيات بينية لاحتراق الجسد
تكسَّر الهيكلُ العظمي ذاته بعد تغيُّب العظام التي كانت تركِّبه، ولا يربطه الآن إلا العضلات الناشفة. اليدان تدمرتا تماما. الورك تحول إلى عظمة. الجمجمة تدمرت لا تترك إلا تلك عظمة الرقبة.
كل الأعضاء الداخلية تحولت إلى رماد، واحترقت جميع الأنسجة في الحوض. ها هو الجذع انفصل، وتحطم الجسد كله.
هنا، بعد اكتمال الحريق، أمام الرزيقات المتضاحكين، تظهر بقايا عظام، متشققة، تنكمش الأعضاء الداخلية وتبدو وكأنها لعب أطفال، تتحول إلى مثل شكل السفنجة ذات القدود. تتحول الأنسجة إلى رماد تتخلله عظام. وينتهي الأمر. دائما من علوم النيران مقرونة مع توصيف الشهود وضعيات حرق الضحايا.

لكن، هنالك كذلك جثث تخمد نيرانها في مراحل وسطى بينية، في أية نقطة، بين لحظة الموت بالصدمة وفقدان السوائل في البداية، إلى مرحلة الاحتراق الكلي النهائي في وضعية الرماد المخلط بالعظام الصغيرة. ويختلف احتراق الجسد حسب الوضعية داخل عربة حديدية مغلقة، أم خشبية مكشوفة، أم في الهواء الطلق في حوش البوليس وفضاءات محطة السكة الحديد وشوارع مدينة الضعين.
وكله لإمتاع جموع الرزيقات الحاضرة.
...
مات بعض الأطفال والنساء الدينكا في العربات الحديدية بسبب استنشاقهم الدخان والغازات السامة المنبعثة من حريق القطن والقش والبنزين.
فللنظر في مسارح الجريمة الأربعة الكبرى في محطة السكة الحديد، يوم المذبحة 28 مارس 1987.
...

ثالثا،
حرق السبعمائة شخصا في حوش نقطة السكة الحديد
(1)
إسماعيل نيوبي (أ. ن. في كتاب مذبحة الضعين)
في يوم السبت 28 مارس 1987 بمحطة السكة الحديد. تعرف الشهودُ الدينكا على الرزيقي إسماعيل نيوبي، الكموسَنْجي في سوق الضعين، وله حتى في يومنا هذا في سوق الضعين دكان، وكان حيا يتنفس حتى أخر متابعتي لأحواله في العام 2015. وعرفت في ذلك العام من أحد الشهود كان بمدينة الضعين أن لنيوبي ولد في الأربعين من العمر تقريبا كان قبل أعوام قليلة يعمل في مجال الإغاثة وكان تخرج من المدرسة الثانوية.

(2)
برميل الوقود والأطفال لحرق الأطفال والدينكا
تعرف الشهود على إسماعيل نيوبي حين كان يوم المذبحة يدحرج برميل الوقود بمعاونة صِبْية الرزيقات، حتى توقف نيوبي والصِّبْية إزاء حوش نقطة شرطة محطة السكة الحديد وفيها أكثر من ألف من الدينكا المنتظرين حلا، بعد أن كانت عربات القطار العشرة امتلأت بالركاب عن آخرها ولم يعد في أي منها موطئ قدم.
...
تشير المعلومات المتوفرة من الشهود إلى أن نيوبي كان قفل راجعا من محطة السكة الحديد إلى داخل منطقة السوق لاستحضار هذا برميل الوقود الذي كان كافيا، مع أشكال الوقود الأخرى مثل القش والمراتب، لحرق سبعمائة شخصا على أقل تقدير في حوش البوليس المسوَّر، وهو تفسيري من منطلق علم النيران لفهم الكيفية التي تحترق بها الأجساد في الوضعيات المختلفة المغلقة أو المكشوفة، حيث يكفي إشعال النار في أجساد قليلة متلاصقة ومن ثم تنتقل النيران بين الأجساد المتضامة ذاتها التي تصبح بدورها وقودا لحرق ذاتها ولحرق أجساد إضافية في المكان.

