داخل جب الردة

 


 

عمر العمر
4 February, 2023

 

على قدر قناعتي بأهمية الادبيات السياسية لدي انطباع يكاد يبلغ حد القناعة بأن صفوتنا السياسية تهدر جهدًا في وقت ضائع فيما تطلق عليه استكمال لاتفاق الإطارين . تلك قناعات كرستها تجربتنا التاريخية النافية التزام صفوتنا السياسية بأي ادبيات سياسية .فالصفوة نفسها تتكلم كثيرا عن الحوار لكنها لا تمارسه. هي تتحدث كثيرا عن الديمقراطية بينما تدير شؤونها بفردية مطلقة أو شللية في أفضل حالات العمل الجماعي. فأي الأدبيات السياسية لم ننسها عمداً مع سبق الإصرار ؟وأي المواثيق لم تهتك ديبجاتها. ليس من طبع صفوتنا الموقرة الالتزام .نخبنا لا تجيد فن الحوار كما لا تحذق مهارة إدارة الصراع. بل هناك شريحة عريضة من هذه الصفوة تجفل من الحوار جفولها عن الصراع. العسكر يخشون مغبة التفريط في السلطة. المدنيون يتهيبون استحقاقات استلامها.
*****

الصراع السياسي ظاهرة طبيعية أساسية في المجتمعات بغض النظر عن بيئتها او مكوناتها . فكما قال ماركس (ليس وعي الناس ما يعينهم على الوجود بل على النقيض فان وجودهم هو ما يعين على الوعي ) لذلك تتفاعل عناصر اقتصادية ، اجتماعية وثقافية متباينة في تفجير الصراع. ثمة صراع يتخذ مسارات إيجابية وآخر يلتبس طابع الاصطراع فيفضي إلى ردة اجتماعية . في سياق الصراع الإيجابي تتجذر مفاهيم وآليات التقدم السلمي الديمقراطي . أما في خضم الصراع السلبي فتبرز وتتسع أخاديد الكراهية، العنف في متون الانساق الاجتماعيةالعرقية والمذهبية والطبقية.لذلك تحاول النخب الاميركية حاليا ضبط نوبة انفلات مظاهر فوضوية اثارها ترامب بغية احتوائها قبل بلوغ درجة الاشتعال . كما يحرص النظام الصيني على إبقاء الصراع المكتوم هناك تحت سقف المحتمل.
*****

هو تنافس ببواعث انساقه الآنفة على السلطة، الامتيازات والثروة يتخذ المنحى السياسي غالبا .ففي حرب الفلاحين بألمانيا إبان الربع الاول من القرن السادس عشر تضافرت الجغرافية مع المذهب.اذ انقسمت ألمانيا بين الشمال البروستاتاني والجنوب الكاثوليكي . ليبيا على صفيح ساخن تحته نار برقة في الشرق وطرابلس في الغرب .النخب الإثيوبية تدرك حتمية قمع الصراع بين القوميات خاصة مع التغراي.كذلك يبذل المثقفون في سريلانكا جهودا بغية إنقاذ الجزيرة من من الغرق في بحر الصراع بين السنهال البوذيين والتاميل الهندوسيين . ذلك هو البركان الطائفي الكامن تحت الهند . كذلك يفقد العراق ،إيران وأفغانستان القدرة على النوم الهادئ او السير باطمئنان في ظل الخوف من إنفجار الصراعات المسكوت عن مخاطبتها .
*****

تناقضاتنا السودانية الراهنة فيها كل الحطب الكافي لاستعار نار الصراع السياسي. لكن ما يشعل أوار هذا الجحيم ليس فقط عجز النخب عن احتواء دوافع تلك التناقضات بل انغماسها في صب الزيت على النار. بل هم أنفسهم جنود الصراع وحصب نارها في الوقت نفسه. أسوأ عاهات هذه النخب ليس فقط عدم إدراكها جذور تلك التناقضات .بل كذلك إخفاقها في استيعاب حجم تقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية على رقعة الوطن . ذلك الإخفاق دفع قطاعا عريضا منها للانجراف داخل ظلال تلك القوى.مرد هذا السقوط يعكس كذلك غفلة فاضحة عن ادراك قيمة موارد الوطن أو تفشي وباء الفساد أو الاثنتان معاً . من أردأ مخلفات حقبة الانقاذ السوداء تشويه صورة المثقف السوداني في بعديها السياسي التنافسي والقيمي النضالي.
*****

