خليل فرح ورواد شعر الحداثة الأوربية

 


 

 

اثناء مطالعتنا لديوان الشاعر السوداني الكبير خليل فرح (1894-1932) استرعى انتباهنا بيت شعر بقصيدة طويلة بعنوان (مقرن النيلين) حيث يقول خليل في رباعية من هذه القصيدة:

الليلْ بردْ والنومْ خـــزازْ
أنا وأنت والأنجم عُزازْ
القمرة زي طاولة قــــزازْ
بلياردو يتـرحّــل هــــــزّازْ

كان الشاعر مؤرقا تلك الليلة يستجدي النوم فيعز عليه، فيظل يرقب النجوم ويقلب نظره في السماء التي بدأت له مثل سطح طاولة من زجاج وترآى له القمر مثل كرة لعبة البلياردو تتدحرج ببطء على سطح تلك الطاولة.
هذه الصورة التي أبدعها خليل فرح للقمر شبيهة، بصورة القمر التي رسمها رائد الحداثة في الشعر الأنجلو امريكي، الشاعر الإنجليزي T.E. Hulme (تي إي هيلوم/هيوم) بقصيدته Above the dock "على المرفأ/المرسى" والتي شبّه فيها القمر ببالون لعب الأطفال حيث يقول في هذه القصيدة والتي تتألف من أربعة أشطر فقط:

Above the quiet dock in midnight,

Tangled in the tall mast's corded height,

Hangs the moon. What seemed so far away

Is but a child's balloon, forgotten after play.

"على المرسى الهادئ في منتصف الليلْ
هنالك فوق السارية المنتصبة عالياً
تدلّى القمرْ
إن ما بدأ بعيداً
ليس إلا بالون طفل تُرك منسياً بعد اللعبْ".