(3)
الوقود لحرق الأجساد الدينكاوية
لم يكن نيوبي لوحده مع الصبية الأشقياء "يعملون"، فقد كان آخرون من الرجال والنساء الرزيقات كذلك "يعملون"، من لغة الإبادة في رواندا، فقد ذهبوا إلى المنازل القريبة لإحضار مستلزمات إضافية لحرق الدينكا مثل الشَّرْقانِيَّات وهي ألواح منسوجة من القش، والقش الناشف، والمراتب القطنية، وخِرق القماش، والملابس المستعملة. وكلها أنواع وقود، بالإضافة إلى الوقود السائل مثل الجاز المحروق والجازولين والبنزين، وهنالك الكبريت.
بالإضافة إلى إحضار الرزيقات أدوات أخرى للتكسير مثل الفؤوس التي اكتشف الرزيقات أهميتها حين واجهتهم مشكلات تكسير الأبواب والشبابيك والنفاذ إلى الدينكا المتحصنين داخل العربات الحديدية المغلَّقة.

(4)
كيف حرق الأطفال الرزيقات في معية النساء والرجال سبعمائة من الدينكا في حوش البوليس؟
فتَح الكموسنجي إسماعيل نيوبي برميل الوقود أمام حوش البوليس وأمام المسؤولين الحكوميين والأمنيين والشعبيين المجتمعين تحت شجرة النيم في المحطة، وصب من برميله للصبية في مواعين منزلية أتوا بها. فرَشَّ هؤلاء الصبية، ومعهم آخرون من النساء والرجال، رشوا الوقود على الدينكا المحاصرين داخل حوش نقطة بوليس المحطة. وقذف آخرون بالأشياء المشتعلة فوق الرؤوس.
فحرقوا سبعمائة طفلا وامرأة وبعض الرجال في هذا المكان. وقد عدَّلتُ الرقم للضحايا من خمسمائة بين سبعمائة إلى سبعمائة بين ألف، بعد مراجعة سعة حوش البوليس، والصور الفوتوغرافية للحوش، والأوصاف المقدمة من الشهود، وبعد أن قدرت أنه لابد تمكن عدد من المحاصرين في الحوش من القفز فوق السور والنجاة بأنفسهم، رغم أن الشهود كانوا يشيرون إلى أن جميع من كان بالحوش تم حرقهم، خمسمائة، طق طق طق في حساب العسكري ديو باك ديو. كذلك أضفت ستين شخصا هم الضحايا الذين كانوا محصورين في مكتب الشرطة داخل حوش البوليس وقد تم حرقهم جميعهم.

(5)
علوم النيران، مجددا
تخبرنا علوم النيران أن الجسد الحي الذي يفارق الحياة تحت أثر صدمة الحرق بالنار وبسبب فقدان السوائل، هذا الجسد وقد تحول إلى جثة محترقة يصبح رمادا مخلطا بعظام صغيرة مكسرة خلال أقل من ساعة في حال شدة النيران المضرمة. فربما حسب ديو باك ديو الأجساد المحترقة جزئيا فقط ولم يتمكن من حساب تلك التي كانت رمادا وعظاما صغيرة مكسرة.

(6)
تدليس قبيلة الرزيقات في بيانها الرسمي عن المذبحة
سجلت قبيلة الرزيقات في بيانها الرسمي المنشور عن "أحداث بحر العرب والضعين" إشارة خافتة لهذه الواقعة الفظيعة في حوش البوليس على أنها كانت في جزءا من عملية "تراشق" ثم تحولت إلى "هجوم عام" شمل حوش نقطة شرطة السكة الحديد، وسجلت القبيلة المكان محل الجريمة في كلمتين، "حوش البوليس"، في العبارة: "تطور التراشق إلى هجوم عام في ... حوش البوليس ..."، دون أن تذكر القبيلة في بيانها أي شيء عن ذلك الذي حدث في "حوش البوليس" بغير قولها الاحتيالي إنه كان من نوع "التراشق".
علما أن القبيلة ادعت لاحقا أن عدد القتلى في كامل المذبحة لم يتجاوز 210 من الدينكا، ثم أضافوا 14 شخصا من الرزيقات، وكله كان محض كذب. فحتى الجبهة الإسلامية المعروفة بالكذب وكراهية الدينكا تحدثت عما يقارب ثمانمائة ضحية من الدينكا.
...
تم إعداد هذا البيان الرسمي للقبيلة تحت إشراف د. آدم موسى مادبو، من أسرة مادبو الحاكمة في الضعين، وهو كان الوزير في حكومة الصادق المهدي، بينما وَقَّع على البيان القبيلي ونشرَه باسمه في جريدة السياسة كإعلان مخطوط باليد مدفوع الثمن في صفحة كبيرة كاملة، أحمد عقيل أحمد عقيل عضو الجمعية التأسيسية، كرئيس "لجنة أبناء الرزيقات لتوضيح الحقائق حول أحداث بحر العرب ومدينة الضعين". وكان أحمد ممثل دائرة أبو مطارق، عاصمة الرق في دار الرزيقات.
...