فكأنما حركة المشهد السياسي العام أمست في حالة ارتداد مضطرد على نقيض ما يوجب إيقاع الحياة عبر العالم.فالقوى السياسية تفتقد حاليا بريق القيادات في العقود الفائتة. ربما ما كان المثقفون وقتذاك اكثر وعيًا لكنهم كانوا حتما اكثر وفاء لقناعاتهم ،وانتماءاتهم بفعل التفاعل مع الثقافة بشكل عام أو - على الأقل - الانفعال بالحراك الأدبي .ذلك الانفعال زودهم بطاقة الحماسة من اجل تحقيق أحلام الشعب وتطلعاته . تلك الحماسة لم تعد سمة تطبع الجائلين على الحلبة السياسية حاليا .لذلك استبدلت العملية السياسية الرهان على انتماء المثقفين برأس المال السياسي . مع شح روافده المحلية يهرع إلى الينابيع الخارجية. هكذا ضرب الصدأ العلاقة الحميمة بين المثقفين والجماهير. هذه الشروخ توجد داخل كتلة السلطة كما هو الحال وسط المعارضة. بالطبع نأخذ في الاعتبار تباين التعريفات المتنوعة للمثقف من فولتير إلى غرامشي.
*****

هذا التحول الباطني وسّع الفجوة بين الصفوة ( صانعي السياسة) والشعب .ابرز مظاهرها تتبدى في القطيعة البائنة بينهم وبين الإحساس الانفعالي بالمعاناة الحياتية اليومية للملايين من بنات وابناء الوطن . هناك جلبة كثيفة على الحلبة لكن العائد منها فقير على كل الجبهات. حتى الدولة في حالة قعود تتآكل هيبتها يوميًا . لدى الشعب قناعة غالبة بانشغال الصفوة في تامين امتيازاتها الخاصة على حساب المصالح العامة بل المصالح الوطنية العليا ! تلك قناعة تنداح رقعتها مع ممارسات الصفوة . رغم اتساع خيارات منابر الاعلام في خضم ثورة المعلومات والتكنولوجيا إلا ان الخطاب السياسي يعايش هزالًا في المضمون ومواتاً في الإيقاع.فالأصوات المساهمة في إثراء الوعي الجماهيري تكابد على قلتها ضغوطًا متباينة.
*****

كم هو خاسر هذا الزمن المهدر إذ لا ينصب الجدل إبانه في شأن تطوير برامج التعليم ،خطط التنمية ،تمتين البنى التحتية وتوسيع شبكات الخدمات .بل حتى الزمن المستنزف في شأن بناء الدولة المنهارة يغلب فيه الانشغال بتوزيع الغنائم والامتيازات .لذلك لا يبدو على الصفوة إدراكها الجلي بدورها في تعميق الأزمة .فما لم يتم إعلاء المصالح الوطنية على غيرها من المكاسب تظل مخاطر الاستقرار السياسي والاقتصادي آخذة في الاستفحال. رغم نضج الوعي المصاحب للزخم الجماهيري العارم إبان الثورة سريعًا ما انزلقت العملية السياسية برمتها إلى هاوية الجهل، بفعل اللجوء إلى خطاب سياسي مشبع بالعاطفة الشعري متناسيا ذلك الوعي. لكن مما عمّق الأزمة إحالة المرجعية المركزية لعملية التحول الديمقراطي إلى هيئة رئاسة اركان الجيش وقيادة جهاز الأمن !هكذا أُعيد الصراع السياسي إلى المربع الاول!
*****

في ظل هذه الردة عجزت كل أطراف الصراع لأسباب متباينة عن تشكيل سلطة تنفيذية قابضة فانفتح الأفق أمام مرابي السياسة والاقتصاد وجرائم العنف المتنوعة . ذلك الكساد بث اجواء اليأس والقنوط ازاء فرص احتمالات نهوض جديد مشابه لإنجاز الثورة. في مثل هذا الاحباط ينشط التجار ،السماسرة لعقد الصفقات من وراء ظهر الجماهير المساومة على كل شيء من اجل الفوز بكل شيء أو بأي شيء. المثقفون داخل كتلة النظام يرفضون الاعتراف بوجود هذه الردة .بل اكثر من ذلك ينكرون وجود أسباب ودوافع للصراع . هذا العمى ناجم عن النهم العارم للسلطة وحب الثروة والشغف بالامتيازات .ذلك ما يدفعهم إلى اختلاق ملهاة كوميدية عبثية في مسرح اللامعقول السياسي.

aloomar@gmail.com

 

آراء