هذه الصورة المفارقة، للقمر، والتي أبدعها خليل فرح، والشاعر الإنجليزي هيولم، كل على حدة، تنزع عن القمر الصورة الرومانتيكية التي ظلت راسخة في الذاكرة الجمالية الجمعية حيث يتخذ القمر مثالاً للحسن والبهاء وجمال وجه الإنسان.
وكان النقاد في الغرب قد اتخذوا قصيدة "هيوم" هذه نموذجاً على الحداثة في الشعر. فهم يرون أن أبرز ما يميز قصيدة الحداثة هذه المفارقة الجمالية. بمعنى أن الصورة الشعرية في القصيدة لا تنسج على نموذج سابق في البلاغة التقليدية، وإنما تأتي بنت لحظتها وتأخذ دلالتها من عالم النص وشبكة علاقته الداخلية. وهذه المفارقة paradox كان قد طالب بها (النقد الجديد) الذي ساد على ضفتي الأطلنطي في الثلاثينيات والأربعينيات. وهي نفسها defamiliarization "نزع الإلفة" عن الأشياء في الواقع المعاش، والتي كان قد طالب بها شعراء ونقاد (الشكلانية الروس) في عشرينيات القرن الماضي.
وهيولم الذي قتل في الحرب العالمية الأولى جندياً شاباً (1883-1917) من كبار مؤسسي المدرسة التصويرية the imagism أو مدرسة الصورة الشعرية، وهي اتجاه شعري تشكل في لندن سنة 1912 من شعراء من أمريكا وانجلترا بزعامة الشاعر الأمريكي عزرا باوند.
وقد أصدرت الجماعة "مانفستو" شعري، حددوا فيه أبرز ملامح الكتابة الشعرية في الاتجاه الجديد وهي: التركيز على إبراز الصورة كما يراها الشاعر في الواقع بكل أبعادها المحسوسة البارزة والخشنة دون تهويم أو تزويق واستخدام لغة الحديث اليومي وتناول كل الموضوعات، فليس هنالك مواضيع شعرية وأخرى غير شعرية والأخذ بالنظم الحر دون التقيد بالأوزان التقليدية حتى يمكن للشاعر التعبير عن فردانيته وخصوصيته على نحو أكثر حرية".
في المقدمة التي كتبها لمختارات شعرية، لعزرا باوند، يقول توم قن Tom Gunn عن هذه الحركة الشعرية:
"إنها اتجاه مكون من جماعة صغيرة لم تدم طويلاً، كتبت قصائد قليلة وقصيرة ولكن كان لها الأثر الأكبر في حركة الشعر في القرن العشرين، فمن حيث الموضوع ركزت الحركة على الجانب الحسي على حساب الجانب المفاهيمي، ومن حيث الأسلوب اعتمدت على الوضوح والمقارنات. أما من حيث الشكل فاستصحبت طريقة الشعر الحر (قصيدة النثر) في الكتابة التي كانت في ذلك الوقت لا تزال جديدة وتحت الاختبار أما الآن فقد أصبحت هي الطريقة السائدة في كتابة الشعر".
ومن أهم شعراء الحداثة الشعرية، الذين تأثروا بالحركة التصويرية، الشاعر الأمريكي الإنجليزي تي إس إليوت والذي كان يعد عزرا باوند أستاذه في الشعر، ومن علامات ذلك أن إليوت وضع مخطوطة قصيدته المشهورة (الأرض الخراب) بين يدي باوند، وتركه يفعل بها ما يشاء فحذف باوند منها "عدة أجزاء وأعطاها شكلها الحالي". وعرفاناً بفضله ورعايته له وإسدائه النصح، كتب إليوت تحت عنوان القصيدة، الإهداء إلى باوند، وهو: "إلى عزرا باوند، الصانع الأمهر". غير أن إليوت بخلاف أستاذه عزرا باوند، لم يتحول بالكلية إلى قصيدة النثر وإنما زاوج بين الوزن والكتابة النثرية في أشعاره.
وكان رائد الحداثة العربية الأديب والناقد السوداني معاوية محمد نور (1909-1941) قد اتخذ من أشعار هذه الحركة أساسا لنقد شعراء الحركة الرومانتيكية العرب، حيث دعاهم إلى استصحاب التعابير والأساليب الحديثة في كتابة الشعر. جاء ذلك بمقالة نشرت في حلقتين بمجلـة (الرسالـة) المصريـة بتاريخ 15و22/10/1934 تحت عنوان: (أصدقائي الشعراء، هذا لا يؤدى!). وما ورد بهذه المقالة يمكن أن يعد، في تقديرنا، بياناً للحداثة الشعرية العربية سابق لآوانه بنحو ثلاثين سنة!
وكانت مناسبة هذه المقالة، صدور كل من ديوان: (وراء الغمـام) لإبراهيـم ناجـى، وديوان (الملاح التائه) لعلي محمود طه (المهندس) في ذلك العام. وبالرغم من صداقة الاثنين لمعاوية وبالرغم من أن كلاً منهما قد أهداه نسخة من ديوانـه ليلـة صـدوره، إلا أن معاوية لم يجاملهما في تلك المقالة النقدية الرائدة. يقول معاوية عنهما:
"وهما لاشك ينتظران المديح والثناء من صديق يجلس معهما ويأنس إلى صحبتهما غير أن الموضوع في رأينا قد تعدى أخيراً هذين الأديبين إلى ما هو أخطر وأبعد شأناً، تعداه إلى الحديث عن طبيعة الشعر والكتابة، وأن الأقلام قد خطرت في هذا الطريق بكلام يعد معظمه خطراً على الحركة الأدبية في مصر، وفهم الفنون الأدبية على الوجه الذي يفهم منها في الجيل الحاضر. ولهذا رغبنا في كتابة هذه الكلمة لا لنمدح أو نذم، ولكن لندلي برأي في الشعر كما نقرأه ونفهمه، وكما ننتظر من الكتاب والقراء أن يقرأوه ويفهموه". انتهى.
وقد عاب معاوية في هذه المقالة على صديقيه ناجي والمهندس وعلى سائر الشعراء آنذاك، تمسكهم بالأساليب والموضوعات الشعرية البالية وانغلاق أفقهم الشعري على مظاهر الطبيعة التقليدية وحثهم فيها على الالتفات إلى مظاهر الحياة الحديثة وتياراتها الفكرية والإلمام بوعي العصر وتمثيل ذلك كله في تجاربهم وعوالمهم الشعرية.
ويقول معاوية في هذه المقالة في سياق حديثه عن شعر تي. اس. إليوت والشاعر د. هـ لورنس: "أولئك الشعراء الذين نراهم جاهدين يفتشون عن الله، ويبحثون في الجنس ونشوة العفاف الروحي، ثم يعود كل منهم وحقيبة وعيهم ملأى بالأحاسيس المختلفة والأفكار المريرة أو العذبة، ملأى بالثعابين التي تبرق كاللؤلؤ وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح وبالذهول الذي يسمو إلى طبقات السماء، وبالسحر الذي: يرى القمر في أمسية حب أشبه ببالون يلعب به صغار الأطفال. ويرى: المساء ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح.. وربما يرى: في أنامل الحبيب أقطاراً متسعة ولو أنها بادية التناقض أو بأحاسيس متناقضة بعيدة، حالكـة الظلمـة أو شديـدة الوهج".
إشارة معاوية هنا إلى تشبيه القمر ببالون لعب الأطفال، يريد به قول الشاعر توماس ارنيست هيولم في قصيدته (لدى المرسى) السابق ذكرها.
وأما ذكره تشبيه "المساء الذي ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح، وربما يرى: في أنامل الحبيب أقطاراً متسعة..الخ."، فيقصد به ما ورد بقصيدة إليوت الشـهيرة (أغنية العاشق جي. الفريد بروفروك) The love song of J. Alfred Profrouk والتي يقول في مطلعها:

Let us go then, you and I,
When the evening is spread out against the sky
Like a patient etherized upon a table;

هَيّا بِنَا نخرج أنا وأنت سَويّاً
حين يتمدد المَسَاءُ على السَمَاءْ
كمريضٍ مُخَدّرٍ على طاولةْ.

نجد هنا أيضا أن تي اس إليوت قد نزع عن المساء الصورة المخملية الرومانتيكية التي ترسخت عنه في الذاكرة الجمالية الجمعية المتوارثة.
وإليوت من أهم شعراء الحداثة الشعرية، الذين تأثروا بالحركة التصويرية فقد كان يعد عزرا باوند أستاذه في الشعر، ومن علامات ذلك أن إليوت وضع مخطوطة قصيدته المشهورة (الأرض الخراب) بين يدي باوند، وتركه يفعل بها ما يشاء فحذف باوند منها "عدة أجزاء وأعطاها شكلها الحالي". وعرفاناً بفضله ورعايته له وإسدائه النصح، كتب إليوت تحت عنوان القصيدة، الإهداء إلى باوند، وهو: "إلى عزرا باوند، الصانع الأمهر". غير أن إليوت بخلاف أستاذه عزرا باوند، لم يتحول بالكلية إلى قصيدة النثر وإنما زاوج بين الوزن والكتابة النثرية في أشعاره.
ويعد توماس استيرينز إليوت (1888-1965) كما هو معروف، أكثر شعراء الغرب تأثيرا على شعراء العالم في القرن العشرين وبخاصة شعراء الحداثة في العالم العربي من أمثال السيّاب والبياتي وصلاح عبد الصبور ومحمد عبد الحي وأمل دنقل وغيرهم.

المراجع والمصادر:
1- ديوان خليل فرح، تحقيق علي المك، دار جامعة الخرطوم للنشر،1977
2- معاوية محمد نور، أصدقائي الشعراء : هذا لا يؤدى، مجلة الرسالة العدد 67/68 – 15 و 22 أكتوبر سنة 1934م، نقلاً عن آثار معاوية محمد نور، جمع د. الطاهر محمد علي البشير، الدار السودانية للكتب، الطبعة الأولى 1970م، ص 257.
3- عبد المنعم عجب الفيا، معاوية نور مبتدأ الحداثة النقدية العربية، من كتاب: في الأدب السودان الحديث، دار نينوى، سوريا، 2011
4- عبد المنعم عجب الفيا، تي اس إليوت: دراسة في التأثير والتأثر، دار نينوى للنشر، سوريا 2011
5- فكتور ايربنج، الشكلانية الروسية، ترجمة الولي محمد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2000
6- عبد المنعم عجب الفيا، الشعر السوداني: من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر، مدارات ، الخرطوم، 2020
7- Tom Gunn, Ezra Pound, Faber & Faber, 2005.
8- T. S. Eliot, The Waste Land and Other Poems, Faber & Faber, London 1990
9- Penguin Dictionary of Literary terms and Ltirary Theory, 1999,

 

abusara21@gmail.com
//////////////////////////////////

 

آراء