رابعا،
حرق 60 شخصا من الجور شول في مكتب شرطة السكة الحديد
كذلك أحرق الرزيقات بالنار ستين شخصا كانوا تحصنوا داخل مكتب نقطة الشرطة بالمحطة. أغلبيتهم من قبيلة الجور شول، عمال الدريسة بالمحطة وأسرهم، وكان معهم في الغرفة إسماعيل ود أبُّو، دينكاوي من "أولاد الخرطوم" كان يعمل نفر شرطة سكة حديد، ومرفعين أويل دينكاوي أيضا كان جاء زائرا من أويل في مهمة استلام مواد إغاثة، وهذان الأخيران كانا كسرا مخزن السلاح في نقطة الشرطة ودافعا عن نفسيهما وعن بقية الضحايا حتى الموت.
ونعرف من الصورة الفوتوغرافية لمكتب الشرطة أنه غرفة مبنية بصورة محكمة بالطوب والأسمنت ولها سقف، وشباك، مما كان سيكون له أثر في الطريقة التي احترقت بها الجثث قبل أن تفارق الحياة وبعد أن فارقت الحياة.
حيث يوجد فرق في كيفية احتراق الأجساد بين وضعيتها في غرفة مغلَّقة مثل هذا المكتب ووضعيتها في مكان مكشوف مثل حوش البوليس ذي الأسوار. وربما احترقت أجساد الموجودين في هذه الغرفة المغلقة بسرعة فائقة، بسبب ازدحامها وتلاصق الأجساد والتغليق الذي لابد حول المكتب كله إلى محرقة وقودها ستون جسدا ووقودها الترابيز الخشبية والأوراق في المكتب، مباشرة بعد أن أشعل فيه الرزيقات النيران، خاصة في سياق وجود روايات سائغة أن الموجودين بالمكتب كانوا أطلقوا النار من داخله على الرزيقات، وهي رواية ذكرها كذلك بيان الرزيقات في الإشارة إلى "المخزن" الذي كانت الطلقات تخرج عبر شباكه.
أما السبعمائة من الألف شخص في الحوش وأغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء فلابد أنهم احترقوا بطرق مختلفة، بسبب توافر الأوكسجين والهواء الطلق مما يتسبب في هروب الحرارة من الأجساد المشتعلة بالنيران، وربما بسبب تفاوت وضعيات ملاصقة الأجساد. وربما انطفأت نيران أجساد بعض الموجودين في الحوش، ولذلك دور في تصعيب إخفاء الجثث غير المكتملة الاحتراق بالمقارنة مع تلك التي تحولت إلى رماد وعظام صغيرة مكسرة.
...

خامسا،
حرق 240 شخصا في العربة الخشبية المكشوفة على القضيب الثاني
أحرق الرزيقات جميع الأفراد الدينكا ركاب العربة الخشبية المكشوفة المتوقفة على القضيب الثاني. بقذف القش إلى داخل هذه العربة وبرَشِّ الوقود فوق رؤوس ركابها وبإتْباع ذلك بقذف الخرق الملتهبة المشبعة بالوقود السائل. مائتان وأربعون شخصا، مائتان منهم من الأطفال والنساء، تم حرقهم في هذه العربة الخشبية.
وهنا أيضا لابد كان مسار حرق الأجساد الحية والميتة مختلفا عن مسار الحرق في مكتب الشرطة المغلق أو في حوش البوليس المفتوح. لأن العربة الخشبية تصبح ذاتها وقودا خشبيا إضافيا لأشكال الوقود الخارجية الصلبة لكنها المشبعة بالوقود السائل، ووقود الأجساد ذاتها من دهونها وأنسجتها.
ولابد أن الأجساد في هذه العربة الخشبية احترقت بالكامل وتحولت عظاما مكسرة ورمادا، بسبب تضافر أنواع الوقود والأكسدة في حضور الأوكسجين. ولابد أن أرضية العربة الخشبية انهارت تحت أثر الحريق لأن الأرضية كذلك خشب.
وكله تعيننا على إعادة تركيبه وفهمه علوم النيران، وهي منظومة معارف متقدمة تنظر في وضعيات الحرق المختلفة بالتركيز على حرق الأجساد البشرية واحتراقها، قبل الموت وبعد مفارقة الحياة.
هنا كانت النيران والحرارة واللهب تنطلق من الأخشاب الجانبية، ومن الأخشاب الأرضية، ومن الأشياء المشتعلة المقذوفة المشبعة بالبنزين والجاز والزيت المحروق، ومن دهون الأجساد ذاتها. وكان الأكسجين حاضرا متوفرا لتسريع عمليات الأكسدة.
...

سادسا،
حرق مئات الأشخاص في العربات الحديدية وتقتيل آخرين فيها وأمامها وفي فضاءات المحطة
(1)
صعوبة النفاذ إلى الدينكا المتحصنين في العربات الحديدية
وجدت جموع الرزيقات المعتدية أن كل واحدة من العربات الحديدية الثمانية، وكل واحدة منها فيها مطلبهم الدينكا 250 شخصا منهم في العربة الواحدة، بمجموع ألفين في العربات الثمانية، وجدت تلك الجموع المهاجِمة أن كل عربة حديدية تمثلت صعابا تقنية مختلفة وقفت حائلا بينهم والنفاذ إلى الدينكا لتقتيلهم بصورة جيدة.
فقد كان الدينكا المقاومون المتمسكون بالحياة غلَّقوا عليهم أبواب العربات الحديدية من الداخل وأمَّنوا باب كل عربة وشباكها (وهو جزء من الباب ذاته، كما في الصورة). غلقوها من الداخل بالحبال وبكل ما كان يمكن استخدامه. فلم يكن ممكنا للمعتدين الرزيقات وأعوانهم النفاذ المباشر أو المسهل إلى هؤلاء الدينكا المتحصنين في هذه العربات، لتقتيلهم وحرق أجسادهم.

(2)
ابتداع الرزيقات حلولا للنفاذ إلى الدينكا في العربات
ابتدع الرزيقات حلولا ناجعة لهذه المشكلة العملية، مباشرة حين اعترضتهم. بأن حاصروا العربات، وبحثوا في محطة السكة الحديد عن البنزين فوجدوه، وابتعثوا الصبية والنساء وعددا من الرجال إلى الأحياء القريبة وفي داخل المدينة لاستجلاب الفؤوس لتكسير الأبواب، واستجلاب الوقود السائل الإضافي للحرق، والأشياء التي ستكون وقودا إضافيا مثل القش والخِرق والمراتب القطنية، كله لتسهيل النفاذ إلى الدينكا داخل العربات أو إجبارهم على الخروج منها لتقتيلهم ونهب ما معهم.
ركز الرزيقات المعتدون جهدهم الأولي في إعمال القوة الحديدية بالفؤوس لفتح أبواب العربات الحديدية المغلَّقة. ثم حشروا الخرق المشتعلة بين الشقوق في جسد العربة الحديدية ، وأعملوا الجهد بأن أشعلوا النيران في القش والأشياء الأخرى تحت كلِّ عربة حديدية مستهدفة.

(3)
تقتيل الدينكا بعد أن تم فتح أبواب العربات الحديدية
وفي حال فتح الدينكا المتمترسون داخل العربة المستهدفة البابَ أو الشباك لطرد الدخان كان المعتدون المرابطون أمام العربات يطلقون النار على الدينكا داخل العربة، وقد مات زوج تيجوك دوت أني بهذه الطريقة بطلق ناري وهو داخل عربة حديدية فتح الدينكا بابها للهروب من ارتفاع الحرارة وتصاعد الدخان داخلها.
وفي كل حالة خروجٍ من أي من الدينكا من العربة الحديدية هربا من الحرارة المرتفعة داخلها أو من النار المشتعلة أو من الدخان فيها كان المعتدون الرزيقات المرابطون في المساحة الخارجية أمام أبواب العربات ينهالون على هذا متحديهم يريد الحياة، ينهالون عليه بالضرب وينهبون ما معه ويقتلونه تقتيلا ويحرقون جثته.
وحتى إن نجح هذا المقاوم في شق طريقه بين جموع الرزيقات المسلحين أمام العربات الحديدية التي لا تطاق، كان فرسان الرزيقات على صهوات حصين الكارو يطاردون هذا المقاوم ويطعنونه ثم يلقى ذات المصير نهبا وضربا وتقتيلا وتمثيلا بجثته وحرقها. مما كله ورد في أوصاف الشهود الذين كانوا حاضرين.
...

سابعا،
مسار المذبحة
(1)
التفكير والتخطيط وحل المشكلات وعدد القتلى
يتعين أن نفهم أن المذبحة كانت تدور في مسار زماني تخلله الانتظار أحيانا، للتفكير، ولتصميم الحلول، ولجلب الأدوات والمواد الضرورية لتنفيذ التقتيل، وأحيانا للراحة من التقتيل قبل العودة إليه مجددا، والمرور على الحكامات للاستعراض.

(2)
عدد القتلى
حرق الرزيقات وأعوانهم جميع الدينكا أحياء في ثلاث من العربات الحديدية الثمانية، "لم ينج فيها أحد"، هذه العربات الحديدية الثلاثة، وفق قول الشاهد أرياك بيول. سبعمائة وخمسون شخصا. وقتل الرزيقات وأعوانهم أعدادا أقل من الدينكا في عربتين حديديتين، لم يتجاوز عدد القتلى في كل واحدة من هاتين العربتين خمسة أو ستة أشخاصا وربما أكثر قليلا.
ولم يتم قتل أي شخص في واحدة من العربات الحديدية التي أحكم الأفراد الدينكا غلقها من الداخل، واستخدموا المراتب حاجزا بين الأقدام وأرضية العربة الحديدية التي سخَّنها الرزيقات بإشعال النار تحتها، وكان في هذه العربة الحديدية المعلم أرياك بيول، أحد أهم الشهود.
ولا توجد لَدَيَّ معلومات واضحة عن مصير الدينكا في عربتين حديديتين أخريين، لكن يمكن تقدير القتلى على أنه ربما بلغ ستين أو سبعين من مائتين وخمسين شخصا في كل واحدة.
...
بمنتصف النهار كانت المذبحة تكاد تكون انتهت، بالرغم من وجود مجموعات صغيرة من الرزيقات وغيرهم لأغراض النهب أو مزيد عدوان أو للفرجة على ما فعله الرزيقات خلال هذا اليوم. من هؤلاء أحد الزغاوة، وهو أخذ تيجوك دوت أني إلى بيته وساعدها في مغادرة المدينة والنجاة قبل عودتها إلى الضعين للبحث عن أطفالها المفقودين، حيث التقينا بها.

(3)
اختطاف الرزيقات الأطفال والفتيات من المحطة أثناء المذبحة
اختطف الرزيقات المرابطون عددا غير معروف من الأطفال والفتيات الدينكا لأغراض الاسترقاق. من هؤلاء الخاطفين الرزيقية زهرة بت العمدة التي خمشت أدوانج طفلة تيجوك الصغيرة، ومنهم مهدي جماع من أهالي أبو جابرة الذي خطف ابن تيجوك الأكبر. وتمكنت تيجوك بعد ان تلقت علاجا وقتيا من طعنة زهرة بت العمدة من البحث عن أطفالها المخطوفين فوجدت هذين الاثنين وحررتهما ووجدت اثنين آخرين، لكن بنتها الكبرى لم تعرف تيجوك لها أثرا إلى أن ماتت تيجوك في مستشفى أم درمان في العام 2010. وتحدثت مع شقيق البنت الضائعة فقال إنها لم تظهر ولا يعرفون مصيرها.

(4)
تصفية الشرطة قيادات الدينكا ورئيس الكنيسة
بعد أن هدأت عملية التقتيل في منتصف النهار، حضر إلى محطة السكة الحديد ضابط الشرطة علي المنا ومعه عسكري في سيارة اللاندروفر البيضاء المملوكة للشرطة بالمدينة، واقتادا القس بنجامين كون وشيخي الدينكا دينق لوال/لويل وماليت قوم من داخل عربتين حديديتين مختلفتين، وبعد ربع ساعة أعادا الثلاثة من القادة جثثا هامدة رمياها بين الجثث أمام العربات. وقالا إن العرب "كتلوهم".
ولنتذكر هنا أن المكان الصحيح لأخذ الجثث إليه والمعروف للشرطة وفق القانون هو المشرحة في مستشفى الضعين، لا بين أكوام الجثث في محطة السكة الحديد، خاصة وأن المقتولين الثلاثة كانوا في عهدة الضابط علي المنا والعسكري، وأن القاتل الحقيقي لابد كان معروفا للضابط علي المنا ولمرؤوسه الشرطي.
وعلي المنا هو الذي تم توصيفه في كتاب مذبحة الضعين أنه كان "انخلع ..."، فصادر عبد الله هذه العبارات من أقوال الدينكاوي ديو باك ديو وعمل بها عبد الله حفلة أنه كان يتعين علينا اعتماد الرأفة بهذا الضابط الحساس. فالواقع هو أن الضابط علي المنا حين أصابته الخلعة لم يكن ذلك لسبب الخوف الطبيعي، بل بعد أن اكتشف هذا الضابط فداحة جريمته هو، في تقاعسه عن حماية الدينكا، واستهدافه القس بنجامين كون، وفي رفضه اتخاذ التدابير الصحيحة حين كانت جاءته المعلومات الأمنية أن الرزيقات قرروا إبادة الدينكا بالمدينة.

(5)
النهب
جرد الرزيقات أجساد الدينكا من الملابس القيِّمة والأحذية والساعات وجميع الممتلكات المحمولة، ومن المبالغ المالية الصغيرة، قبل قتل هؤلاء الأشخاص الدينكا أو حرقهم أحياء، أو قبل حرق جثثهم.

(6)
الهذيان الرزيقي
أثناء عمليات إبادة الدينكا في محطة السكة الحديد، كان الرزيقات المعتدون في حالة هيجان يعبرون بإفصاح بليغ عن مشاعر اللذة والمتعة، وكذا كان التعبير عن النشوة المستثارة بأدائية تقتيل الدينكا وحرقهم ونهب ممتلكاتهم وخطف أطفالهم.
واستعرض "فرسان الرزيقات" فحولتهم أمام الحكامات شاعرات القبيلة، وأمام المسؤولين الحكوميين المتحلقين في "اجتماع مجلس الأمن" تحت النيماية. كان هؤلاء الجناة يبشرون بأيديهم وبالأسلحة فوق رؤوس المسؤولين الحكوميين ويطلقون النار في الهواء تعبيرا عن انتصارهم على الأطفال والنساء.

(7)
دوران المذبحة في أرجاء المدينة الأخرى
قتل الرزيقات في أماكن أخرى في المدينة أكثر من خمسمائة شخصا من الدينكا، في الشوارع، وبيوت الأسر الرزيقية، ومستشفى الضعين، وكماين الطوب، ومصنع الصابون، والفرنين، وربما في القَشَّارات، وفي القرى المجاورة.

(8)
مقاومة الدينكا وتشبثهم بالحياة
قاوم الدينكا معذبيهم الرزيقات المعتدين بكل ما أوتوا به من عزيمة للبقاء على قيد الحياة، قاوموا حتى آخر لحظة وإلى آخر رمق في الحياة، وكانت العزيمة والمقاومة هما اللتان أنقذتا أكثر من نصف الدينكا الذين حاصرتهم الجموع الرزيقية في محطة السكة الحديد.
فأقدِّر أن الرزيقات تمكنوا من تقتيل 1000 شخصا في العربات الحديدية الثمانية وفي فضاءات المحطة أمام تلك العربات، "مرصوصين متل الطوب ومتل البهايم" في لغة حواء إدريس، وقتلوا أيضا 240 شخصا في العربة الخشبية المكشوفة على القضيب الثاني، و700 في حوش البوليس، و60 شخصا في مكتب الشرطة، بالإضافة إلى 500 في أرجاء المدينة خارج محطة السكة الحديد. أي، أنهم قتلوا ألفين وخمسمائة من الدينكا تقريبا في يوم المذبحة بالمدينة.
ولابد من أن تخضع هذه الأرقام للمراجعة وفق بيانات لابد من الحصول عليها من أشخاص ناجين أحياء كانوا موجودين في كل واحد من مسارح الجريمة العشرين ويزيد بالمدينة. وهو موضوع خصصت له حيزا في الكتاب غير المنشور، عن كيفية إكمال الباحثين الشباب التحقيق في مذبحة الضعين.
...

ثامنا،
بعد المذبحة
(1)
عودة الرزيقات إلى بيوتهم
نهاية يوم السبت 28 مارس، عاد المعتدون الرزيقات إلى بيوتهم، الجناة الأطفال والنساء والرجال عادوا لتناول وجبة العشاء، تاركين خلفهم في محطة السكة الحديد وفي بقية أرجاء المدينة ألفين وخمسمائة من الجثث الممزقة والمحترقة جزئيا أو رمادا وعظاما صغيرة.
عاد هؤلاء الرزيقات إلى بيوتهم سعيدين بالأشياء الصغيرة التي تمكنوا من نهبها من أصحابها الدينكا، وكذا كانت ملابسهم وأيديهم وكامل أجسادهم بما فيها الأدمغة تحمل آثار جريمتهم، المخاخ المتطايرة من الجماجم الدينكاوية المهشمة، وزخات الدماء، وقطع اللحم البشري الصغيرة اللاصقة في الوجوه والشعور، وكانت مسام أجساد الرزيقات المعتدين وشعورهم وملابسهم مشبعة برائحة شواء اللحوم المحترقة.

(2)
لا يوجد أي دليل على ضحايا من الرزيقات أكثر من شخص أو اثنين
لا يوجد أي دليل يعتد به أن أكثر من شخص أو شخصين من العشرة ألفا ويزيد من الرزيقات فقدا حياتهما، ربما قتلهما دفاعا عن النفس وعن الآخرين الدينكاوي إسماعيل ود أبو، الموصوف أنه من "أولاد الخرطوم"، أو قتلهما القس بنجامين كون في إحدى الروايات حين كان بنجامين في البداية مع أهله الجور شول المحاصرين داخل مكتب نقطة الشرطة وفيه ستون شخصا أغلبهم من قبيلته، قبل أن يتحول بنجامين إلى عربة حديدية فكان أن تم أخذه منها، كما أسلفت، مع شيخين من قيادات الدينكا بواسطة الشرطة وتصفيتهم الثلاثة ثم إعادة جثتهم ورميها بين الجثث المتناثرة أمام عربات السكة الحديد.
ولم يسفر التحقيق بواسطة كنيسة نيالا في ظروف قتل بنجامين عن شيء، ولم تفصح الكنيسة المهددة عن شيء مهم. وفي جميع الأحوال، قصة بنجامين هي ذاتها قصة كل واحد من الألفين وخمسمائة اللذين قتلتهم قبيلة الرزيقات، بتواطؤ الموظفين الحكوميين التافهين المهمومين بالوظيفة والترقية والمكاسب الصغيرة وفرص الإفادة من أبقار الدينكا المنهوبة. وشاركت الحكومة وأدواتها من المثقفين أصحاب الأدوات الأشد شطنا وشناعة في التغطية على الجريمة وفي تقتيل تاريخ الضحايا وتدنيس ذكراهم.
...
جميعهم هؤلاء الجناة عادوا بعد المذبحة إلى بيوتهم، وكأن شيئا لم يكن. وكان مندسا من بينهم المثقف المرتد د. عبد الله علي إبراهيم، لم يحتقر ضحايا الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في السودان أحدٌ مثلما احتقرهم د. عبد الله علي ابراهيم.
...

تاسعا،
التغطية على الجريمة
(1)
الجثث في كل مكان
الأحد-الاثنين 29-30 مارس. في مدينة الضعين. لا أثر لدينكاوي حي إلا الأثر المغيب داخل البيوت الرزيقية لألفين تقريبا من الأطفال والفتيات والنسوة الأرقاء المحتجزين مخفيين في بيوت الأسر الرزيقية.
عندئذ، وقد انتهى حفل التقتيل والحرق، وجد الرزيقات الذين نفذوا المذبحة، وقادتُهم المخطِّطون والمحرِّضون، وكذا وجد المسؤولون الحكوميون المحليون المتقاعسون عن أداء التزامهم لحماية الدينكا، جميعهم المتحالفون وجدوا أنفسهم أمام مشكلة قانونية وصحية وفنية ومشاعرية.
وجها لوجه أمام هذا العدد المتكثر من الجثث وبقاياها، الجثث كانت مرصوصة "مِتْل الطوب ... ومِتل البهايم" مباشرة أمام عربات السكة الحديد. الأجساد الدينكاوية المحروقة بالكامل أو جزئيا، الأيدي المحروقة مرتفعة بقبضة الملاكمة تعبر عن احتجاج وتقاوم حتى وهي فارقت الحياة وتكلست عظامها، الجماجم المحطمة وقد احترق شعرها وبدت فجوات العيون الشاخصة، الأجساد التي كانت تنبض بالحياة وبالضحك وقد تحولت إلى رماد مخلط بقطع عظام صغيرة، وكذا كانت الأشلاء المقطعة مبعثرة في كل مكان بمدينة الضعين.
أكثر من ألفين من القتلى في محطة السكة الحديد، وخمسمائة إضافيون في بقية أرجاء المدينة. وكانت رائحة اللحوم البشرية المهترئة أو المشوية متمسِّكةً بأهوية المدينة.

(2)
كيف الخلاص من الجثث؟
فكيف التخلص من الجثث، وفي مخيال الرزيقات أن الجنوبي قذر، ونجس؟ كيف يكون لمس جثته أو لملمة بقاياها المتناثرة تأتي بتعقيداتها في ذهانية الرزيقي وجنونه؟
ما كان ممكنا دفن الجثث بطريقة تحترم كرامة الضحايا أو ديانة أهلهم وثقافتهم أو مشاعرهم، حتى الدينكا المسلمين ما كان ليدور في الخيال الرزيقي مجرد تصور غسلهم أو الصلاة عليهم أو دفنهم في مقابر العرب المسلمين.
سراعا، تخلص الرزيقات من بقايا الألفي جثة في محطة السكة الحديد، بأن لملموها وغيبوها في حُفر في المنطقة شمال المحطة مباشرة، ولأن أغلبية الجثث تقلصت إلى أقل من 10% من حجمها ووزنها حين كانت حية تعيش، بدت الجثث وكأنها لم تكن ألفين.
وتخلص الرزيقات من بقايا الخمسمائة جثة المتناثرة في مسارح الجريمة الأخرى بالمدينة بعدة وسائل، حرقوا بعضها بالكامل لتسهيل بعثرة الرماد والعظام الصغيرة في رمال المدينة، ودفنوا البقايا المُمَزَّعة غير المحترقة بالكامل في حفر، وجَرُّوا بعض الجثث على الأرض قذفوا بها في الخلاء خارج المدينة، وألقوا البقية في المراحيض العامة في مدينة الضعين.
...
ثم التزم الرزيقات الصمت، وتصنعوا البراءة، وكأن شيئا لم يكن.
...

عاشرا،
في تطفل عبد الله على الذكرى الثلاثين لمذبحة الضعين
فذلك الصمت على الجريمة كان هو مقال الرزيقات، وكان كافيا للتعبير عن موقفهم وحجتهم. فلم يستحق الأمر معهم مغبة تسآلهم عما حدث، خاصة وأنهم كانوا في تصور البروفيسور أطقم في دراما سياسية اجتماعية، وبقية كلامات عبد الله المعروفة.
...
لكن أخبار المذبحة تسربت إلى خارج المدينة، لم يُسكتها الصمت الرزيقي المدوي، حيث لم تكن مذبحة الضعين "جريمة كاملة"، بمعنى الدقة في شطن الإجرام، بل شاب المذبحة قدر هائل من الوحشية والبدائية والاضطراب والمفاجآت والتدبير الوقتي والخبث، واضطر الرزيقات إلى تغيير خطة الإبادة التي كانت معدة قبل أسبوعين على أقل تقدير، حين فاجأهم وصول القطار 305 من بابنوسة ولم يكونوا أصلا يتوقعون أن المذبحة التي كانوا خططوا لها ستقع في عربات السكة الحديد أو في حوش البوليس بالمحطة.
وكذا نجا من المذبحة أكثر من خمسة عشر ألفا من الدينكا بالمدينة.
...
في هذه الذكرى الثلاثين كان كتاب مذبحة الضعين - الرق في السودان موضوعا لتشنيع هذا المثقف الإسلامي عبد الله علي إبراهيم، بحماسته الأطفالية الجامحة مستخدما جواد أكاديميته البايرة وردته الفكرية للتقحم على الضحايا في أيام الاحتفاء بذكراهم الثلاثين، ولم يكن أحد دعا عبد الله إلى هذه الذكرى الخاصة، لكنه في استحواذه بمقته الضحايا من جنوب السودان، مما يفضحه كامل خطابه العنصري المشحون بالكراهية، أقحم نفسه في سعي منه لتدنيس هذه الذكرى الثلاثين، لأنها الذكرى شاهدٌ على وقوف عبد الله في الخط الأمامي للدفاع عن المفظعات الجماعية في السودان.
....

عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com

 

آراء